(28) (باب ذكر البيان أن الله - عز وجل - في السماء) :
كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه - عليه السلام - ، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين ، علمائهم وجهالهم ، أحرارهم ومماليكهم ، ذكرانهم وإناثهم ، بالغيهم وأطفالهم ، كل من دعا الله - جل وعلا - : فإنما يرفع رأسه إلى السماء ، ويمد يديه إلى الله ، إلى أعلاه لا إلى أسفل .
قال قد ذكرنا استواء ربنا على العرش في الباب قبل ، فاسمعوا الآن ما أتلو عليكم من كتاب ربنا الذي هو مسطور بين الدفتين ، مقروء في المحاريب [ ص: 255 ] والكتاتيب ، مما هو مصرح في التنزيل أن الرب - جل وعلا - في السماء ، لا كما قالت الجهمية المعطلة : إنه في أسفل الأرضين . فهو في السماء عليهم لعائن الله التابعة . أبو بكر :
قال الله تعالى : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ، وقال الله تعالى : أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ، أفليس قد أعلمنا - يا ذوي الحجا - خالق السماوات والأرض ، وما بينهما في هاتين الآيتين : أنه في السماء .
وقال - عز وجل - : إليه يصعد الكلم الطيب ، والعمل الصالح يرفعه ، أفليس العلم محيطا - يا ذوي الحجا والألباب أن الرب - جل وعلا - فوق من يتكلم بالكلمة الطيبة ، فتصعد إلى الله كلمته ؟ ، لا كما زعمت المعطلة الجهمية ، أنه تهبط إلى الله الكلمة الطيبة ، كما تصعد إليه .
ألم تسمعوا - يا طلاب العلم ، - قوله تبارك وتعالى - لعيسى ابن مريم : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ؟ ، أليس إنما يرفع الشيء من أسفل إلى أعلى ، لا من أعلى إلى أسفل ؟ .
[ ص: 256 ] وقال الله - عز وجل - : بل رفعه الله إليه ، ومحال أن يهبط الإنسان من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو إلى موضع أخفض منه وأسفل ، فيقال : رفعه الله إليه ؛ لأن الرفعة في لغة العرب - الذين بلغتهم خوطبنا - لا تكون إلا من أسفل إلى أعلى وفوق .
ألم تسمعوا قول خالقنا - جل وعلا - يصف نفسه : وهو القاهر فوق عباده ، أو ليس العلم محيطا ، إن الله فوق جميع عباده ، من الجن والإنس ، والملائكة ، الذين هم سكان السماوات جميعا ؟ أو لم تسمعوا قول الخالق البارئ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة ، والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون .
فأعلمنا الجليل - جل وعلا - في هذه الآية - أيضا - أن ربنا فوق ملائكته ، وفوق ما في السماوات ، وما في الأرض ، من دابة ، أعلمنا أن ملائكته يخافون ربهم الذي فوقهم .
ألم تسمعوا قول خالقنا : والمعطلة تزعم أن معبودهم تحت الملائكة ، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ، أليس معلوما في اللغة السائرة بين العرب .
[ ص: 257 ] التي خوطبنا [بها] وبلسانهم نزل الكتاب ، أن تدبير الأمر من السماء إلى الأرض ، إنما يدبره المدبر ، وهو في السماء لا في الأرض ، كذلك مفهوم عندهم : أن المعارج : المصاعد ، قال الله (تعالى) : تعرج الملائكة والروح إليه ، وإنما يعرج الشيء من أسفل إلى أعلى وفوق ، لا من أعلى إلى دون وأسفل ، فتفهموا لغة العرب لا تغالطوا .
وقال - جل وعلا - : سبح اسم ربك الأعلى فالأعلى : مفهوم في اللغة : أنه أعلى كل شيء ، وفوق كل شيء ، والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله ووحيه ، أعلمنا أنه العلي العظيم .
أفليس العلي - يا ذوي الحجا - ما يكون عليا ، لا كما تزعم المعطلة الجهمية : أنه أعلى وأسفل ، ووسط ، ومع كل شيء ، وفي كل موضع من أرض وسماء ، وفي أجواف جميع الحيوان .
ولو تدبروا آية من كتاب الله ، ووفقهم الله لفهمها : لعقلوا أنهم جهال ، لا يفهمون ما يقولون ، وبأن لهم جهل أنفسهم ، وخطأ مقالتهم .
وقال الله تعالى - لما سأله كليمه موسى - عليه السلام - أن يريه ينظر إليه : قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ، إلى قوله : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا .
[ ص: 258 ] أفليس العلم محيطا - يا ذوي الألباب - أن الله - عز وجل - لو كان في كل موضع ، ومع كل بشر وخلق - كما زعمت المعطلة ، لكان متجليا لكل شيء ، وكذلك جميع ما في الأرض ، لو كان متجليا لجميع أرضه ، سهلها ، ووعرها ، وجبالها ، وبراريها ومفاوزها ، ومدنها وقراها ، وعمرانها وخرابها ، وجميع ما فيها من نبات وبناء ، لجعلها دكا ، كما جعل الله الجبل الذي تجلى له دكا ، قال الله تعالى : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا .