فصل
قال الموجبون للحد : معلوم أن الله سبحانه وتعالى جعل التعان الزوج بدلا عن الشهود وقائما مقامهم ، بل جعل الأزواج الملتعنين شهداء كما تقدم ، وصرح بأن لعانهم شهادة ، وأوضح ذلك بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=8ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله ) ، وهذا يدل على أن سبب العذاب الدنيوي قد وجد ، وأنه لا يدفعه عنها إلا لعانها ، والعذاب المدفوع عنها بلعانها هو المذكور في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) ، وهذا عذاب الحد قطعا ، فذكره مضافا ومعرفا بلام العهد ، فلا يجوز أن ينصرف إلى عقوبة لم تذكر في اللفظ ، ولا دل عليها بوجه ما من حبس أو غيره ، فكيف يخلى سبيلها ويدرأ عنها العذاب بغير لعان ؟ وهل هذا إلا مخالفة لظاهر القرآن ؟
قالوا : وقد جعل الله سبحانه لعان الزوج دارئا لحد القذف عنه ، وجعل لعان الزوجة دارئا لعذاب حد الزنى عنها ، فكما أن
nindex.php?page=treesubj&link=12344الزوج إذا لم يلاعن يحد حد القذف ، فكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=12347الزوجة إذا لم تلاعن يجب عليها الحد .
[ ص: 333 ]
قالوا : وأما قولكم : إن لعان الزوج لو كان بينة توجب الحد عليها لم تملك هي إسقاطه باللعان كشهادة الأجنبي .
فالجواب : أن حكم اللعان حكم مستقل بنفسه غير مردود إلى أحكام الدعاوى والبينات ، بل هو أصل قائم بنفسه شرعه الذي شرع نظيره من الأحكام ، وفصله الذي فصل الحلال والحرام ، ولما كان لعان الزوج بدلا عن الشهود لا جرم نزل عن مرتبة البينة فلم يستقل وحده بحكم البينة ، وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره ، وحينئذ فلا يظهر ترجيح أحد اللعانين على الآخر لنا ، والله يعلم أن أحدهما كاذب ، فلا وجه لحد المرأة بمجرد لعان الزوج . فإذا مكنت من معارضته وإتيانها بما يبرئ ساحتها فلم تفعل ونكلت عن ذلك عمل المقتضى عمله ، وانضاف إليه قرينة قوته وأكدته ، وهي نكول المرأة وإعراضها عما يخلصها من العذاب ويدرؤه عنها .
قالوا : وأما قولكم : إنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تحد بهذه الشهادة ، فكيف تحد بشهادته وحده ؟ فجوابه : أنها لم تحد بشهادة مجردة ، وإنما حدت بمجموع لعانه خمس مرات ونكولها عن معارضته مع قدرتها عليها ، فقام من مجموع ذلك دليل في غاية الظهور والقوة على صحة قوله ، والظن المستفاد منه أقوى بكثير من الظن المستفاد من شهادة الشهود .
وأما قولكم : إنه أحد اللعانين فلا يوجب حد الآخر كما لم يوجب لعانها حده .
فجوابه : أن لعانها إنما شرع للدفع ، لا للإيجاب كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=8ويدرأ عنها العذاب أن تشهد ) فدل النص على أن لعانه مقتض لإيجاب الحد ، ولعانها دافع ودارئ لا موجب ، فقياس أحد اللعانين على الآخر جمع بين ما فرق الله سبحانه بينهما ، وهو باطل .
قالوا : وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003459البينة على المدعي ) فسمعا وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا ريب أن لعان الزوج المذكور المكرر بينة ، وقد انضم إليه نكولها الجاري مجرى إقرارها عند قوم ، ومجرى بينة المدعين عند
[ ص: 334 ] آخرين ، وهذا من أقوى البينات .
ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003460البينة وإلا حد في ظهرك ) ولم يبطل الله سبحانه هذا ، وإنما نقله عند عجزه عن بينة منفصلة تسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها ، إلى بينة يتمكن من إقامتها ، ولما كانت دونها في الرتبة اعتبر لها مقو منفصل ، وهو نكول المرأة عن دفعها ومعارضتها مع قدرتها وتمكنها .
قالوا : وأما قولكم : إن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه ، لا إيجاب الحد عليها إلى آخره ، فإن أردتم أن من موجبه إسقاط الحد عن نفسه فحق ، وإن أردتم أن سقوط الحد عنه يسقط جميع موجبه ولا موجب له سواه فباطل قطعا ، فإن وقوع الفرقة أو وجوب التفريق والتحريم المؤبد أو المؤقت ، ونفي الولد المصرح بنفيه ، أو المكتفى في نفيه باللعان ، ووجوب العذاب على الزوجة ، إما عذاب الحد أو عذاب الحبس ، كل ذلك من موجب اللعان ، فلا يصح أن يقال : إنما يوجب سقوط حد القذف عن الزوج فقط .
قالوا : وأما قولكم : إن الصحابة جعلوا حد الزنى بأحد ثلاثة أشياء ؛ إما البينة أو الاعتراف أو الحبل ، واللعان ليس منها ، فجوابه أن منازعيكم يقولون : إن كان إيجاب الحد عليها باللعان خلافا لأقوال هؤلاء الصحابة ، فإن إسقاط الحد بالحبل أدخل في خلافهم وأظهر ، فما الذي سوغ لكم إسقاط حد أوجبوه بالحبل ، وصريح مخالفتهم ، وحرم على منازعيكم مخالفتهم في إيجاب الحد بغير هذه الثلاثة مع أنهم أعذر منكم لثلاثة أوجه .
أحدها : أنهم لم يخالفوا صريح قولهم ، وإنما هو مخالفة لمفهوم سكتوا عنه ، فهو مخالفة لسكوتهم ، وأنتم خالفتم صريح أقوالهم .
الثاني : أن غاية ما خالفوه مفهوم قد خالفه صريح عن جماعة منهم بإيجاب الحد ، فلم يخالفوا ما أجمع عليه الصحابة ، وأنتم خالفتم منطوقا لا يعلم لهم فيه مخالف البتة هاهنا ، وهو إيجاب الحد بالحبل ، فلا يحفظ عن صحابي قط مخالفة
عمر وعلي رضي الله عنهما في إيجاب الحد به .
[ ص: 335 ] الثالث : أنهم خالفوا هذا المفهوم لمنطوق تلك الأدلة التي تقدمت ، ولمفهوم قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=8ويدرأ عنها العذاب أن تشهد ) [ النور : 8 ] ، ولا ريب أن هذا المفهوم أقوى من مفهوم سقوط الحد بقولهم : إذا كانت البينة أو الحبل أو الاعتراف ، فهم تركوا مفهوما لما هو أقوى منه وأولى ، هذا لو كانوا قد خالفوا الصحابة ، فكيف وقولهم موافق لأقوال الصحابة ؟ فإن اللعان مع نكول المرأة من أقوى البينات كما تقرر .
قالوا : وأما قولكم : لم يتحقق زناها إلى آخره ، فجوابه : إن أردتم بالتحقيق اليقين المقطوع به كالمحرمات ، فهذا لا يشترط في إقامة الحد ، ولو كان هذا شرطا لما أقيم الحد بشهادة أربعة ، إذ شهادتهم لا تجعل الزنى محققا بهذا الاعتبار . وإن أردتم بعدم التحقق أنه مشكوك فيه على السواء بحيث لا يترجح ثبوته فباطل قطعا ، وإلا لما وجب عليها العذاب المدرأ بلعانها ، ولا ريب أن التحقق المستفاد من لعانه المؤكد المكرر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه ، أقوى من التحقق بأربع شهود ، ولعل لهم غرضا في قذفها وهتكها وإفسادها على زوجها ، والزوج لا غرض له في ذلك منها .
وقولكم : إنه لو تحقق فإما أن يتحقق بلعان الزوج أو بنكولها أو بهما ، فجوابه أنه تحقق بهما ، ولا يلزم من عدم استقلال أحد الأمرين بالحد وضعفه عنه عدم استقلالهما معا ، إذ هذا شأن كل مفرد لم يستقل بالحكم بنفسه ، ويستقل به مع غيره لقوته به .
وأما قولكم : عجبا
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي ! كيف لا يقضي بالنكول في درهم ويقضي به في إقامة حد بالغ الشارع في ستره واعتبر له أكمل بينة ، فهذا موضع لا ينتصر فيه
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي ولا لغيره من الأئمة ، وليس لهذا وضع كتابنا هذا ، ولا قصدنا به نصرة أحد من العالمين ، وإنما قصدنا به مجرد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وأقضيته وأحكامه ، وما تضمن سوى ذلك ، فتبع مقصود لغيره ،
[ ص: 336 ] فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض فماذا يضر ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
على أن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى لم يتناقض ، فإنه فرق بين نكول مجرد لا قوة له وبين نكول قد قارنه التعان مؤكد مكرر أقيم في حق الزوج مقام البينة ، مع شهادة الحال بكراهة الزوج لزنى امرأته وفضيحتها وخراب بيتها ، وإقامة نفسه وحبه في ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذبا بعد حلفه بالله جهد أيمانه أربع مرات إنه لمن الصادقين .
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي رحمه الله إنما حكم بنكول قد قارنه ما هذا شأنه ، فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد ؟ .
قالوا : وأما قولكم : إنها لو أقرت بالزنى ثم رجعت لسقط عنها الحد ، فكيف يجب بمجرد امتناعها من اليمين ؟ بجوابه : ما تقرر آنفا .
قالوا : وأما قولكم : إن العذاب المدرأ عنها بلعانها هو عذاب الحبس أو غيره ، فجوابه أن العذاب المذكور إما عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، وحمل الآية على عذاب الآخرة باطل قطعا ، فإن لعانها لا يدرؤه إذا وجب عليها ، وإنما هو عذاب الدنيا ، وهو الحد قطعا ، فإنه عذاب المحدود ، وهو فداء له من عذاب الآخرة ، ولهذا شرعه سبحانه طهرة وفدية من ذلك العذاب ،
[ ص: 337 ] كيف وقد صرح به في أول السورة بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) [ النور : 2 ] ثم أعاده بعينه بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=8ويدرأ عنها العذاب ) فهذا هو العذاب المشهود ، مكنها من دفعه بلعانها ، فأين هنا عذاب غيره حتى تفسر الآية به ؟ وإذا تبين هذا فهذا هو القول الصحيح الذي لا نعتقد سواه ، ولا نرتضي إلا إياه . وبالله التوفيق .
فإن قيل : فلو
nindex.php?page=treesubj&link=12344نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه فما حكم نكوله ؟
قلنا : يحد حد القذف عند جمهور العلماء من السلف والخلف ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم ، وخالف في ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة ، وقال : يحبس حتى يلاعن أو تقر الزوجة ، وهذا الخلاف مبني على أن موجب قذف الزوج لامرأته هل هو الحد كقذف الأجنبي وله إسقاطه باللعان ، أو موجبه اللعان نفسه ؟ فالأول قول الجمهور . والثاني : قول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، واحتجوا عليه بعموم قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=4والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) [ النور : 4 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم
لهلال بن أمية : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003461البينة أو حد في ظهرك ) وبقوله له : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003462عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ) وهذا قاله
لهلال بن أمية قبل شروعه في اللعان . فلو لم يجب الحد بقذفه لم يكن لهذا معنى ، وبأنه قذف حرة عفيفة يجري بينه وبينها القود فحد بقذفها كالأجنبي ، وبأنه لو
nindex.php?page=treesubj&link=12379لاعنها ثم أكذب نفسه بعد لعانها لوجب عليه الحد ، فدل على أن قذفه سبب لوجوب الحد عليه ، وله إسقاطه باللعان ، إذ لو لم يكن سببا لما وجب بإكذابه نفسه بعد اللعان ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة يقول : قذفه لها دعوى توجب أحد أمرين ؛ إما لعانه وإما إقرارها ، فإذا لم يلاعن حبس حتى يلاعن ، إلا أن تقر فيزول موجب الدعوى ، وهذا بخلاف قذف الأجنبي ، فإنه لا حق له عند المقذوفة ، فكان قاذفا محضا ، والجمهور يقولون : بل قذفه جناية منه
[ ص: 338 ] على عرضها ، فكان موجبها الحد كقذف الأجنبي ، ولما كان فيها شائبة الدعوى عليها بإتلافها لحقه وخيانتها فيه ، ملك إسقاط ما يوجبه القذف من الحد بلعانه ، فإذا لم يلاعن مع قدرته على اللعان وتمكنه منه عمل مقتضى القذف عمله واستقل بإيجاب الحد إذ لا معارض له . وبالله التوفيق .
فَصْلٌ
قَالَ الْمُوجِبُونَ لِلْحَدِّ : مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْتِعَانَ الزَّوْجِ بَدَلًا عَنِ الشُّهُودِ وَقَائِمًا مَقَامَهُمْ ، بَلْ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ الْمُلْتَعِنِينَ شُهَدَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ لِعَانَهُمْ شَهَادَةٌ ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=8وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ) ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ قَدْ وُجِدَ ، وَأَنَّهُ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهَا إِلَّا لِعَانُهَا ، وَالْعَذَابُ الْمَدْفُوعُ عَنْهَا بِلِعَانِهَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، وَهَذَا عَذَابُ الْحَدِّ قَطْعًا ، فَذَكَرَهُ مُضَافًا وَمُعَرَّفًا بِلَامِ الْعَهْدِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى عُقُوبَةٍ لَمْ تُذْكَرْ فِي اللَّفْظِ ، وَلَا دُلَّ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ مَا مِنْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يُخَلَّى سَبِيلُهَا وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ بِغَيْرِ لِعَانٍ ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؟
قَالُوا : وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعَانَ الزَّوْجِ دَارِئًا لِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ ، وَجَعَلَ لِعَانَ الزَّوْجَةِ دَارِئًا لِعَذَابِ حَدِّ الزِّنَى عَنْهَا ، فَكَمَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=12344الزَّوْجَ إِذَا لَمْ يُلَاعِنْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ ، فَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=12347الزَّوْجَةُ إِذَا لَمْ تُلَاعِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ .
[ ص: 333 ]
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ لَوْ كَانَ بَيِّنَةً تُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا لَمْ تَمْلِكْ هِيَ إِسْقَاطَهُ بِاللِّعَانِ كَشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيِّ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى أَحْكَامِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ شَرَعَهُ الَّذِي شَرَعَ نَظِيرَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَفَصَلَهُ الَّذِي فَصَلَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ ، وَلَمَّا كَانَ لِعَانُ الزَّوْجِ بَدَلًا عَنِ الشُّهُودِ لَا جَرَمَ نَزَلَ عَنْ مَرْتَبَةِ الْبَيِّنَةِ فَلَمْ يَسْتَقِلَّ وَحْدَهُ بِحُكْمِ الْبَيِّنَةِ ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ مُعَارَضَتَهُ بِلِعَانِ نَظِيرِهِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ أَحَدِ اللِّعَانَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَنَا ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ ، فَلَا وَجْهَ لِحَدِّ الْمَرْأَةِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ . فَإِذَا مُكِّنَتْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ وَإِتْيَانِهَا بِمَا يُبَرِّئُ سَاحَتَهَا فَلَمْ تَفْعَلْ وَنَكَلَتْ عَنْ ذَلِكَ عَمِلَ الْمُقْتَضَى عَمَلَهُ ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ قَرِينَةٌ قَوَّتْهُ وَأَكَّدَتْهُ ، وَهِيَ نُكُولُ الْمَرْأَةِ وَإِعْرَاضُهَا عَمَّا يُخَلِّصُهَا مِنَ الْعَذَابِ وَيَدْرَؤُهُ عَنْهَا .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا مَعَ ثَلَاثَةٍ غَيْرَهُ لَمْ تُحَدَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ، فَكَيْفَ تُحَدُّ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ ؟ فَجَوَابُهُ : أَنَّهَا لَمْ تُحَدَّ بِشَهَادَةٍ مُجَرَّدَةٍ ، وَإِنَّمَا حُدَّتْ بِمَجْمُوعِ لِعَانِهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَنُكُولِهَا عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ قُدْرَتِهَا عَلَيْهَا ، فَقَامَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْقُوَّةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ ، وَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ أَحَدُ اللِّعَانَيْنِ فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الْآخَرِ كَمَا لَمْ يُوجِبْ لِعَانُهَا حَدَّهُ .
فَجَوَابُهُ : أَنَّ لِعَانَهَا إِنَّمَا شُرِعَ لِلدَّفْعِ ، لَا لِلْإِيجَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=8وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ ) فَدَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ لِعَانَهُ مُقْتَضٍ لِإِيجَابِ الْحَدِّ ، وَلِعَانُهَا دَافِعٌ وَدَارِئٌ لَا مُوجِبٌ ، فَقِيَاسُ أَحَدِ اللِّعَانَيْنِ عَلَى الْآخَرِ جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ بَاطِلٌ .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003459الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ) فَسَمْعًا وَطَاعَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ الْمَذْكُورَ الْمُكَرَّرَ بَيِّنَةٌ ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ نُكُولُهَا الْجَارِي مَجْرَى إِقْرَارِهَا عِنْدَ قَوْمٍ ، وَمَجْرَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِينَ عِنْدَ
[ ص: 334 ] آخَرِينَ ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْبَيِّنَاتِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003460الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ) وَلَمْ يُبْطِلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ بَيِّنَةٍ مُنْفَصِلَةٍ تُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ يَعْجِزُ عَنْ إِقَامَتِهَا ، إِلَى بَيِّنَةٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَتِهَا ، وَلَمَّا كَانَتْ دُونَهَا فِي الرُّتْبَةِ اعْتُبِرَ لَهَا مُقَوٍّ مُنْفَصْلٌ ، وَهُوَ نُكُولُ الْمَرْأَةِ عَنْ دَفْعِهَا وَمُعَارَضَتِهَا مَعَ قُدْرَتِهَا وَتَمَكُّنِهَا .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّ مُوجَبَ لِعَانِهِ إِسْقَاطُ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ ، لَا إِيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهَا إِلَى آخِرِهِ ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ مِنْ مُوجَبِهِ إِسْقَاطَ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ فَحَقٌّ ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ يُسْقِطُ جَمِيعَ مُوجَبِهِ وَلَا مُوجَبَ لَهُ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ قَطْعًا ، فَإِنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ أَوْ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ وَالتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ أَوِ الْمُؤَقَّتِ ، وَنَفْيَ الْوَلَدِ الْمُصَرَّحِ بِنَفْيِهِ ، أَوِ الْمُكْتَفَى فِي نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ ، وَوُجُوبَ الْعَذَابِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، إِمَّا عَذَابِ الْحَدِّ أَوْ عَذَابِ الْحَبْسِ ، كُلَّ ذَلِكَ مِنْ مُوجَبِ اللِّعَانِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ فَقَطْ .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّ الصَّحَابَةَ جَعَلُوا حَدَّ الزِّنَى بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ؛ إِمَّا الْبَيِّنَةُ أَوِ الِاعْتِرَافُ أَوِ الْحَبَلُ ، وَاللِّعَانُ لَيْسَ مِنْهَا ، فَجَوَابُهُ أَنَّ مُنَازِعِيكُمْ يَقُولُونَ : إِنْ كَانَ إِيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِاللِّعَانِ خِلَافًا لِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّ إِسْقَاطَ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ أَدْخَلُ فِي خِلَافِهِمْ وَأَظْهَرُ ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكُمْ إِسْقَاطَ حَدٍّ أَوْجَبُوهُ بِالْحَبَلِ ، وَصَرِيحٌ مُخَالَفَتُهُمْ ، وَحَرَّمَ عَلَى مُنَازِعِيكُمْ مُخَالَفَتَهُمْ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ بِغَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّهُمْ أَعْذَرُ مِنْكُمْ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوا صَرِيحَ قَوْلِهِمْ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِمَفْهُومٍ سَكَتُوا عَنْهُ ، فَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِسُكُوتِهِمْ ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ صَرِيحَ أَقْوَالِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّ غَايَةَ مَا خَالَفُوهُ مَفْهُومٌ قَدْ خَالَفَهُ صَرِيحٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ بِإِيجَابِ الْحَدِّ ، فَلَمْ يُخَالِفُوا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ مَنْطُوقًا لَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ الْبَتَّةَ هَاهُنَا ، وَهُوَ إِيجَابُ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ ، فَلَا يُحْفَظُ عَنْ صَحَابِيٍّ قَطُّ مُخَالَفَةُ
عمر وعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي إِيجَابِ الْحَدِّ بِهِ .
[ ص: 335 ] الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ خَالَفُوا هَذَا الْمَفْهُومَ لِمَنْطُوقِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ ، وَلِمَفْهُومِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=8وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ ) [ النُّورِ : 8 ] ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ سُقُوطِ الْحَدِّ بِقَوْلِهِمْ : إِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ أَوِ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ ، فَهُمْ تَرَكُوا مَفْهُومًا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى ، هَذَا لَوْ كَانُوا قَدْ خَالَفُوا الصَّحَابَةَ ، فَكَيْفَ وَقَوْلُهُمْ مُوَافِقٌ لِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ ؟ فَإِنَّ اللِّعَانَ مَعَ نُكُولِ الْمَرْأَةِ مِنْ أَقْوَى الْبَيِّنَاتِ كَمَا تَقَرَّرَ .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : لَمْ يَتَحَقَّقْ زِنَاهَا إِلَى آخِرِهِ ، فَجَوَابُهُ : إِنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّحْقِيقِ الْيَقِينَ الْمَقْطُوعَ بِهِ كَالْمُحَرَّمَاتِ ، فَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَمَا أُقِيمَ الْحَدُّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ ، إِذْ شَهَادَتُهُمْ لَا تَجْعَلُ الزِّنَى مُحَقَّقًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِعَدَمِ التَّحَقُّقِ أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ ثُبُوتُهُ فَبَاطِلٌ قَطْعًا ، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْعَذَابُ الْمُدْرَأُ بِلِعَانِهَا ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّحَقُّقَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ لِعَانِهِ الْمُؤَكَّدِ الْمُكَرَّرِ مَعَ إِعْرَاضِهَا عَنْ مُعَارَضَةٍ مُمْكِنَةٍ مِنْهُ ، أَقْوَى مِنَ التَّحَقُّقِ بِأَرْبَعِ شُهُودٍ ، وَلَعَلَّ لَهُمْ غَرَضًا فِي قَذْفِهَا وَهَتْكِهَا وَإِفْسَادِهَا عَلَى زَوْجِهَا ، وَالزَّوْجُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا .
وَقَوْلُكُمْ : إِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ فَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ أَوْ بِنُكُولِهَا أَوْ بِهِمَا ، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ بِهِمَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْحَدِّ وَضَعْفِهِ عَنْهُ عَدَمُ اسْتِقْلَالِهِمَا مَعًا ، إِذْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مُفْرَدٍ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالْحُكْمِ بِنَفْسِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ لِقُوَّتِهِ بِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : عَجَبًا
nindex.php?page=showalam&ids=13790لِلشَّافِعِيِّ ! كَيْفَ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ فِي دِرْهَمٍ وَيَقْضِي بِهِ فِي إِقَامَةِ حَدٍّ بَالَغَ الشَّارِعُ فِي سَتْرِهِ وَاعْتَبَرَ لَهُ أَكْمَلَ بَيِّنَةٍ ، فَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يُنْتَصَرُ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790لِلشَّافِعِيِّ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، وَلَيْسَ لِهَذَا وُضِعَ كِتَابُنَا هَذَا ، وَلَا قَصَدْنَا بِهِ نُصْرَةَ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بِهِ مُجَرَّدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِيرَتِهِ وَأَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ ، وَمَا تَضَمَّنَ سِوَى ذَلِكَ ، فَتَبَعٌ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ ،
[ ص: 336 ] فَهَبْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْضِ بِالنُّكُولِ تَنَاقَضَ فَمَاذَا يَضُرُّ ذَلِكَ هَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَنَاقَضْ ، فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ نُكُولٍ مُجَرَّدٍ لَا قُوَّةَ لَهُ وَبَيْنَ نُكُولٍ قَدْ قَارَنَهُ الْتِعَانٌ مُؤَكَّدٌ مُكَرَّرٌ أُقِيمَ فِي حَقِّ الزَّوْجِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ ، مَعَ شَهَادَةِ الْحَالِ بِكَرَاهَةِ الزَّوْجِ لِزِنَى امْرَأَتِهِ وَفَضِيحَتِهَا وَخَرَابِ بَيْتِهَا ، وَإِقَامَةِ نَفْسِهِ وَحُبِّهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ الْعَظِيمِ بِمَشْهَدِ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّعْنَةِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا بَعْدَ حَلِفِهِ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا حَكَمَ بِنُكُولٍ قَدْ قَارَنَهُ مَا هَذَا شَأْنُهُ ، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِنُكُولٍ مُجَرَّدٍ ؟ .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بالزِّنَى ثُمَّ رَجَعَتْ لَسَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ ، فَكَيْفَ يَجِبُ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهَا مِنَ الْيَمِينِ ؟ بِجَوَابِهِ : مَا تَقَرَّرَ آنِفًا .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّ الْعَذَابَ الْمُدْرَأَ عَنْهَا بِلِعَانِهَا هُوَ عَذَابُ الْحَبْسِ أَوْ غَيْرُهُ ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ إِمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ بَاطِلٌ قَطْعًا ، فَإِنَّ لِعَانَهَا لَا يَدْرَؤُهُ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا ، وَهُوَ الْحَدُّ قَطْعًا ، فَإِنَّهُ عَذَابُ الْمَحْدُودِ ، وَهُوَ فِدَاءٌ لَهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَلِهَذَا شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ طُهْرَةً وَفِدْيَةً مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ ،
[ ص: 337 ] كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ النُّورِ : 2 ] ثُمَّ أَعَادَهُ بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=8وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ) فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الْمَشْهُودُ ، مَكَّنَهَا مِنْ دَفْعِهِ بِلِعَانِهَا ، فَأَيْنَ هُنَا عَذَابُ غَيْرِهِ حَتَّى تُفَسَّرَ الْآيَةُ بِهِ ؟ وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا نَعْتَقِدُ سِوَاهُ ، وَلَا نَرْتَضِي إِلَّا إِيَّاهُ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=12344نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ بَعْدَ قَذْفِهِ فَمَا حُكْمُ نُكُولِهِ ؟
قُلْنَا : يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ومالك وأحمد وَأَصْحَابِهِمْ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة ، وَقَالَ : يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ الزَّوْجَةُ ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ هَلْ هُوَ الْحَدُّ كَقَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ، أَوْ مُوجَبُهُ اللِّعَانُ نَفْسُهُ ؟ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَالثَّانِي : قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=4وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) [ النُّورِ : 4 ] وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لهلال بن أمية : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003461الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ) وَبُقُولِهِ لَهُ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16003462عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ) وَهَذَا قَالَهُ
لهلال بن أمية قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي اللِّعَانِ . فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا مَعْنًى ، وَبِأَنَّهُ قَذَفَ حُرَّةً عَفِيفَةً يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَوَدُ فَحُدَّ بِقَذْفِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَبِأَنَّهُ لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=12379لَاعَنَهَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ لِعَانِهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَذْفَهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمَا وَجَبَ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة يَقُولُ : قَذْفُهُ لَهَا دَعْوَى تُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ ؛ إِمَّا لِعَانُهُ وَإِمَّا إِقْرَارُهَا ، فَإِذَا لَمْ يُلَاعِنْ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ ، إِلَّا أَنْ تُقِرَّ فَيَزُولَ مُوجَبُ الدَّعْوَى ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عِنْدَ الْمَقْذُوفَةِ ، فَكَانَ قَاذِفًا مَحْضًا ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : بَلْ قَذْفُهُ جِنَايَةٌ مِنْهُ
[ ص: 338 ] عَلَى عِرْضِهَا ، فَكَانَ مُوجَبُهَا الْحَدُّ كَقَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَلَمَّا كَانَ فِيهَا شَائِبَةُ الدَّعْوَى عَلَيْهَا بِإِتْلَافِهَا لِحَقِّهِ وَخِيَانَتِهَا فِيهِ ، مَلَكَ إِسْقَاطَ مَا يُوجِبُهُ الْقَذْفُ مِنَ الْحَدَّ بِلِعَانِهِ ، فَإِذَا لَمْ يُلَاعِنْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اللِّعَانِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ عَمِلَ مُقْتَضَى الْقَذْفِ عَمَلَهُ وَاسْتَقَلَّ بِإِيجَابِ الْحَدِّ إِذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ . وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .