[ ص: 35 ] بسم الله الرحمن الرحيم
حسبي الله ونعم الوكيل
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله إله الأولين والآخرين ، وقيوم السماوات والأرضين ومالك يوم الدين الذي لا فوز إلا في طاعته ، ولا عز إلا في التذلل لعظمته ، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته ، ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره ، ولا حياة إلا في رضاه ، ولا نعيم إلا في قربه ، ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه ، الذي إذا أطيع شكر ، وإذا عصي تاب وغفر ، وإذا دعي أجاب ، وإذا عومل أثاب .
والحمد لله الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته ، وأقرت له بالإلهية جميع مصنوعاته ، وشهدت بأنه الله الذي لا إله إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته ، وبدائع آياته ، وسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته . ولا إله إلا الله وحده ، لا شريك له في إلهيته ، كما لا شريك له في ربوبيته ، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته ، والله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، وسبحان من سبحت له السماوات وأملاكها ، والنجوم وأفلاكها ، والأرض وسكانها ، والبحار وحيتانها ، والنجوم والجبال والشجر والدواب والآكام والرمال ، وكل رطب ويابس
[ ص: 36 ] ، وكل حي وميت (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) [ الإسراء : 44 ] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة قامت بها الأرض والسماوات ، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات ، وبها أرسل الله تعالى رسله ، وأنزل كتبه ، وشرع شرائعه ، ولأجلها نصبت الموازين ، ووضعت الدواوين ، وقام سوق الجنة والنار ، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار والأبرار والفجار ، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب ، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة ، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب ، وعليها يقع الثواب والعقاب ، وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ، وهي حق الله على جميع العباد ، فهي كلمة الإسلام ، ومفتاح دار السلام ، وعنها يسأل الأولون والآخرون ، فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ .
فجواب الأولى بتحقيق " لا إله إلا الله " معرفة وإقرارا وعملا .
وجواب الثانية بتحقيق " أن
محمدا رسول الله " معرفة وإقرارا وانقيادا وطاعة .
وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، وسفيره بينه وبين عباده ، المبعوث بالدين القويم والمنهج المستقيم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماما للمتقين ، وحجة على الخلائق أجمعين . أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل ، وافترض على العباد طاعته وتعزيره وتوقيره ومحبته والقيام بحقوقه ، وسد دون جنته الطرق ، فلن
[ ص: 37 ] تفتح لأحد إلا من طريقه ، فشرح له صدره ، ورفع له ذكره ، ووضع عنه وزره ، وجعل
nindex.php?page=treesubj&link=28750الذلة والصغار على من خالف أمره . ففي " المسند " من حديث
أبي منيب الجرشي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000002بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) وكما أن الذلة مضروبة على من خالف أمره ، فالعزة لأهل طاعته ومتابعته ، قال الله سبحانه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=139ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) [ آل عمران : 139 ] . وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=8ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [ المنافقون : 8 ] . وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=35فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ) [ محمد : 35 ] . وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=64ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ الأنفال : 64 ] . أي : الله وحده كافيك ، وكافي أتباعك ، فلا تحتاجون معه إلى أحد .
وهنا تقديران ، أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لـ" من " على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار ، وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية .
والثاني : أن تكون الواو واو " مع " وتكون " من " في محل نصب عطفا على الموضع ، فإن " حسبك " في معنى " كافيك " أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب : حسبك وزيدا درهم ، قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
[ ص: 38 ] وهذا أصح التقديرين .
وفيها تقدير ثالث : أن تكون " من " في موضع رفع بالابتداء ، أي : ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله .
وفيها تقدير رابع ، وهو خطأ من جهة المعنى : وهو أن تكون " من " في موضع رفع عطفا على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك ، وهذا وإن قاله بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن "
nindex.php?page=treesubj&link=19886_28679_19650الحسب " و" الكفاية " لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) [ الأنفال : 62 ] . ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده ، وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) [ آل عمران : 173 ] . ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ، ومدح الرب تعالى لهم بذلك ، فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه ، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله ؟! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ، ونظير هذا قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=59ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) [ التوبة : 59 ] . فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تعالى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وما آتاكم الرسول فخذوه ) [ الحشر : 7 ] . وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا : حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=59إنا إلى الله راغبون ) [ التوبة : 59 ] . ولم يقل : وإلى رسوله ، بل جعل الرغبة إليه وحده ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=94&ayano=7فإذا فرغت فانصب nindex.php?page=tafseer&surano=94&ayano=8وإلى ربك فارغب ) [ الانشراح : 7 - 8 ] . فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده ، كما أن
nindex.php?page=treesubj&link=19696_28678العبادة والتقوى والسجود لله وحده ،
nindex.php?page=treesubj&link=28678_28687_4180_10043والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه [ ص: 39 ] وتعالى . ونظير هذا قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=36أليس الله بكاف عبده ) [ الزمر : 36 ] . فالحسب : هو الكافي ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده ، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟! والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر هاهنا .
والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة ، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة ، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته ، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة ، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة . وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأن (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000003لا يؤمن أحدكم حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) وأقسم الله سبحانه بأن لا يؤمن من لا يحكمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به ، ثم يسلم له تسليما وينقاد له انقيادا . وقال تعالى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=36وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )
[ ص: 40 ] ( [ الأحزاب : 36 ] . فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله ، فليس لمؤمن أن يختار شيئا بعد أمره صلى الله عليه وسلم ، بل إذا أمر فأمره حتم ، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته ، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع ، لا واجب الاتباع ، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه ، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه ، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصيا لله ورسوله . فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله ؟ فلا حكم لأحد معه ، ولا قول لأحد معه ، كما لا تشريع لأحد معه ، وكل من سواه ، فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به ، ونهى عما نهى عنه ، فكان مبلغا محضا ومخبرا لا منشئا ومؤسسا ، فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها ، ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول ، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة قبلت حينئذ ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها ، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة ، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه ، وأما أنه يجب ويتعين فكلا ولما.
وبعد ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29687_29723الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات ، قال الله تعالى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68وربك يخلق ما يشاء ويختار ) [ القصص : 68 ] . وليس المراد هاهنا بالاختيار الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار - وهو سبحانه - كذلك ، ولكن ليس المراد بالاختيار هاهنا هذا المعنى ، وهذا الاختيار داخل في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68يخلق ما يشاء ) فإنه لا يخلق إلا باختياره ، وداخل في قوله تعالى : ( ما يشاء ) فإن المشيئة هي الاختيار ، وإنما المراد بالاختيار هاهنا : الاجتباء والاصطفاء ، فهو اختيار بعد الخلق ، والاختيار العام اختيار قبل الخلق ، فهو أعم وأسبق ، وهذا أخص ، وهو متأخر ، فهو اختيار من الخلق ، والأول اختيار للخلق . وأصح القولين أن الوقف التام على قوله : ( ويختار ) .
[ ص: 41 ] ويكون (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68ما كان لهم الخيرة ) نفيا ، أي : ليس هذا الاختيار إليهم ، بل هو إلى الخالق وحده ، فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه ، فليس لأحد أن يخلق ولا أن يختار سواه ، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ، ومحال رضاه ، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له ، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه .
وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل إلى أن " ما " في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68ما كان لهم الخيرة ) موصولة ، وهي مفعول " ويختار " أي : ويختار الذي لهم الخيرة ، وهذا باطل من وجوه .
أحدها : أن الصلة حينئذ تخلو من العائد ؛ لأن " الخيرة " مرفوع بأنه اسم " كان " والخبر " لهم " ، فيصير المعنى : ويختار الأمر الذي كان الخيرة لهم ، وهذا التركيب محال من القول .
فإن قيل : يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفا ، ويكون التقدير : ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه ، أي ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره .
قيل : هذا يفسد من وجه آخر ، وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد ، فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله مع اتحاد المعنى ، نحو قوله تعالى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=33يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) [ المؤمنون : 33 ] ونظائره ، ولا يجوز أن يقال : جاءني الذي مررت ، ورأيت الذي رغبت ، ونحوه .
الثاني : أنه لو أريد هذا المعنى لنصب " الخيرة " وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول ، فكأنه يقول : ويختار ما كان لهم الخيرة ، أي : الذي كان هو عين الخيرة لهم ، وهذا لم يقرأ به أحد البتة ، مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير .
الثالث : أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار ، وإرادتهم
[ ص: 42 ] أن تكون الخيرة لهم ، ثم ينفي هذا سبحانه عنهم ، ويبين تفرده هو بالاختيار ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=31وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=32أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ) [ الزخرف : 31 - 32 ] ، فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه ، وأخبر أن ذلك ليس إليهم ، بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم ، وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار ، ومن يصلح له ممن لا يصلح ، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات ، وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل ، فهو القاسم ذلك وحده لا غيره ، وهكذا هذه الآية بين فيها انفراده بالخلق والاختيار ، وأنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ، كما قال تعالى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] ، أي : الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره .
الرابع : أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ) [ القصص : 68 ] ولم يكن شركهم مقتضيا لإثبات خالق سواه حتى نزه نفسه عنه ، فتأمله فإنه في غاية اللطف .
الخامس : أن هذا نظير قوله تعالى في [ الحج : 73 - 76 ] : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=74ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=75الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=76يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور ) وهذا نظير قوله في [ القصص : 69 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=69وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) ونظير قوله في [ الأنعام : 124 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124الله أعلم حيث يجعل رسالته ) فأخبر في ذلك كله عن علمه
[ ص: 43 ] المتضمن لتخصيصه محال اختياره بما خصصها به ، لعلمه بأنها تصلح له دون غيرها ، فتدبر السياق في هذه الآيات تجده متضمنا لهذا المعنى ، زائدا عليه ، والله أعلم .
السادس : أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=65ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=66فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=67فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68وربك يخلق ما يشاء ويختار ) [ القصص : 65 - 68 ] فكما خلقهم وحده سبحانه ، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا ، فكانوا صفوته من عباده ، وخيرته من خلقه ، وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه سبحانه لمن هو أهل له ، لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم ، فسبحان الله وتعالى عما يشركون .
[ ص: 35 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ الَّذِي لَا فَوْزَ إِلَّا فِي طَاعَتِهِ ، وَلَا عِزَّ إِلَّا فِي التَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِهِ ، وَلَا غِنًى إِلَّا فِي الِافْتِقَارِ إِلَى رَحْمَتِهِ ، وَلَا هُدًى إِلَّا فِي الِاسْتِهْدَاءِ بِنُورِهِ ، وَلَا حَيَاةَ إِلَّا فِي رِضَاهُ ، وَلَا نَعِيمَ إِلَّا فِي قُرْبِهِ ، وَلَا صَلَاحَ لِلْقَلْبِ وَلَا فَلَاحَ إِلَّا فِي الْإِخْلَاصِ لَهُ وَتَوْحِيدِ حُبِّهِ ، الَّذِي إِذَا أُطِيعَ شَكَرَ ، وَإِذَا عُصِيَ تَابَ وَغَفَرَ ، وَإِذَا دُعِيَ أَجَابَ ، وَإِذَا عُومِلَ أَثَابَ .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ جَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَأَقَرَّتْ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ جَمِيعُ مَصْنُوعَاتِهِ ، وَشَهِدَتْ بِأَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِمَا أَوْدَعَهَا مِنْ عَجَائِبِ صَنْعَتِهِ ، وَبَدَائِعِ آيَاتِهِ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ . وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ ، كَمَا لَا شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ ، وَلَا شَبِيهَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ، وَسُبْحَانَ مَنْ سَبَّحَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَأَمْلَاكُهَا ، وَالنُّجُومُ وَأَفْلَاكُهَا ، وَالْأَرْضُ وَسُكَّانُهَا ، وَالْبِحَارُ وَحِيتَانُهَا ، وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَالْآكَامُ وَالرِّمَالُ ، وَكُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ
[ ص: 36 ] ، وَكُلُّ حَيٍّ وَمَيِّتٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 44 ] .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، كَلِمَةٌ قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ ، وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَبِهَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَهُ ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ ، وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ ، وَلِأَجْلِهَا نُصِبَتِ الْمَوَازِينُ ، وَوُضِعَتِ الدَّوَاوِينُ ، وَقَامَ سُوقُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَبِهَا انْقَسَمَتِ الْخَلِيقَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ ، فَهِيَ مَنْشَأُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ لَهُ الْخَلِيقَةُ ، وَعَنْهَا وَعَنْ حُقُوقِهَا السُّؤَالُ وَالْحِسَابُ ، وَعَلَيْهَا يَقَعُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ، وَعَلَيْهَا نُصِبَتِ الْقِبْلَةُ ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ ، وَلِأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ ، وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ ، فَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ ، وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ ، وَعَنْهَا يُسْأَلُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ ، فَلَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ : مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ؟ .
فَجَوَابُ الْأُولَى بِتَحْقِيقِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " مَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا وَعَمَلًا .
وَجَوَابُ الثَّانِيَةِ بِتَحْقِيقِ " أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " مَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا وَانْقِيَادًا وَطَاعَةً .
وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَسَفِيرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ ، الْمَبْعُوثُ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ وَالْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَإِمَامًا لِلْمُتَّقِينَ ، وَحُجَّةً عَلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ . أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ فَهَدَى بِهِ إِلَى أَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِ السُّبُلِ ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ وَتَوْقِيرَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ ، وَسَدَّ دُونَ جَنَّتِهِ الطُّرُقَ ، فَلَنْ
[ ص: 37 ] تُفْتَحَ لِأَحَدٍ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ ، فَشَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ ، وَجَعَلَ
nindex.php?page=treesubj&link=28750الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ . فَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ
أبي منيب الجرشي ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000002بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ) وَكَمَا أَنَّ الذِّلَّةَ مَضْرُوبَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ ، فَالْعِزَّةُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=139وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 139 ] . وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=8وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [ الْمُنَافِقُونَ : 8 ] . وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=35فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ) [ مُحَمَّدٍ : 35 ] . وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=64يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ الْأَنْفَالِ : 64 ] . أَيِ : اللَّهُ وَحْدَهُ كَافِيكَ ، وَكَافِي أَتْبَاعَكَ ، فَلَا تَحْتَاجُونَ مَعَهُ إِلَى أَحَدٍ .
وَهُنَا تَقْدِيرَانِ ، أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً لِـ" مَنْ " عَلَى الْكَافِ الْمَجْرُورَةِ ، وَيَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ ، وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ وَشُبَهُ الْمَنْعِ مِنْهُ وَاهِيَةٌ .
وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ " مَعَ " وَتَكُونَ " مَنْ " فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ ، فَإِنَّ " حَسْبَكَ " فِي مَعْنَى " كَافِيكَ " أَيِ اللَّهُ يَكْفِيكَ وَيَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : حَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
[ ص: 38 ] وَهَذَا أَصَحُّ التَّقْدِيرَيْنِ .
وَفِيهَا تَقْدِيرٌ ثَالِثٌ : أَنْ تَكُونَ " مَنْ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ ، أَيْ : وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَحَسْبُهُمُ اللَّهُ .
وَفِيهَا تَقْدِيرٌ رَابِعٌ ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى : وَهُوَ أَنْ تَكُونَ " مَنْ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى : حَسْبُكَ اللَّهُ وَأَتْبَاعُكَ ، وَهَذَا وَإِنْ قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ "
nindex.php?page=treesubj&link=19886_28679_19650الْحَسْبَ " وَ" الْكِفَايَةَ " لِلَّهِ وَحْدَهُ ، كَالتَّوَكُّلِ وَالتَّقْوَى وَالْعِبَادَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=62وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) [ الْأَنْفَالِ : 62 ] . فَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتَّأْيِيدِ ، فَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ ، وَجَعَلَ التَّأْيِيدَ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِعِبَادِهِ ، وَأَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ مِنْ عِبَادِهِ حَيْثُ أَفْرَدُوهُ بِالْحَسْبِ ، فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 173 ] . وَلَمْ يَقُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ ، وَمَدَحَ الرَّبُّ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ ، فَكَيْفَ يَقُولُ لِرَسُولِهِ : اللَّهُ وَأَتْبَاعُكَ حَسْبُكَ ، وَأَتْبَاعُهُ قَدْ أَفْرَدُوا الرَّبَّ تَعَالَى بِالْحَسْبِ ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِهِ فِيهِ ، فَكَيْفَ يُشْرِكُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي حَسْبِ رَسُولِهِ ؟! هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ وَأَبْطَلِ الْبَاطِلِ ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=59وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ) [ التَّوْبَةِ : 59 ] . فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) [ الْحَشْرِ : 7 ] . وَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ ، فَلَمْ يَقُلْ : وَقَالُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، بَلْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقِّهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=59إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ) [ التَّوْبَةِ : 59 ] . وَلَمْ يَقُلْ : وَإِلَى رَسُولِهِ ، بَلْ جَعَلَ الرَّغْبَةَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=94&ayano=7فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ nindex.php?page=tafseer&surano=94&ayano=8وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) [ الِانْشِرَاحِ : 7 - 8 ] . فَالرَّغْبَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالْإِنَابَةُ وَالْحَسْبُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، كَمَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19696_28678الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى وَالسُّجُودَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28678_28687_4180_10043وَالنَّذْرُ وَالْحَلِفُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ [ ص: 39 ] وَتَعَالَى . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=36أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) [ الزُّمَرِ : 36 ] . فَالْحَسْبُ : هُوَ الْكَافِي ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ أَتْبَاعَهُ مَعَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْكِفَايَةِ ؟! وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هَاهُنَا .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ بِحَسَبِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ تَكُونُ الْعِزَّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ ، كَمَا أَنَّ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ تَكُونُ الْهِدَايَةُ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاةُ ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ بِمُتَابَعَتِهِ ، وَجَعَلَ شَقَاوَةَ الدَّارَيْنِ فِي مُخَالَفَتِهِ ، فَلِأَتْبَاعِهِ الْهُدَى وَالْأَمْنُ وَالْفَلَاحُ وَالْعِزَّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ وَالْوِلَايَةُ وَالتَّأْيِيدُ وَطِيبُ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَلِمُخَالِفِيهِ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ وَالْخَوْفُ وَالضَّلَالُ وَالْخِذْلَانُ وَالشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَقَدْ أَقْسَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000003لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وَأَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ مَنْ لَا يُحَكِّمَهُ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ ، ثُمَّ يَرْضَى بِحُكْمِهِ ، وَلَا يَجِدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا حَكَمَ بِهِ ، ثُمَّ يُسَلِّمَ لَهُ تَسْلِيمًا وَيَنْقَادَ لَهُ انْقِيَادًا . وَقَالَ تَعَالَى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=36وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )
[ ص: 40 ] ( [ الْأَحْزَابِ : 36 ] . فَقَطَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّخْيِيرَ بَعْدَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ ، فَلَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَخْتَارَ شَيْئًا بَعْدَ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ إِذَا أَمَرَ فَأَمْرُهُ حَتْمٌ ، وَإِنَّمَا الْخِيَرَةُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ إِذَا خَفِيَ أَمْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَبِسُنَّتِهِ ، فَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ سَائِغَ الِاتِّبَاعِ ، لَا وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ اتِّبَاعُ قَوْلِ أَحَدٍ سِوَاهُ ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ اتِّبَاعُهُ ، وَلَوْ تَرَكَ الْأَخْذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ اتِّبَاعُهُ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ كُلِّ قَوْلٍ لِقَوْلِهِ ؟ فَلَا حُكْمَ لِأَحَدٍ مَعَهُ ، وَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَهُ ، كَمَا لَا تَشْرِيعَ لِأَحَدٍ مَعَهُ ، وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ ، فَإِنَّمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى قَوْلِهِ إِذَا أَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ ، وَنَهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ ، فَكَانَ مُبَلِّغًا مَحْضًا وَمُخْبِرًا لَا مُنْشِئًا وَمُؤَسِّسًا ، فَمَنْ أَنْشَأَ أَقْوَالًا وَأَسَّسَ قَوَاعِدَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَتَأْوِيلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأُمَّةِ اتِّبَاعُهَا ، وَلَا التَّحَاكُمُ إِلَيْهَا حَتَّى تُعْرَضَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، فَإِنْ طَابَقَتْهُ وَوَافَقَتْهُ وَشُهِدَ لَهَا بِالصِّحَّةِ قُبِلَتْ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ وَجَبَ رَدُّهَا وَاطِّرَاحُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جُعِلَتْ مَوْقُوفَةً ، وَكَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ يَجُوزَ الْحُكْمُ وَالْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَرْكُهُ ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ وَيَتَعَيَّنُ فَكَلَّا وَلَمَّا.
وَبَعْدُ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29687_29723اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) [ الْقَصَصِ : 68 ] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِالِاخْتِيَارِ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ - وَهُوَ سُبْحَانَهُ - كَذَلِكَ ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ هَاهُنَا هَذَا الْمَعْنَى ، وَهَذَا الِاخْتِيَارُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ ، وَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( مَا يَشَاءُ ) فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ هِيَ الِاخْتِيَارُ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ هَاهُنَا : الِاجْتِبَاءُ وَالِاصْطِفَاءُ ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ بَعْدَ الْخَلْقِ ، وَالِاخْتِيَارُ الْعَامُّ اخْتِيَارٌ قَبْلَ الْخَلْقِ ، فَهُوَ أَعَمُّ وَأَسْبَقُ ، وَهَذَا أَخَصُّ ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ ، فَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنَ الْخَلْقِ ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارٌ لِلْخَلْقِ . وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ عَلَى قَوْلِهِ : ( وَيَخْتَارُ ) .
[ ص: 41 ] وَيَكُونُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) نَفْيًا ، أَيْ : لَيْسَ هَذَا الِاخْتِيَارُ إِلَيْهِمْ ، بَلْ هُوَ إِلَى الْخَالِقِ وَحْدَهُ ، فَكَمَا أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ فَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالِاخْتِيَارِ مِنْهُ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْلُقَ وَلَا أَنْ يَخْتَارَ سِوَاهُ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ اخْتِيَارِهِ ، وَمَحَالِّ رِضَاهُ ، وَمَا يَصْلُحُ لِلِاخْتِيَارِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ لَهُ ، وَغَيْرُهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ .
وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ وَلَا تَحْصِيلَ إِلَى أَنَّ " مَا " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) مَوْصُولَةٌ ، وَهِيَ مَفْعُولٌ " وَيَخْتَارُ " أَيْ : وَيَخْتَارُ الَّذِي لَهُمُ الْخِيَرَةُ ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّ الصِّلَةَ حِينَئِذٍ تَخْلُو مِنَ الْعَائِدِ ؛ لِأَنَّ " الْخِيرَةَ " مَرْفُوعٌ بِأَنَّهُ اسْمُ " كَانَ " وَالْخَبَرُ " لَهُمْ " ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى : وَيَخْتَارُ الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ الْخِيَرَةَ لَهُمْ ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مُحَالٌ مِنَ الْقَوْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَائِدُ مَحْذُوفًا ، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ : وَيَخْتَارُ الَّذِي كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِيهِ ، أَيْ وَيَخْتَارُ الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِي اخْتِيَارِهِ .
قِيلَ : هَذَا يَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا حَذْفُ الْعَائِدِ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُحْذَفُ مَجْرُورًا إِذَا جُرَّ بِحَرْفٍ جُرَّ الْمَوْصُولُ بِمِثْلِهِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=33يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) [ الْمُؤْمِنُونَ : 33 ] وَنَظَائِرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : جَاءَنِي الَّذِي مَرَرْتُ ، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَغِبْتُ ، وَنَحْوُهُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَنَصَبَ " الْخِيَرَةَ " وَشُغِلَ فِعْلُ الصِّلَةِ بِضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةَ ، أَيِ : الَّذِي كَانَ هُوَ عَيْنَ الْخِيَرَةِ لَهُمْ ، وَهَذَا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ الْبَتَّةَ ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَحْكِي عَنِ الْكُفَّارِ اقْتِرَاحَهُمْ فِي الِاخْتِيَارِ ، وَإِرَادَتَهُمْ
[ ص: 42 ] أَنْ تَكُونَ الْخِيَرَةُ لَهُمْ ، ثُمَّ يَنْفِي هَذَا سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ ، وَيُبَيِّنُ تَفَرُّدَهُ هُوَ بِالِاخْتِيَارِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=31وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=32أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) [ الزُّخْرُفِ : 31 - 32 ] ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ تَخَيُّرَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْهِمْ ، بَلْ إِلَى الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمُ الْمُتَضَمِّنَةَ لِأَرْزَاقِهِمْ وَمُدَدِ آجَالِهِمْ ، وَكَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْسِمُ فَضْلَهُ بَيْنَ أَهْلِ الْفَضْلِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَوَاقِعِ الِاخْتِيَارِ ، وَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ ، وَهُوَ الَّذِي رَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ، وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَدَرَجَاتِ التَّفْضِيلِ ، فَهُوَ الْقَاسِمُ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا غَيْرُهُ ، وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَ فِيهَا انْفِرَادَهُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ اخْتِيَارِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) [ الْأَنْعَامِ : 124 ] ، أَيِ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِاصْطِفَائِهِ وَكَرَامَتِهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ دُونَ غَيْرِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا اقْتَضَاهُ شِرْكُهُمْ مِنَ اقْتِرَاحِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ الْقَصَصِ : 68 ] وَلَمْ يَكُنْ شِرْكُهُمْ مُقْتَضِيًا لِإِثْبَاتِ خَالِقٍ سِوَاهُ حَتَّى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [ الْحَجِّ : 73 - 76 ] : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=74مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=75اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=76يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي [ الْقَصَصِ : 69 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=69وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ) وَنَظِيرُ قَوْلِهِ فِي [ الْأَنْعَامِ : 124 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) فَأَخْبَرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَنْ عِلْمِهِ
[ ص: 43 ] الْمُتَضَمِّنِ لِتَخْصِيصِهِ مَحَالَّ اخْتِيَارِهِ بِمَا خَصَّصَهَا بِهِ ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا تَصْلُحُ لَهُ دُونَ غَيْرِهَا ، فَتَدَبَّرِ السِّيَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَجِدْهُ مُتَضَمِّنًا لِهَذَا الْمَعْنَى ، زَائِدًا عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
السَّادِسُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عُقَيْبَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=65وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=66فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=67فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=68وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) [ الْقَصَصِ : 65 - 68 ] فَكَمَا خَلَقَهُمْ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ ، اخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ، فَكَانُوا صَفْوَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَخِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَكَانَ هَذَا الِاخْتِيَارُ رَاجِعًا إِلَى حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ ، لَا إِلَى اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَاقْتِرَاحِهِمْ ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ .