فصل
في هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155nindex.php?page=treesubj&link=19572وبشر الصابرين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=157أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) [ البقرة : 155 ] . وفي " المسند " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002696ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ، إلا أجاره الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها ) .
وهذه الكلمة من
nindex.php?page=treesubj&link=24434أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته ، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته .
أحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية ، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير ، وأيضا فإنه محفوف بعدمين : عدم قبله وعدم بعده ، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير ، وأيضا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه ، حتى يكون ملكه حقيقة ، ولا هو
[ ص: 174 ] الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ، ولا يبقي عليه وجوده ، فليس له فيه تأثير ، ولا ملك حقيقي ، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي لا تصرف الملاك ، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي .
والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ، ويجيء ربه فردا كما خلقه أول مرة : بلا أهل ، ولا مال ، ولا عشيرة ، ولكن بالحسنات ، والسيئات ، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود ، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) [ الحديد : 22 ] .
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله ، أو أفضل منه ، وادخر له - إن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي .
ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة ؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى ، إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأن شرور الدنيا أحلام نوم ، أو كظل زائل ، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا ، وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا ،
[ ص: 175 ] منعت طويلا ، وما ملأت دارا خيرة إلا ملأتها عبرة ، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود - رضي الله عنه - : " لكل فرحة ترحة ، وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا " وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين : " ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء " .
وقالت
هند بنت النعمان : لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ، ونحن أقل الناس وأنه حق على الله ألا يملأ دارا خيرة إلا ملأها عبرة .
وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت : " أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا " .
وبكت أختها
حرقة بنت النعمان يوما ، وهي في عزها فقيل لها : ما يبكيك لعل أحدا آذاك ؟ قالت : لا ولكن رأيت غضارة في أهلي ، وقلما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12422إسحاق بن طلحة : دخلت عليها يوما فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك ؟ فقالت : ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه الأمس ، إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة ، وأن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ثم قالت :
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا وتصرف
[ ص: 176 ] ومن علاجها أن يعلم أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها ، وهو في الحقيقة من تزايد المرض .
ومن علاجها أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر ، والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة .
ومن علاجها أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه ، وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئا وأرضى ربه وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزاهم هو قبل أن يعزوه ، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء بالويل ، والثبور ، والسخط على المقدور .
ومن علاجها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه ، واسترجاعه فلينظر : أي المصيبتين أعظم ؟ : مصيبة العاجلة ، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي مرفوعا : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002697nindex.php?page=treesubj&link=19572يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء ) .
وقال : بعض السلف لولا مصائب الدنيا لوردنا القيام مفاليس .
ومن علاجها : أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله ، فإنه من كل شيء عوض إلا الله ، فما منه عوض كما قيل :
[ ص: 177 ] من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض
ومن علاجها : أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له ، فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط ، فحظك منها ما أحدثته لك فاختر خير الحظوظ ، أو شرها ، فإن أحدثت له سخطا وكفرا ؛ كتب في ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو فعل محرم ؛ كتب في ديوان المفرطين ، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر ؛ كتب في ديوان المغبونين ، وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته ؛ فقد قرع باب الزندقة أو ولجه ، وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله ؛ كتب في ديوان الصابرين ، وإن أحدثت له الرضى عن الله ؛ كتب في ديوان الراضين ، وإن أحدثت له الحمد والشكر ؛ كتب في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين ، وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه ؛ كتب في ديوان المحبين المخلصين .
وفي مسند "
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد "
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=17053محمود بن لبيد يرفعه (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002698إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ) زاد
أحمد : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002699ومن جزع فله الجزع ) .
ومن علاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته ، فآخر أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو غير محمود ولا مثاب ، قال بعض الحكماء : العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم .
وفي " الصحيح " مرفوعا : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002700nindex.php?page=treesubj&link=19584الصبر عند الصدمة الأولى ) وقال
[ ص: 178 ] nindex.php?page=showalam&ids=185الأشعث بن قيس : " إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا ، وإلا سلوت سلو البهائم " .
ومن علاجها : أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له ، وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب ، فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبه وتمقت إلى محبوبه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء : إن الله إذا قضى قضاء ، أحب أن يرضى به ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=40عمران بن حصين يقول في علته : أحبه إلي أحبه إليه ، وكذلك قال
أبو العالية .
وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين ، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به .
ومن علاجها : أن يوازن بين أعظم اللذتين ، والمتعتين وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ، ولذة تمتعه بثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح ، فليحمد الله على توفيقه ، وإن آثر المرجوح من كل وجه فليعلم أن مصيبته في عقله ، وقلبه ، ودينه أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه .
ومن علاجها أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ، ولا ليعذبه به ، ولا ليجتاحه ، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحا ببابه لائذا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعا قصص الشكوى إليه .
قال
الشيخ عبد القادر : يا بني إن المصيبة ما جاءت لتهلكك ، وإنما جاءت ؛ لتمتحن صبرك وإيمانك يا بني القدر سبع والسبع لا يأكل الميتة .
والمقصود : أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله فإما أن يخرج
[ ص: 179 ] ذهبا أحمر ، وإما أن يخرج خبثا كله كما قيل :
سبكناه ونحسبه لجينا فأبدى الكير عن خبث الحديد
فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا ، فبين يديه الكير الأعظم ، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ، ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكيرين ، فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل .
ومن علاجها : أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد - من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب - ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حمية له من هذه الأدواء ، وحفظا لصحة عبوديته ، واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحان من يرحم ببلائه ، ويبتلي بنعمائه كما قيل :
قد ينعم بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فلولا أنه - سبحانه - يداوي عباده بأدوية المحن ، والابتلاء لطغوا ، وبغوا وعتوا والله - سبحانه - إذا أراد بعبد خيرا سقاه دواء من الابتلاء ، والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء ، المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيته وقربه .
ومن علاجها : أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة ، يقلبها الله سبحانه كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة ، خير له من عكس ذلك ، فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002701nindex.php?page=treesubj&link=19601_19602حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) .
وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق ، وظهرت حقائق الرجال فأكثرهم
[ ص: 180 ] آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد ، ولا ذل ساعة لعز الأبد ، ولا محنة ساعة لعافية الأبد ، فإن الحاضر عنده شهادة ، والمنتظر غيب ، والإيمان ضعيف ، وسلطان الشهوة حاكم ، فتولد من ذلك إيثار العاجلة ، ورفض الآخرة ، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور ، وأوائلها ومبادئها ، وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ، ويجاوزه إلى العواقب والغايات ، فله شأن آخر .
فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه ، وأهل طاعته من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز الأكبر ، وما أعد لأهل البطالة ، والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة ، ثم اختر ؛ أي القسمين أليق بك ، وكل يعمل على شاكلته ، وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه ، وما هو الأولى به ، ولا تستطل هذا العلاج ، فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه ، وبالله التوفيق .
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِلَاجِ حَرِّ الْمُصِيبَةِ وَحُزْنِهَا
قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155nindex.php?page=treesubj&link=19572وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=157أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) [ الْبَقَرَةِ : 155 ] . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002696مَا مِنْ أَحَدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا ، إِلَّا أَجَارَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا ) .
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=24434أَبْلَغِ عِلَاجِ الْمُصَابِ ، وَأَنْفَعِهِ لَهُ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ ، فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ إِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِمَعْرِفَتِهِمَا تَسَلَّى عَنْ مُصِيبَتِهِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَبْدَ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقِيقَةً ، وَقَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ الْعَبْدِ عَارِيَةً ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ كَالْمُعِيرِ يَأْخُذُ مَتَاعَهُ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِعَدَمَيْنِ : عَدَمٍ قَبْلَهُ وَعَدَمٍ بَعْدَهُ ، وَمِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ مُتْعَةٌ مُعَارَةٌ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمِهِ ، حَتَّى يَكُونَ مِلْكُهُ حَقِيقَةً ، وَلَا هُوَ
[ ص: 174 ] الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنَ الْآفَاتِ بَعْدَ وُجُودِهِ ، وَلَا يُبْقِي عَلَيْهِ وُجُودَهُ ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ ، وَلَا مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِالْأَمْرِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ لَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ إِلَّا مَا وَافَقَ أَمْرَ مَالِكِهِ الْحَقِيقِيِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَصِيرَ الْعَبْدِ وَمَرْجِعَهُ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُخَلِّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَيَجِيءَ رَبَّهُ فَرْدًا كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ : بِلَا أَهْلٍ ، وَلَا مَالٍ ، وَلَا عَشِيرَةٍ ، وَلَكِنْ بِالْحَسَنَاتِ ، وَالسَّيِّئَاتِ ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةَ الْعَبْدِ وَمَا خُوِّلَهُ وَنِهَايَتَهُ ، فَكَيْفَ يَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ أَوْ يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ ، فَفِكْرُهُ فِي مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ هَذَا الدَّاءِ ، وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) [ الْحَدِيدِ : 22 ] .
وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا أُصِيبَ بِهِ ، فَيَجِدُ رَبَّهُ قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِ مِثْلَهُ ، أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَادَّخَرَ لَهُ - إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ - مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهَا أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ .
وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يُطْفِئَ نَارَ مُصِيبَتِهِ بِبَرْدِ التَّأَسِّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّهُ فِي كُلِّ وَادٍ بَنُو سَعْدٍ ، وَلْيَنْظُرْ يَمْنَةً فَهَلْ يَرَى إِلَّا مِحْنَةً ؟ ثُمَّ لِيَعْطِفْ يَسْرَةً فَهَلْ يَرَى إِلَّا حَسْرَةً ؟ وَأَنَّهُ لَوْ فَتَّشَ الْعَالَمَ لَمْ يَرَ فِيهِمْ إِلَّا مُبْتَلًى ، إِمَّا بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ ، أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ ، وَأَنَّ شُرُورَ الدُّنْيَا أَحْلَامُ نَوْمٍ ، أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ ، إِنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا أَبْكَتْ كَثِيرًا ، وَإِنْ سَرَّتْ يَوْمًا سَاءَتْ دَهْرًا وَإِنْ مَتَّعَتْ قَلِيلًا ،
[ ص: 175 ] مَنَعَتْ طَوِيلًا ، وَمَا مَلَأَتْ دَارًا خِيرَةً إِلَّا مَلَأَتْهَا عَبْرَةً ، وَلَا سَرَّتْهُ بِيَوْمِ سُرُورٍ إِلَّا خَبَّأَتْ لَهُ يَوْمَ شُرُورٍ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " لِكُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ ، وَمَا مُلِئَ بَيْتٌ فَرَحًا إِلَّا مُلِئَ تَرَحًا " وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابْنُ سِيرِينَ : " مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ مِنْ بَعْدِهِ بُكَاءٌ " .
وَقَالَتْ
هند بنت النعمان : لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ مُلْكًا ، ثُمَّ لَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْتُنَا ، وَنَحْنُ أَقَلُّ النَّاسِ وَأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَلَّا يَمْلَأَ دَارًا خِيرَةً إِلَّا مَلَأَهَا عَبْرَةً .
وَسَأَلَهَا رَجُلٌ أَنْ تُحَدِّثَهُ عَنْ أَمْرِهَا فَقَالَتْ : " أَصْبَحْنَا ذَا صَبَاحٍ وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إِلَّا يَرْجُونَا ثُمَّ أَمْسَيْنَا وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إِلَّا يَرْحَمُنَا " .
وَبَكَتْ أُخْتُهَا
حرقة بنت النعمان يَوْمًا ، وَهِيَ فِي عِزِّهَا فَقِيلَ لَهَا : مَا يُبْكِيكِ لَعَلَّ أَحَدًا آذَاكِ ؟ قَالَتْ : لَا وَلَكِنْ رَأَيْتُ غَضَارَةً فِي أَهْلِي ، وَقَلَّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إِلَّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12422إِسْحَاقُ بْنُ طَلْحَةَ : دَخَلْتُ عَلَيْهَا يَوْمًا فَقُلْتُ لَهَا : كَيْفَ رَأَيْتِ عَبَرَاتِ الْمُلُوكِ ؟ فَقَالَتْ : مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمَّا كُنَّا فِيهِ الْأَمْسَ ، إِنَّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي خِيرَةٍ إِلَّا سَيُعْقَبُونَ بَعْدَهَا عَبْرَةً ، وَأَنَّ الدَّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبُّونَهُ إِلَّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ ثُمَّ قَالَتْ :
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا
تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
[ ص: 176 ] وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّهَا ، بَلْ يُضَاعِفُهَا ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ تَزَايُدِ الْمَرَضِ .
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَوْتَ ثَوَابِ الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمَ ، وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ الَّتِي ضَمِنَهَا اللَّهُ عَلَى الصَّبْرِ ، وَالِاسْتِرْجَاعِ أَعْظَمُ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَزَعَ يُشْمِتُ عَدُوَّهُ ، وَيَسُوءُ صَدِيقَهُ ، وَيُغْضِبُ رَبَّهُ ، وَيَسُرُّ شَيْطَانَهُ ، وَيُحْبِطُ أَجْرَهُ ، وَيُضْعِفُ نَفْسَهُ ، وَإِذَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ أَنْضَى شَيْطَانَهُ وَرَدَّهُ خَاسِئًا وَأَرْضَى رَبَّهُ وَسَرَّ صَدِيقَهُ ، وَسَاءَ عَدُوَّهُ ، وَحَمَلَ عَنْ إِخْوَانِهِ ، وَعَزَّاهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُعَزُّوهُ ، فَهَذَا هُوَ الثَّبَاتُ وَالْكَمَالُ الْأَعْظَمُ ، لَا لَطْمُ الْخُدُودِ ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ ، وَالثُّبُورِ ، وَالسُّخْطُ عَلَى الْمَقْدُورِ .
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا يُعْقِبُهُ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَسَرَّةِ أَضْعَافُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِبَقَاءِ مَا أُصِيبَ بِهِ لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ ، وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْتُ الْحَمْدِ الَّذِي يُبْنَى لَهُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى حَمْدِهِ لِرَبِّهِ ، وَاسْتِرْجَاعِهِ فَلْيَنْظُرْ : أَيُّ الْمُصِيبَتَيْنِ أَعْظَمُ ؟ : مُصِيبَةُ الْعَاجِلَةِ ، أَوْ مُصِيبَةُ فَوَاتِ بَيْتِ الْحَمْدِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ . وَفِي
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي مَرْفُوعًا : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002697nindex.php?page=treesubj&link=19572يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ ) .
وَقَالَ : بَعْضُ السَّلَفِ لَوْلَا مَصَائِبُ الدُّنْيَا لَوَرَدْنَا الْقِيَامَ مَفَالِيسَ .
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يُرَوِّحَ قَلْبَهُ بِرُوحِ رَجَاءِ الْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِوَضٌ إِلَّا اللَّهَ ، فَمَا مِنْهُ عِوَضٌ كَمَا قِيلَ :
[ ص: 177 ] مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا مِنَ اللَّهِ إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حَظَّهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ لَهُ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ ، فَحَظُّكَ مِنْهَا مَا أَحْدَثَتْهُ لَكَ فَاخْتَرْ خَيْرَ الْحُظُوظِ ، أَوْ شَرَّهَا ، فَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ سُخْطًا وَكُفْرًا ؛ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْهَالِكِينَ ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ جَزَعًا وَتَفْرِيطًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ ؛ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُفَرِّطِينَ ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ شِكَايَةً وَعَدَمَ صَبْرٍ ؛ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمَغْبُونِينَ ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّهِ وَقَدْحًا فِي حِكْمَتِهِ ؛ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ الزَّنْدَقَةِ أَوْ وَلَجَهُ ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ صَبْرًا وَثَبَاتًا لِلَّهِ ؛ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الصَّابِرِينَ ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الرِّضَى عَنِ اللَّهِ ؛ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرَّاضِينَ ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ ؛ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الشَّاكِرِينَ ، وَكَانَ تَحْتَ لِوَاءِ الْحَمْدِ مَعَ الْحَمَّادِينَ ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ مَحَبَّةً وَاشْتِيَاقًا إِلَى لِقَاءِ رَبِّهِ ؛ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُحِبِّينَ الْمُخْلِصِينَ .
وَفِي مُسْنَدِ "
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَدَ "
nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=17053مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ يَرْفَعُهُ (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002698إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمُ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ ) زَادَ
أحمد : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002699وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ ) .
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْجَزَعِ غَايَتَهُ ، فَآخِرُ أَمْرِهِ إِلَى صَبْرِ الِاضْطِرَارِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَلَا مُثَابٍ ، قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَاقِلُ يَفْعَلُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُصِيبَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُ بَعْدَ أَيَّامٍ ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ .
وَفِي " الصَّحِيحِ " مَرْفُوعًا : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002700nindex.php?page=treesubj&link=19584الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى ) وَقَالَ
[ ص: 178 ] nindex.php?page=showalam&ids=185الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : " إِنَّكَ إِنْ صَبَرْتَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، وَإِلَّا سَلَوْتَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ " .
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَنْفَعَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ فِيمَا أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ لَهُ ، وَأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَحَبَّةِ وَسِرَّهَا مُوَافَقَةُ الْمَحْبُوبِ ، فَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ مَحْبُوبٍ ثُمَّ سَخِطَ مَا يُحِبُّهُ وَأَحَبَّ مَا يَسْخَطُهُ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذِبِهِ وَتَمَقَّتَ إِلَى مَحْبُوبِهِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=4أَبُو الدَّرْدَاءِ : إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى قَضَاءً ، أَحَبَّ أَنْ يُرْضَى بِهِ ، وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=40عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ يَقُولُ فِي عِلَّتِهِ : أَحَبُّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ
أبو العالية .
وَهَذَا دَوَاءٌ وَعِلَاجٌ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَعَ الْمُحِبِّينَ ، وَلَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَالَجَ بِهِ .
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يُوَازِنَ بَيْنَ أَعْظَمِ اللَّذَّتَيْنِ ، وَالْمُتْعَتَيْنِ وَأَدْوَمِهِمَا : لَذَّةِ تَمَتُّعِهِ بِمَا أُصِيبَ بِهِ ، وَلَذَّةِ تَمَتُّعِهِ بِثَوَابِ اللَّهِ لَهُ ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الرُّجْحَانُ فَآثَرَ الرَّاجِحَ ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ ، وَإِنْ آثَرَ الْمَرْجُوحَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مُصِيبَتَهُ فِي عَقْلِهِ ، وَقَلْبِهِ ، وَدِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَتِهِ الَّتِي أُصِيبَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ .
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ بِهَا أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ الْبَلَاءَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ ، وَلَا لِيُعَذِّبَهُ بِهِ ، وَلَا لِيَجْتَاحَهُ ، وَإِنَّمَا افْتَقَدَهُ بِهِ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِيمَانَهُ وَلِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ وَابْتِهَالَهُ ، وَلِيَرَاهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ لَائِذًا بِجَنَابِهِ مَكْسُورَ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ رَافِعًا قَصَصَ الشَّكْوَى إِلَيْهِ .
قَالَ
الشيخ عبد القادر : يَا بُنَيَّ إِنَّ الْمُصِيبَةَ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَكَ ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ ؛ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَكَ وَإِيمَانَكَ يَا بُنَيَّ الْقَدَرُ سَبُعٌ وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْمُصِيبَةَ كِيرُ الْعَبْدِ الَّذِي يُسْبَكُ بِهِ حَاصِلُهُ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ
[ ص: 179 ] ذَهَبًا أَحْمَرَ ، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ خَبَثًا كُلُّهُ كَمَا قِيلَ :
سَبَكْنَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنًا فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْكِيرُ فِي الدُّنْيَا ، فَبَيْنَ يَدَيْهِ الْكِيرُ الْأَعْظَمُ ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ إِدْخَالَهُ كِيرَ الدُّنْيَا ، وَمَسْبَكَهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْكِيرِ وَالْمَسْبَكِ ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْكِيرَيْنِ ، فَلْيَعْلَمْ قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْكِيرِ الْعَاجِلِ .
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْلَا مِحَنُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا لَأَصَابَ الْعَبْدَ - مِنْ أَدْوَاءِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَرْعَنَةِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ - مَا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ فِي الْأَحْيَانِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ أَدْوِيَةِ الْمَصَائِبِ ، تَكُونُ حَمِيَّةً لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ ، وَحِفْظًا لِصِحَّةِ عُبُودِيَّتِهِ ، وَاسْتِفْرَاغًا لِلْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ الرَّدِيئَةِ الْمُهْلِكَةِ مِنْهُ ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ :
قَدْ يُنْعِمُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فَلَوْلَا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُدَاوِي عِبَادَهُ بِأَدْوِيَةِ الْمِحَنِ ، وَالِابْتِلَاءِ لَطَغَوْا ، وَبَغَوْا وَعَتَوْا وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ - إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنَ الِابْتِلَاءِ ، وَالِامْتِحَانِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنَ الْأَدْوَاءِ ، الْمُهْلِكَةِ حَتَّى إِذَا هَذَّبَهُ وَنَقَّاهُ وَصَفَّاهُ أَهَّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ الدُّنْيَا ، وَهِيَ عُبُودِيَّتُهُ وَأَرْفَعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ رُؤْيَتُهُ وَقُرْبُهُ .
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا هِيَ بِعَيْنِهَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ ، يَقْلِبُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ ، وَحَلَاوَةَ الدُّنْيَا بِعَيْنِهَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ ، وَلَأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَرَارَةٍ مُنْقَطِعَةٍ إِلَى حَلَاوَةٍ دَائِمَةٍ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ عَكْسِ ذَلِكَ ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ هَذَا فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002701nindex.php?page=treesubj&link=19601_19602حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ) .
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَفَاوَتَتْ عُقُولُ الْخَلَائِقِ ، وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ الرِّجَالِ فَأَكْثَرُهُمْ
[ ص: 180 ] آثَرَ الْحَلَاوَةَ الْمُنْقَطِعَةَ عَلَى الْحَلَاوَةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي لَا تَزُولُ ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ ، وَلَا ذُلَّ سَاعَةٍ لِعِزِّ الْأَبَدِ ، وَلَا مِحْنَةَ سَاعَةٍ لِعَافِيَةِ الْأَبَدِ ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ ، وَالْمُنْتَظَرَ غَيْبٌ ، وَالْإِيمَانَ ضَعِيفٌ ، وَسُلْطَانُ الشَّهْوَةِ حَاكِمٌ ، فَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ إِيثَارُ الْعَاجِلَةِ ، وَرَفْضُ الْآخِرَةِ ، وَهَذَا حَالُ النَّظَرِ الْوَاقِعِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ ، وَأَوَائِلِهَا وَمَبَادِئِهَا ، وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّاقِبُ الَّذِي يَخْرِقُ حُجُبَ الْعَاجِلَةِ ، وَيُجَاوِزُهُ إِلَى الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ ، فَلَهُ شَأْنٌ آخَرُ .
فَادْعُ نَفْسَكَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ ، وَأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ ، وَالْفَوْزِ الْأَكْبَرِ ، وَمَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْبِطَالَةِ ، وَالْإِضَاعَةِ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعِقَابِ وَالْحَسَرَاتِ الدَّائِمَةِ ، ثُمَّ اخْتَرْ ؛ أَيُّ الْقِسْمَيْنِ أَلْيَقُ بِكَ ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ ، وَمَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ ، وَلَا تَسْتَطِلْ هَذَا الْعِلَاجَ ، فَشِدَّةُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنَ الطَّبِيبِ وَالْعَلِيلِ دَعَتْ إِلَى بَسْطِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .