قال الشيخ رحمه الله : قد روينا بعض مناقب الأولياء ومراتب الأصفياء ، فأما من الصفاء والوفاء ، واشتقاقه من حيث الحقائق التي أوجبت اللغة فإنه تفعل من أحد أربعة أشياء : من الصوفانة ، وهي بقلة زغباء قصيرة ، أو من صوفة وهي قبيلة كانت في الدهر الأول تجيز الحاج وتخدم الكعبة ، أو من صوفة القفا ، وهي الشعرات النابتة في متأخره ، أو من الصوف المعروف على ظهور الضأن . وإن أخذ التصوف من الصوفانة التي هي البقلة فلاجتزاء القوم بما توحد الله عز وجل بصنعه ، ومن به عليهم من غير تكلف بخلقه ، فاكتفوا به عما فيه للآدميين ، صنع كاكتفاء البررة الطاهرين ، من جلة المهاجرين ، [ ص: 18 ] في مبادئ إقبالهم وأول أحوالهم . التصوف : فاشتقاقه عند أهل الإشارات والمنبئين عنه بالعبارات
وهو ما حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، ثنا ، قال : حدثني أبي ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون إسماعيل بن أبي خالد بن أبي ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت يقول : والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله عز وجل ، ولقد سعد بن أبي وقاص وهذا السمر ، حتى قرحت أشداقنا ، وحتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط . كنا نغزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة
وإن أخذ من الصوفة التي هي القبيلة ، فلأن المتصوف فيما كفي من حاله ، ونعم من ماله ، وأعطي من عقباه ، وحفظ من حظ دنيا ، أحد أعلام الهدى لعدولهم عن الموبقات ، واجتهادهم في القربات ، وتزودهم من الساعات ، وتحفظهم للأوقات ، فسالك منهجهم ناج من الغمرات ، وسالم من الهلكات .
حدثنا محمد بن الفتح ، ثنا الحسن بن أحمد بن صدقة ، ثنا محمد بن عبد النور الخزاز ، ثنا أحمد بن المفضل الكوفي ، ثنا سفيان ، عن ، عن حبيب بن أبي ثابت عاصم بن ضمرة ، عن - كرم الله وجهه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " علي بن أبي طالب يا علي ، ، فتقرب إليه بأنواع العقل ، تسبقهم بالدرجات والزلفى ، عند الناس في الدنيا ، وعند الله في الآخرة إذا تقرب الناس إلى خالقهم في أبواب البر " .
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، ثنا ، ثنا جعفر بن محمد الفريابي إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني ، ثنا أبي ، عن جدي ، عن ، عن أبي إدريس الخولاني ، قال : أبي ذر الغفاري جلست إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله إبراهيم - عليه السلام - فقال : " أمثال كلها ، وكان فيها : وعلى العامل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات ، ساعة يناجي فيها ربه تعالى ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر في صنع الله تعالى ، وساعة يخلو فيها بحاجته من المطعم والمشروب " ما كانت صحف .
وإن أخذ من صوف القفا ، فمعناه أن المتصوف معطوف به إلى الحق ، [ ص: 19 ] مصروف به عن الخلق ، لا يريد به بدلا ، ولا يبغي عنه حولا .
حدثنا القاضي عبد الله بن محمد بن عمر ، ثنا عبد الله بن العباس الطيالسي ، ثنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد ، أنبأنا ، عن أبو بكر بن عياش حميد ، عن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنس بن مالك بإبراهيم - عليه السلام - يوم النار إلى النار ، فلما بصر بها قال : حسبنا الله ونعم الوكيل أتي " .
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا محمد بن محمد بن سليمان ، ثنا سليمان بن توبة ، ثنا سلام بن سليمان الدمشقي ، ثنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة لما ألقي إبراهيم - عليه السلام - في النار قال : حسبي الله ونعم الوكيل " .
حدثنا ، ثنا أبو عمرو بن حمدان ، ثنا الحسن بن سفيان محمد بن يزيد الرفاعي ، ثنا إسحاق بن سليمان ، ثنا أبو جعفر الرازي ، عن ، عن عاصم بن بهدلة أبي صالح ، عن ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة إبراهيم - عليه السلام - في النار قال : اللهم إنك واحد في السماء ، وأنا في الأرض واحد أعبدك لما ألقي " .
حدثنا أبو بكر بن مالك ، ثنا ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل عبد الله بن عمر القواريري ، ثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن عامر الأحول ، عن عبد الملك بن عامر ، عن نوف البكالي . قال : إبراهيم - عليه السلام - : يا رب إنه ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، فأنزل الله ثلاثة آلاف ملك فأمهم ثلاثة أيام . قال
حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، ثنا ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل شيبان ، ثنا أبو هلال ، ثنا ، قال : بكر بن عبد الله المزني إبراهيم - عليه السلام - في النار جأرت عامة الخليقة إلى ربها ، فقالوا : يا رب ، خليلك يلقى في النار فائذن لنا أن نطفئ عنه ، قال : هو خليلي ليس لي في الأرض خليل غيره ، وأنا ربه ليس له رب غيري ، فإن استغاثكم فأغيثوه ، وإلا فدعوه . قال : فجاء ملك القطر فقال : يا رب ، خليلك يلقى في النار فائذن لي أن أطفئ عنه بالقطر ، قال : هو خليلي ليس لي في الأرض خليل غيره ، وأنا ربه ليس له رب غيري ، فإن استغاثك فأغثه ، وإلا فدعه ، فلما ألقي في النار دعا ربه ، فقال الله عز وجل : ( لما ألقي يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) ، قال : [ ص: 20 ] فبردت يومئذ على أهل المشرق والمغرب فلم ينضج بها كراع .
حدثنا أحمد بن السندي ، ثنا الحسن بن علوية ، ثنا إسماعيل بن عيسى ، ثنا إسحاق بن بشر ، قال : قال مقاتل وسعيد : لما جيء بإبراهيم - عليه السلام - فخلعوا ثيابه وشدوا قماطه ووضع في المنجنيق ، بكت السماوات والأرض والجبال ، والشمس والقمر ، والعرش والكرسي ، والسحاب والريح والملائكة ، كل يقولون : يا رب ، إبراهيم عبدك يحرق بالنار ، فائذن لنا في نصرته ، فقالت النار وبكت : يا رب سخرتني لبني آدم وعبدك يحرق بي ! ، فأوحى الله عز وجل إليهم : إن . فلما رمي استقبله عبدي إياي عبد ، وفي جنبي أوذي ، إن دعاني أجبته ، وإن استنصركم فانصروه جبريل - عليه السلام - بين المنجنيق والنار ، فقال : السلام عليك يا إبراهيم ، أنا جبريل ، ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، حاجتي إلى الله ربي ، فلما قذف في النار كان سبقه إسرافيل فسلط النار على قماطه ، وقال الله عز وجل : ( يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) فلو لم يخلطه بالسلام لكز فيها بردا .
حدثنا الحسين بن محمد بن علي ، ثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم ، ثنا ، ثنا يوسف القطان مهران بن أبي عمر ، ثنا ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : أخبرت أن المنهال بن عمرو إبراهيم - عليه السلام - لما ألقي في النار كان فيها - ما أدري إما خمسين وإما أربعين يوما - قال : ما كنت أياما وليالي قط أطيب عيشا مني إذ كنت فيها ، ووددت أن عيشي وحياتي كلها إذ كنت فيها .
قال الشيخ رحمه الله تعالى : وإن أخذ من الصوف المعروف فهو لاختيارهم لباس الصوف ، إذ لا كلفة للآدميين في إنباته وإنشائه ، وإن النفوس الشاردة تذلل بلباس الصوف ، وتكسر نخوتها وتكبرها به ، لتلتزم المذلة والمهانة ، وتعتاد البلغة والقناعة . وقد ذكرنا شواهده في كتاب لبس الصوف مجودا . وقد كثرت أجوبة أهل الإشارة في مائيته بأنواع من العبارة وجمعناها في غير هذا الكتاب . وأقرب ما أذكره ما حدثت عن جعفر بن محمد الصادق - رضي الله تعالى عنه - أنه قال : ، ومن عاش في باطن الرسول فهو صوفي . وأراد من عاش في ظاهر الرسول فهو سني جعفر بباطن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخلاقه [ ص: 21 ] الطاهرة واختياره للآخرة ، فمن تخلق بأخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتخير ما اختاره ورغب فيما فيه رغب ، وتنكب عما عنه نكب ، وأخذ بما إليه ندب فقد صفا من الكدر ، ونحي من العكر ، ونجي من الغير ، ومن عدل عن سمته ونهجه ، وعول على حكم نفسه وهرجه ، وسعى لبطنه وفرجه ، كان من التصوف خاليا ، وفي التجاهل ساعيا ، وعن خطير الأحوال ساهيا .
حدثنا ، ثنا أبو بكر بن خلاد الحارث بن أبي أسامة ، ثنا داود بن المحبر ، ثنا نصر بن طريف ، عن منصور بن المعتمر ، عن أبي وائل ، عن ، سويد بن غفلة أن - رضي الله تعالى عنه - خرج ذات يوم فاستقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال له : أبا بكر الصديق " قال : فكيف لنا بالعقل ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن العقل لا غاية له ، ولكن من أحل حلال الله وحرم حرامه سمي عاقلا ، فإن اجتهد بعد ذلك سمي عابدا ، فإن اجتهد بعد ذلك سمي جوادا ، فمن اجتهد في العبادة وسمح في نوائب المعروف بلا حظ من عقل يدله على اتباع أمر الله عز وجل واجتناب ما نهى الله عنه فأولئك هم الأخسرون أعمالا ، بم بعثت يا رسول الله - ؟ قال : " بالعقل الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " .
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا محمد بن عمران بن الجنيد ، ثنا محمد بن عبدك ، ثنا سليمان بن عيسى ، عن ، عن ابن جريج عطاء ، عن . قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أبي سعيد الخدري ، فمن كن فيه كمل عقله ، ومن لم يكن فيه فلا عقل له : حسن المعرفة بالله عز وجل ، وحسن الطاعة لله عز وجل ، وحسن الصبر على ما أمر الله عز وجل قسم الله عز وجل العقل على ثلاثة أجزاء " .