يكره الغلو كما يكره التقصير
هذه القاعدة تتمة للقاعدة السابقة وتأكيد لها؛ ومن الغلو المكروه الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرد التشديد لا لغرض سواه؛ لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف، وهو أيضا مخالف ( لقوله عليه الصلاة والسلام : إن لنفسك عليك حقا ) [1] .
ومن ذلك الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة، فإنه من قبيل التشديد والتنطع المذموم.
وقد روى الربيـع بن زياد الحارثي أنه قال لعـلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أغد بي على أخي عاصم. قال: ما باله؟ قال: لبس العباء يريد النسـك. فقال علي رضي الله عنه : علي به. فأتي به مؤتزرا بعباءة، مرتديا بالأخرى، شـعث الرأس واللحـية، فعبس في وجـهه وقال: ويحـك! أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله من ذلك، أما سمعت الله يقول في كتابه: ( والأرض وضعها للأنام ) -إلى قوله- ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) (الرحمن: 10-22) ؟ أفتـرى الله أباح هذه لعباده إلا ليبتذلوه ويحمـدوا الله عليه فيثبتـهم عليه؟ وإن ابتـذالك نعم الله [ ص: 45 ] بالفعـل خير منه بالقول. قال عاصـم: فما بالك في خشـونة مأكـلك وخشـونة ملبسك؟ قال: ويحك! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس [2] .
ومما يؤثر عن الإمام مالك في النهي عن الغلو: ما رواه ابن العربي بسنده إلى سـفيان بن عيينة قال:
" سـمعت مـالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله، من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة ، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني أريد أن أحرم من المسـجد عند القبر، قال: لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في هذا إنما هي أميال أزيدها! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سـبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني سمعت الله يقول: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) (النور: 63 " [3] .
ويؤكد ابن القيم ، رحمه الله، هذه المعـاني بقـوله: «ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نـزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، [ ص: 46 ] والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد» [4] .