قوام الدين بالكتاب الهادي والحديد الناصر
هذه القاعدة ترشـد المسلم إلى ضرورة تحصيل أصناف القوة المعينة على تحقيق الاعتدال في هذا العالم، فليس من الوسـطية أن لا يحصل المسلم ما يحافظ به على مكتسبات السير في طريق الله.
فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سـبيله، كان ذلك صـلاح الدين والدنيا. وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السـلطان فسدت أحوال الناس، وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح، كما في الصحيح ( عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) [1] .
ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف، وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم: رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الإيمان وكمال الدين. ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك. ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك، فأخذه معرضا عن الدين: لاعتقاده أنه مناف لذلك، وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل، لا في محل العلو والعز. وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدينين (السابقين) العجز عن تكميل الدين، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء: استضعف طريقتهم واستذلها [ ص: 173 ] من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها. وهاتان السبيلان الفاسدتان -سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين- هما سبيل المغضوب عليهم والضالين. الأولى للضـالين النصارى ، والثانية للمغضوب عليهم اليهود . وإنما الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل خلفائه وأصحابه، ومن سلك سبيلهم؛ وهم الذين قال الله فيهم:
( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) (التوبة: 100) .
فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه، ومصالح المسـلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتنب ما يمكنه من المحرمات: لم يؤاخذ بما يعجز عنه: فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار. ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه، من النصيحة بقلبه، والدعاء للأمة، ومحبة الخير، وفعل ما يقدر عليه من الخير: لم يكلف ما يعجز عنه، فإن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر، كما ذكره الله تعالى [2] . [ ص: 174 ]