هذه القاعدة بمقتضاها يحافظ المسلم على وسطيته واعتداله فلا يحيد عن الصراط المستقيم، لأنه متى اتبع هواه أو استسلم إلى نوازعه حاد عن سبيل الله، ولعله لهذا المعنى تضافرت نصوص الوحي على التحذير من اتباع الهوى وبيان عاقبته الوخيمة.
وقد قرر الإمام الشاطبي ، رحمه الله، أن: «المقصد الشرعي من وضع الشـريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا» [1] . ثم استدل على ذلك بأدلة منها:
- ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله؛ وذم من أعرض عن الله، وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات، والعذاب الآجل في الدار الآخرة. وأصل ذلك اتباع الهـوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة والشهوات الزائلة، فقد جعـل الله اتباع الهـوى مضـادا للحق، وعده قسـيما له كما في قوله تعالى: ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم [ ص: 169 ] عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) (ص: 26) ،
وقال تعالى: ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى ) (النازعات: 37-39) .
وقال في قسيمه: ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) (النـازعات:40-41) ،
وقال: ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) (النجم: 3-4) ،
فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة والهوى فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك فهما متضادان وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده، فاتباع الهوى مضاد للحق
وقال تعالى: ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ) (الجاثية: 23) ،
وقال: ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) (المؤمنون: 71) ،
وقال: ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ) (محمد: 16) ،
وقال: ( أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) (محمد: 14) ،
وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهـوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد روي هذا المعنى " عن ابن عباس أنه قال: ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه. " فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى.
- ما علم بالتجـارب والعـادات من أن المصـالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى والمشي مع الأغراض لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا [ ص: 170 ] معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته وسار حيث سـارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها أو كان له شريعة درست كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا وهي التي يسمونها السياسة المدنية، فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صـحته في الجملة وهو أظهر من أن يستدل عليه [2] .
«البدع.. واتباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء، وبهما كذبت الرسل وعصي الرب، ودخلت النار وحلت العقوبات. فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات، ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى فتنه هواه، وصاحب دنيا أعجبته دنـياه! وكانوا يقولون: احـذروا فتنة العـالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم. وفي بعض المراسيل: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» [3] . [ ص: 171 ] قال الإمام الماوردي [4] ، رحمه الله، تحت فصل الهوى: وأما الهوى فهو عن الخير صاد، وللعقل مضاد، لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل سـتر المروءة مهتوكا، ومدخل الشر مسلوكا.
" قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : اقـدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طـلاعة تنـزع إلى شر غاية. "
" قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : أخاف عليكم اثنين: اتباع الهوى وطول الأمل، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة. "
وقال الشعبي : إنما سمي الهوى هوى، لأنه يهوي بصاحبه.
وقال أعرابي: الهوى هوان ولكن غلط باسمه، فأخذه الشاعر وقال:
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقيل في منثور الحكم: من أطاع هواه، أعطى عدوه مناه.فلما كان الهوى غالبا وإلى سبيل المهالك موردا جعل العقل عليه رقيبا مجـاهدا يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع بادرة سطوته، ويدفع خداع حيلته؛ لأن سـلطان الهوى قوي، ومدخـل مـكره خفي. ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه، أعني بأحد الوجهين: قوة سلطانه وبالآخر خفاء مكره. [ ص: 172 ]