من جمع زلل العلماء ذهب دينه
فكما يطلب من المجتهد ألا يتبع مواقـع الغـلو والتشـديد ليحقق الاعتـدال ويتحقـق به، فإنه مطالب أيضا ليتم له ذلك، أن يتجنب شواذ العلم، سـواء في اجتهاده الإنشائي ابتداء، أو في اجتهاده الانتقائي الترجيحي. ذلك أن الإمامة في العلم لا تجتمع والأخذ بالشـاذ من العلم، كما قال عبد الرحمن بن مهدي : «لا يكون إماما في العلم من أخذ بالشـاذ من العـلم، ولا يكون إماما في العلم من روى عن كل أحد، ولا يكون إماما في العلم من روى كل ما سمع» [1] ،
ولما في الأخذ بالشاذ من خشية ذهاب الدين والوقوع في المفاسد والشرور، كما قد بين ذلك القاضي إسماعيل بن إسحاق للخليفة العباسي فيما رواه البيهقي عنه أنه قال: «دخلت على المعتضد فرفع إلي كتابا لأنظر فيه، وقد جمع الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق. ثم قال: لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسـكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسـكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب» [2] . [ ص: 80 ] فتأمل حال الدين إذا أخذ على مثل ما جاء في هذا المصنف كيف يصير! بل نص الإمام أحمد على فسق من يفعل ذلك فقـال: «لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقا» [3] ، وهذا المعنى شهير عند علماء السلف كقول الأوزاعي : «من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام» [4] ، وعن ابن المبارك : «أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي: يا بني، لا تنشد الشعر؟ فقلت له، يا أبت كان الحسن ينشد، وكان ابن سيرين ينشد، فقال لي: أي بني، إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله» [5] .
وبناء على هذا المعنى: فإن الآراء الفقهية الشاذة -تحقيقا لاجتهاد وسطي- ينبغي ألا يؤخذ بها ولا يصح اعتمادها، لأن حقيقتها زلل ومخالفة للشرع، وقد قرر الإمام الشاطبي هذا المعنى ثم بنى عليه أنه «لا يصح اعتمادها خلافا في المسائل الشرعية، لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد فهولم يصادف فيها محلا، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد..» [6] . [ ص: 81 ]