الخروج عن سنن الوسط مقدور بقدره
ونعني بهذه القاعدة أن تخلف الوسطية في بعض الأحكام أو الحالات، لسبب يقتضي ذلك، ينبغي أن يقدر بقدره، وأن يكون من قبيل الاضطرار الذي يستباح فيه الممنوع، حتى إذا ما زال العذر وانقضى سببه، وجب أن يزول ما ترتب عليه، وحينئذ لزم العود إلى الاعتدال والتوسط.. فقد جعل الله هذه الأمة «أمة الوسط»، وأمرها بالاستقامة على الشريعة وملازمة الصراط المستقيم ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) (آل عمـران: 102) .
وقد اقتضت حكمة الله أن تكون هذه الشريعة عالمية موجهة إلى الناس كافة، وهذا ما اقتضى أن تكون الأحكام الواردة فيها محققة لهذه الأسس والسمات، ليتم انطباق الكلية على أجزائها، وتتحد الأفراد المتجانسة ليصاغ منها الكلي المراد. وإن تحقيق هذه الأوصاف -عالمية التشريع- والاستقامة على الشريعة -لتحقيق أمة الوسط- هو ما يستدعي الاطراد في الأحكام والتتابع فيها، والاستمرار في العمل بها والاحتكام إليها، من غير زيادة أو نقصان، وقد ظهر هذا المعنى جليا حين أراد بعض الصحابة أن تستثنى المرأة المخزومية التي سرقت من أن يطبق عليها الحد، فغضب لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، مبينا لهم أن لا فرق بين الشريف والوضيع في امتثال الحكم الشـرعي [1] ، وهو ما يعني لزوم اطراد الحكم وثبوته لعدم وجود علة توجب تغييره. [ ص: 54 ] وأما كون الحكم بالتوسط جاريا على الغالب بأن يتخلف عنصر الاطراد فيه فيكون منطبقا على أغلب أفراده لا على كلها، فهو راجع إلى طبيعة التشريع ذاته وطبيعة الفقه الذي بني عليه، كما هو مقرر عند عامة فقهاء الإسلام، فقد حصل الإجماع منهم مثلا على «العمل بخبر الواحد وهو في بعض الحالات على الأقل، إنما يفيد الصحة والصدق على الغالب، وأجمعوا على العمل بالترجيح، والترجيح إنما هو الأخذ بالغالب من المتعارضين، وأجمعوا على صحة الاجتهاد الظني، وهو قائم على أن المجتهد يقول بما غلب على ظنه، بل إن الاجتهاد عندهم لا يكون إلا في مجال الظنون، قصد اختيار أغلبها» [2] .
وقد صـاغ الفقهاء هذا المعنى بما يعني أنه من المسـلمات والبدهيات عندهم فقالوا: «الغالب كالمحقق»، كما قالوا: «العـبرة للغـالب الشـائع لا للنادر». فإذا كان الحكم مطردا أو غالبا فالذي يليق به حينئذ، بل يتعين الأخذ به -لما تقدم من الشواهد والأدلة- إنما هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. وهذا هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن حين يوصف الإسلام بأنه دين الوسطية والاعتدال. إذ قد تقرر عند العقلاء قاطبة تخلف القاعدة في بعض جزئياتها، وأن ذلك لا يسلب عنها صفة القاعدة، وكان الاستثناء من الحكم العام واردا في كل الشرائع، حتى قيل: من القواعد عدم اطراد القواعد، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه... [ ص: 55 ] وبناء على ذلك، فإن تخلف التوسط في معالجة الشئون الآنية، والقضايا الظرفية الخاصة التي تتطلب إفراطا أو تفريطا، إنما هو استثناء من الأصل العام، يلجأ إليه الفقيه المجتهد تحقيقا لمصلحة تربو على مصلحة تحقيق الحكم بالتوسط في الأحوال العادية، وذلك كالتشديد في موضع التساهل، والتساهل في موضع الشدة، لمعالجة انحراف حاصل أو متوقع، أو تأليفا للقلوب على الدين، في بدايات الإنابة إلى الله والرجوع إلى الحنيفية السمحة ، حتى إذا زال المانع عاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل.
وفي هذا الصدد يقول الإمام الشاطبي ، رحمه الله: «... فإذا كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادا إلى الوسـط الأعـدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، فعل الطبيب الرفيق، يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله» [3] .
وهكذا يتقرر منهج الإسلام في معالجة انحراف المكلفين، فإذا وجد انحرافهم نحو طريق التشديد مال بهم إلى الطرف الآخر، بحيث يحافظ على الاعتدال والتوازن، وإذا لمح ميلهم إلى طرف التفريط والتمادي في الترخيص مال بهم إلى طرف التشديد، ليحافظوا على الوسطية والتوازن أيضا. [ ص: 56 ]