إذا أفضى طرد القياس إلى غلو منع منه بالاستحسان
هذا الضابط شاهد آخر على حضور الوسطية في الفكر الفقهي والأصولي ، وقد صغناه من تعريف علماء الأصول للاستحسان كما سيأتي قريبا، فإذا أفضى تطبيق القواعد وإعمالها إلى نتائج لم تكن مرغوبة بأن تناقضـت مع مقاصد الشـريعة أو مع كليات أخرى أو قواعد أعم منها أو أولى بالرعاية، منع من اطراد القاعدة بالاستحسان والاستثناء، وكان تخلف الجزئي محققا للاعتدال، الذي هو السمة العامة للشريعة.
قال ابن رشد في حقيقته: «الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أغلب من القياس هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم فيختص به ذلك الموضع» [1] ، وقال أيضا: «ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو الالتفات إلى المصلحة والعدل» [2] ، وبهذا المعنى عرفه القاضي ابن العربي فقال: «الاسـتحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين ... نكتته أن العموم إذا اسـتمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، ويستحسن أبو حنيفة تخصيص القياس ببعض العلة، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا، ولم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة ولا رأى تخصيص العلة..» [3] . [ ص: 150 ] وقال عنه في موضع آخر بأنه: «إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته» [4] .
وهكذا ترى أن هذه التعـاريف جميعا تتفق على معنى الاسـتحسان، وأنه يرجع إلى الاسـتثناء من القاعدة القياسية العامة، وذلك عندما يؤدي طرد القواعد وإعمال العموم في جميع الصـور الداخلة تحتهما إلى معنى يعارض ما تقرر من الأدلة والقواعد الكلية.
إن الباعث على هذا الاستثناء هو الحد من «الغلو» الذي يؤدي إليه الإغراق في القاعدة، فيكون الخروج في خصوص الجزئية المستثناة أقرب إلى الشرع وأولى من مراعاة الاطراد، وهذا هو عين التوسط والاعتدال، ولهذا قال ابن رشد : «ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو الالتفات إلى المصلحة والعدل» . والعارف بطبيعة الفقه الإسلامي وقواعده يدرك صحة هذا الاتجاه بما تقرر لدى الفقهاء قاطبة من أن ابتناء الأحكام على الظنون أصل أصيل في الدين، حتى قالوا: من القواعد عدم اطراد القواعد، بل جاء عن مالك : أن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة [5] .
وهو ما عبر عنه الإمام ابن القيم ، رحمه الله، بقوله: «وأصحاب الرأي والقياس حملوا معاني النصوص فوق ما حملها الشارع، وأصحاب الألفاظ والظواهر قصروا بمعانيها عن مراده» [6] . [ ص: 151 ]
- القياس بين المفرطين والنافين:
وقال ابن القيم ، رحمه الله، أيضا معلقا على ترجمة البخاري -باب من شبه أصلا معلوما بأصـل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل-: «وهذا الذي ترجمه البخاري هو فصل النـزاع في القياس ، لا كما يقوله المفرطون فيه ولا المفرطون، فإن الناس فيه طرفان ووسط، فأحد الطرفين من ينفي العلل والمعاني والأوصاف المؤثرة، ويجوز ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين والجمع بين المختلفين، ولا يثبت أن الله سبحانه شرع الأحكام لعلل ومصالح، وربطها بأوصاف مؤثرة فيها، مقتضية لها طردا وعكسا... وبإزاء هؤلاء قوم أفرطوا فيه، وتوسعوا جدا، وجمعوا بين الشيئين اللذين فرق الله بينهما بأدنى جامع من شبه أو طرد أو وصف يتخيلونه علة يمكن أن يكون علته وأن لا يكون، فيجعلونه هو السبب الذي علق الله ورسوله عليه الحكم بالخرص والظن، وهذا هو الذي أجمع السلف على ذمه» [7] .
ومن أمثلة الاستحسان: مشاركة الإخوة الأشقاء للإخوة لأم في المسألة الحمارية -أو المشتركة- فإن اطراد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم وهو حرمان الأشقاء كما قضى به سيدنا عمر رضي الله عنه ، أول مرة، مع أن الأم التي اسـتحق بها الإخوة للأم شـاركوهم فيها وكونهم أبناء أبي الميت لا يزيدهم إلا قربا، لذلك ألغي هذا القياس لمعنى يؤثر في الحكم وشاركوهم في الثلث. [ ص: 152 ]