[ ص: 3 ] إعجاز القرآن للباقلاني
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنعم على عباده بما هداهم إليه من الإيمان ، والمتمم إحسانه بما أقام لهم من جلي البرهان ، الذي حمد نفسه بما أنزل من القرآن ، ليكون بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وهاديا إلى ما ارتضى لهم من دينه ، وسلطانا أوضح وجه تبيينه ، ودليلا على وحدانيته ، ومرشدا إلى معرفة عزته وجبروته ، ومفصحا عن صفات جلاله ، وعلو شأنه وعظيم سلطانه ، وحجة لرسوله الذي أرسله به ، وعلما على صدقه ، وبينة على أنه أمينه على وحيه ، وصادع بأمره .
فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله ، ورسالة تشتمل على قول مؤديها . بين فيه - سبحانه - أن حجته كافية هادية ، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها ، أو حجة تتلوها ، وأن الذهاب عنها كالذهاب عن الضروريات ، والتشكك في المشاهدات . ولذلك قال - عز ذكره - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=7ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين . وقال - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=14ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=15لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون .
فله الشكر على جزيل إحسانه ، وعظيم مننه .
والصلاة على
محمد المصطفى وآله ، وسلم .
ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه ، وأولى ما يلزم بحثه ؛
[ ص: 4 ] ما كان لأصل دينهم قواما ، ولقاعدة توحيدهم عمادا ونظاما ، وعلى صدق نبيهم - صلى الله عليه وسلم - برهانا ، ولمعجزته ثبتا وحجة .
ولا سيما أن الجهل ممدود الرواق ، شديد النفاق ، مستول على الآفاق ، والعلم إلى عفاء ودروس ، وعلى خفاء وطموس ، وأهله في جفوة الزمن البهيم ، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشتيم حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه ، والأخذ في سبله .
فالناس بين رجلين : ذاهب عن الحق ، ذاهل عن الرشد ، وآخر مصدود عن نصرته ، مكدود في صنعته .
فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين ، في أصول الدين ، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين .
وقد قل أنصاره ، واشتغل عنه أعوانه ، وأسلمه أهله . فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه ، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره . فمن قائل قال : إنه سحر ، وقائل يقول : إنه شعر ، وآخر يقول : إنه أساطير الأولين ، وقالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا . إلى الوجوه التي حكى الله - عز وجل - عنهم أنهم قالوا فيه ، وتكلموا به ، فصرفوه إليه .
وذكر لي عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار ، ويوازن
[ ص: 5 ] بينه وبين غيره من الكلام ، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه !
وليس هذا ببديع من ملحدة هذا العصر ، وقد سبقهم إلى عظم ما يقولونه إخوانهم من ملحدة
قريش وغيرهم . إلا أن أكثر من كان طعن فيه في أول أمره استبان رشده ، وأبصر قصده ، فتاب وأناب ، وعرف من نفسه الحق بغريزة طبعه ، وقوة إتقانه ، لا لتصرف لسانه ، بل لهداية ربه وحسن توفيقه . والجهل في هذا الوقت أغلب ، والملحدون فيه عن الرشد أبعد ، وعن الواجب أذهب .
وقد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن ، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام ، أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته ، والدلالة على مكانه . فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول في الجزء والطفرة ، ودقيق الكلام في الأعراض ، وكثير من بديع الإعراب وغامض النحو . فالحاجة إلى هذا أمس ، والاشتغال به أوجب .
وقد قصر بعضهم في هذه المسألة ، حتى أدى ذلك إلى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها ، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا مستنصر فيها ، ولا وجه لها ، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا ، وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا . ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه ، ولا مستوفى في وجهه ، قد أخل بتهذيب طرقه ، وأهمل ترتيب بيانه .
وقد يعذر بعضهم في تفريط يقع منه فيه ، وذهاب عنه ، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلا بعد التقدم في أمور شريفة المحل ، عظيمة المقدار ، دقيقة المسلك ، لطيفة المأخذ .
[ ص: 6 ] وإذا انتهينا إلى تفصيل القول فيها ، استبان ما قلناه من الحاجة إلى هذه المقدمات ، حتى يمكن بعدها إحكام القول في هذا الشأن .
وقد صنف
nindex.php?page=showalam&ids=13974 " الجاحظ " في نظم القرآن كتابا ، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله ، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى .
* * *
وسألنا سائل أن نذكر جملة من القول جامعة ، تسقط الشبهات ، وتزيل الشكوك التي تعرض للجهال ، وتنتهي إلى ما يخطر لهم ، ويعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة .
فأجبناه إلى ذلك ، متقربين إلى الله - عز وجل - ، ومتوكلين عليه وعلى حسن توفيقه ومعونته .
ونحن نبين ما سبق فيه البيان من غيرنا ، ونشير إليه ولا نبسط القول ؛ لئلا يكون ما ألفناه مكررا ومقولا ، بل يكون مستفادا من جهة هذا الكتاب خاصة .
ونصف ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب ، وترتيب وجوه الكلام ، وما تختلف فيه طرق البلاغة ، وتتفاوت من جهته سبل البراعة ، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة ، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية ، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع .
ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام ، من شعر ورسائل وخطب ، وغير ذلك من مجاري الخطاب . وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح ، وتقصد فيه البلاغة ؛ لأن هذه أمور يتعمل لها في الأغلب ، ولا يتجوز فيها .
ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم . والتفاوت فيه أكثر ؛
[ ص: 7 ] لأن التعمل فيه أقل ، إلا من غزارة طبع ، أو فطانة تصنع وتكلف .
ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق ، ليعرف عظيم محل القرآن ، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه ، وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها ، أو يشتبه ذلك على متأمل .
ولسنا نزعم أنه يمكننا أن نبين ما رمنا بيانه ، وأردنا شرحه وتفصيله ، لمن كان عن معرفة الأدب ذاهبا وعن وجه اللسان غافلا ؛ لأن ذلك مما لا سبيل إليه ، إلا أن يكون الناظر فيما نعرض عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية ، قد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه ، وعرف جملة من طرق المتكلمين ، ونظر في شيء من أصول الدين .
وإنما ضمن الله - عز وجل - فيه البيان لمثل من وصفناه ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=3كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=3إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون .
[ ص: 3 ] إِعْجَازُ اَلْقُرْآنِ لِلْبَاقِلَّانِي
مُقَدِّمَةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْعِمِ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَالْمُتَمِّمِ إِحْسَانَهُ بِمَا أَقَامَ لَهُمْ مِنْ جَلِيِّ الْبُرْهَانِ ، الَّذِي حَمِدَ نَفْسَهُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ، لِيَكُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ، وَهَادِيًا إِلَى مَا ارْتَضَى لَهُمْ مِنْ دِينِهِ ، وَسُلْطَانًا أَوْضَحَ وَجْهَ تَبْيِينِهِ ، وَدَلِيلًا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ، وَمُرْشِدًا إِلَى مَعْرِفَةِ عِزَّتِهِ وَجَبَرُوتِهِ ، وَمُفْصِحًا عَنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ ، وَعُلُوِّ شَأْنِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، وَحُجَّةً لِرَسُولِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِهِ ، وَعَلَمًا عَلَى صِدْقِهِ ، وَبَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ أَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ ، وَصَادِعٌ بِأَمْرِهِ .
فَمَا أَشْرَفَهُ مِنْ كِتَابٍ يَتَضَمَّنُ صِدْقَ مُتَحَمِّلِهِ ، وَرِسَالَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ مُؤَدِّيهَا . بَيَّنَ فِيهِ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ حُجَّتَهُ كَافِيَةٌ هَادِيَةٌ ، لَا يُحْتَاجُ مَعَ وُضُوحِهَا إِلَى بَيِّنَةٍ تَعْدُوهَا ، أَوْ حُجَّةٍ تَتْلُوهَا ، وَأَنَّ الذَّهَابَ عَنْهَا كَالذَّهَابِ عَنِ الضَّرُورِيَّاتِ ، وَالتَّشَكُّكِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ . وَلِذَلِكَ قَالَ - عَزَّ ذِكْرُهُ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=7وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ . وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=14وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=15لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ .
فَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى جَزِيلِ إِحْسَانِهِ ، وَعَظِيمِ مِنَنِهِ .
وَالصَّلَاةُ عَلَى
مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَآلِهِ ، وَسَلَّمَ .
وَمِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ دِينِ اللَّهِ كَشْفُهُ ، وَأَوْلَى مَا يَلْزَمُ بَحْثُهُ ؛
[ ص: 4 ] مَا كَانَ لِأَصْلِ دِينِهِمْ قِوَامًا ، وَلِقَاعِدَةِ تَوْحِيدِهِمْ عِمَادًا وَنِظَامًا ، وَعَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُرْهَانًا ، وَلِمُعْجِزَتِهِ ثَبَتًا وَحُجَّةً .
وَلَا سِيَّمَا أَنَّ الْجَهْلَ مَمْدُودُ الرِّوَاقِ ، شَدِيدُ النَّفَاقِ ، مُسْتَوْلٍ عَلَى الْآفَاقِ ، وَالْعِلْمَ إِلَى عَفَاءٍ وَدُرُوسٍ ، وَعَلَى خَفَاءٍ وَطُمُوسٍ ، وَأَهْلُهُ فِي جَفْوَةِ الزَّمَنِ الْبَهِيمِ ، يُقَاسُونَ مِنْ عُبُوسِهِ لِقَاءَ الْأَسَدِ الشَّتِيمِ حَتَّى صَارَ مَا يُكَابِدُونَهُ قَاطِعًا عَنِ الْوَاجِبِ مِنْ سُلُوكِ مَنَاهِجِهِ ، وَالْأَخْذِ فِي سُبُلِهِ .
فَالنَّاسُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ : ذَاهِبٍ عَنِ الْحَقِّ ، ذَاهِلٍ عَنِ الرُّشْدِ ، وَآخَرَ مَصْدُودٍ عَنْ نُصْرَتِهِ ، مَكْدُودٍ فِي صَنْعَتِهِ .
فَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى خَوْضِ الْمُلْحِدِينَ ، فِي أُصُولِ الدِّينِ ، وَتَشْكِيكِهِمْ أَهْلَ الضَّعْفِ فِي كُلِّ يَقِينٍ .
وَقَدْ قَلَّ أَنْصَارُهُ ، وَاشْتَغَلَ عَنْهُ أَعْوَانُهُ ، وَأَسْلَمَهُ أَهْلُهُ . فَصَارَ عُرْضَةً لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِيهِ ، حَتَّى عَادَ مِثْلَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا خَاضُوا فِيهِ عِنْدَ ظُهُورِ أَمْرِهِ . فَمِنْ قَائِلٍ قَالَ : إِنَّهُ سِحْرٌ ، وَقَائِلٍ يَقُولُ : إِنَّهُ شِعْرٌ ، وَآخَرَ يَقُولُ : إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، وَقَالُوا : لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا . إِلَى الْوُجُوهِ الَّتِي حَكَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ ، وَتَكَلَّمُوا بِهِ ، فَصَرَفُوهُ إِلَيْهِ .
وَذُكِرَ لِي عَنْ بَعْضِ جُهَّالِهِمْ أَنَّهُ جَعَلَ يَعْدِلُهُ بِبَعْضِ الْأَشْعَارِ ، وَيُوَازِنُ
[ ص: 5 ] بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ ، وَلَا يَرْضَى بِذَلِكَ حَتَّى يُفَضِّلَهُ عَلَيْهِ !
وَلَيْسَ هَذَا بِبَدِيعٍ مِنْ مُلْحِدَةِ هَذَا الْعَصْرِ ، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى عُظْمِ مَا يَقُولُونَهُ إِخْوَانُهُمْ مِنْ مُلْحِدَةِ
قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ . إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ كَانَ طَعَنَ فِيهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ اسْتَبَانَ رُشْدَهُ ، وَأَبْصَرَ قَصْدَهُ ، فَتَابَ وَأَنَابَ ، وَعَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ الْحَقَّ بِغَرِيزَةِ طَبْعِهِ ، وَقُوَّةِ إِتْقَانِهِ ، لَا لِتَصَرُّفِ لِسَانِهِ ، بَلْ لِهِدَايَةِ رَبِّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ . وَالْجَهْلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَغْلَبُ ، وَالْمُلْحِدُونَ فِيهِ عَنِ الرُّشْدِ أَبْعَدُ ، وَعَنِ الْوَاجِبِ أَذْهَبُ .
وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِمَّنْ عَمِلَ الْكُتُبَ النَّافِعَةَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ ، وَتَكَلَّمَ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ أَهْلِ صَنْعَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْكَلَامِ ، أَنْ يَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ وَجْهِ مُعْجِزَتِهِ ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى مَكَانِهِ . فَهُوَ أَحَقُّ بِكَثِيرٍ مِمَّا صَنَّفُوا فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْجُزْءِ وَالطَّفْرَةِ ، وَدَقِيقِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ ، وَكَثِيرٍ مِنْ بَدِيعِ الْإِعْرَابِ وَغَامِضِ النَّحْوِ . فَالْحَاجَةُ إِلَى هَذَا أَمَسُّ ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْجَبُ .
وَقَدْ قَصَّرَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَحَوُّلِ قَوْمٍ مِنْهُمْ إِلَى مَذَاهِبِ الْبَرَاهِمَةِ فِيهَا ، وَرَأَوْا أَنَّ عَجْزَ أَصْحَابِهِمْ عَنْ نُصْرَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا مُسْتَنْصَرَ فِيهَا ، وَلَا وَجْهَ لَهَا ، حِينَ رَأَوْهُمْ قَدْ بَرَعُوا فِي لَطِيفِ مَا أَبْدَعُوا ، وَانْتَهَوْا إِلَى الْغَايَةِ فِيمَا أَحْدَثُوا وَوَضَعُوا . ثُمَّ رَأَوْا مَا صَنَّفُوهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ كَامِلٍ فِي بَابِهِ ، وَلَا مُسْتَوْفًى فِي وَجْهِهِ ، قَدْ أُخِلَّ بِتَهْذِيبِ طُرُقِهِ ، وَأُهْمِلَ تَرْتِيبُ بَيَانِهِ .
وَقَدْ يُعْذَرُ بَعْضُهُمْ فِي تَفْرِيطٍ يَقَعُ مِنْهُ فِيهِ ، وَذَهَابٍ عَنْهُ ، لِأَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِحْكَامُهُ إِلَّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ فِي أُمُورٍ شَرِيفَةِ الْمَحَلِّ ، عَظِيمَةِ الْمِقْدَارِ ، دَقِيقَةِ الْمَسْلَكِ ، لَطِيفَةِ الْمَأْخَذِ .
[ ص: 6 ] وَإِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِيهَا ، اسْتَبَانَ مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ ، حَتَّى يُمْكِنَ بَعْدَهَا إِحْكَامُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الشَّأْنِ .
وَقَدْ صَنَّفَ
nindex.php?page=showalam&ids=13974 " الْجَاحِظُ " فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ كِتَابًا ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ قَبْلَهُ ، وَلَمْ يَكْشِفْ عَمَّا يَلْتَبِسُ فِي أَكْثَرِ هَذَا الْمَعْنَى .
* * *
وَسَأَلَنَا سَائِلٌ أَنْ نَذْكُرَ جُمْلَةً مِنَ الْقَوْلِ جَامِعَةً ، تُسْقِطُ الشُّبُهَاتِ ، وَتُزِيلُ الشُّكُوكَ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْجُهَّالِ ، وَتَنْتَهِي إِلَى مَا يَخْطُرُ لَهُمْ ، وَيَعْرِضُ لِأَفْهَامِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ .
فَأَجَبْنَاهُ إِلَى ذَلِكَ ، مُتَقَرِّبِينَ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ وَعَلَى حُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ .
وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَا سَبَقَ فِيهِ الْبَيَانُ مِنْ غَيْرِنَا ، وَنُشِيرُ إِلَيْهِ وَلَا نَبْسُطُ الْقَوْلَ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مَا أَلَّفْنَاهُ مُكَرَّرًا وَمَقُولًا ، بَلْ يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْ جِهَةِ هَذَا الْكِتَابِ خَاصَّةً .
وَنَصِفُ مَا يَجِبُ وَصْفُهُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَنْزِيلِ مُتَصَرَّفَاتِ الْخِطَابِ ، وَتَرْتِيبِ وُجُوهِ الْكَلَامِ ، وَمَا تَخْتَلِفُ فِيهِ طُرُقُ الْبَلَاغَةِ ، وَتَتَفَاوَتُ مِنْ جِهَتِهِ سُبُلُ الْبَرَاعَةِ ، وَمَا يَشْتَبِهُ لَهُ ظَاهِرُ الْفَصَاحَةِ ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُخْتَلِفُونَ مِنْ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَالْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ .
ثُمَّ مَا اخْتَلَفَتْ بِهِ مَذَاهِبُ مُسْتَعْمِلِيهِ فِي فُنُونِ مَا يَنْقَسِمُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ ، مِنْ شِعْرٍ وَرَسَائِلَ وَخُطَبٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَجَارِي الْخِطَابِ . وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ أُصُولَ مَا يَبِينُ فِيهِ التَّفَاصُحُ ، وَتُقْصَدُ فِيهِ الْبَلَاغَةُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ يُتَعَمَّلُ لَهَا فِي الْأَغْلَبِ ، وَلَا يُتَجَوَّزُ فِيهَا .
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْكَلَامُ الدَّائِرُ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ . وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ أَكْثَرُ ؛
[ ص: 7 ] لِأَنَّ التَّعَمُّلَ فِيهِ أَقَلُّ ، إِلَّا مِنْ غَزَارَةِ طَبْعٍ ، أَوْ فَطَانَةِ تَصَنُّعٍ وَتَكَلُّفٍ .
وَنُشِيرُ إِلَى مَا يَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ ، لِيُعْرَفَ عَظِيمُ مَحَلِّ الْقُرْآنِ ، وَلِيُعْلَمَ ارْتِفَاعُهُ عَنْ مَوَاقِعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، وَتَجَاوُزُهُ الْحَدَّ الَّذِي يَصِحُّ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُوَازَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، أَوْ يَشْتَبِهَ ذَلِكَ عَلَى مُتَأَمِّلٍ .
وَلَسْنَا نَزْعُمُ أَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نُبَيِّنَ مَا رُمْنَا بَيَانَهُ ، وَأَرَدْنَا شَرْحَهُ وَتَفْصِيلَهُ ، لِمَنْ كَانَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَدَبِ ذَاهِبًا وَعَنْ وَجْهِ اللِّسَانِ غَافِلًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ فِيمَا نَعْرِضُ عَلَيْهِ مِمَّا قَصَدْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، قَدْ وَقَفَ عَلَى جُمَلٍ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَمُتَصَرَّفَاتِهِ وَمَذَاهِبِهِ ، وَعَرَفَ جُمْلَةً مِنْ طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَنَظَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ .
وَإِنَّمَا ضَمِنَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهِ الْبَيَانَ لِمِثْلِ مَنْ وَصَفْنَاهُ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=3كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=3إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .