الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ونحن نذكر آيات أخر ، لتزداد استبصارا ، وتتيقن تيقنا :

تأمل من الكلام المؤتلف قوله : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير .

أنت قد تدربت الآن بحفظ أسماء الله تعالى وصفاته ، فانظر متى وجدت في كلام البشر وخطبهم مثل هذا النظم في هذا القدر ، وما يجمع ما تجمع هذه الآية من شريف المعاني وحسن الفاتحة والخاتمة .

ثم اتل ما بعدها من الآي ، واعرف وجه الخلوص من شيء إلى شيء : من احتجاج إلى وعيد ، ومن إعذار إلى إنذار ، ومن فنون من الأمر شتى ، مختلفة تأتلف بشريف النظم ، ومتباعدة تتقارب بعلي الضم .

ثم جاء إلى قوله : كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار .

الآية الأولى أربعة فصول ، والثانية فصلان .

وجه الوقوف على شرف الكلام : أن تتأمل موقع قوله :

وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وهل تقع في الحسن موقع قوله : " ليأخذوه " كلمة ؟ وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة ؟ وهل يسد مسده في الأصالة نكتة ؟ لو وضع موضع ذلك : " ليقتلوه " ، أو " ليرجموه " ، أو " لينفوه " ، أو " ليطردوه " ، أو " ليهلكوه " ، أو " ليذلوه " ، ونحو هذا ؛ ما كان ذلك بديعا ولا بارعا ، ولا عجيبا ولا بالغا .

[ ص: 198 ] فانقد موضع هذه الكلمة ، وتعلم بها ما تذهب إليه من تخير الكلام ، وانتقاء الألفاظ ، والاهتداء للمعاني .

فإن كنت تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التي عددناها عليك أو غيرها ، يقوم مقام هذه اللفظة - لم تقف على غرضنا من هذا الكتاب ، فلا سبيل لك إلى الوقوف على تصاريف الخطاب ، فافزع إلى التقليد ، واكف نفسك مؤونة التفكير .

وإن فطنت ؛ فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره ، بقوله : فأخذتهم فكيف كان عقاب ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة ، وأتلاها تلو العذاب في الدنيا ، على الإحكام الذي رأيت .

ثم ذكر المؤمنين بالقرآن ، بعد ذكر المكذبين بالآيات والرسل ، فقال : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به إلى أن ذكر ثلاث آيات .

وهذا كلام مفصول ، تعلم عجيب اتصاله بما سبق ومضى ، وانتسابه إلى ما تقدم وانقضى ، وعظم موقعه في معناه ، ورفيع ما يتضمن من تحميدهم وتسبيحهم ، وحكاية كيفية دعاء الملائكة بقوله : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما .

هل تعرف شرف هذه الكلمة لفظا ومعنى ، ولطيف هذه الحكاية ، وتلاؤم هذا الكلام ، وتشاكل هذا النظام ؟ فكيف يهتدي إلى وضع هذه المعاني بشري ، وإلى تركيب ما يلائمها من الألفاظ إنسي ؟

ثم ذكر ثلاث آيات في أمر الكافرين على ما ترى .

ثم نبه على أمر القرآن ، وأنه من آياته ، بقوله : هو الذي يريكم [ ص: 199 ] آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب .

وإنما ذكر هذين الأمرين اللذين يختص بالقدرة عليهما ، لتناسبهما في أنهما من تنزيله من السماء ، ولأن الرزاق الذي لو لم يرزق لم يمكن بقاء النفس ، تجب طاعته والنظر في آياته .

ثم قال : فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار .

قف على هذه الدلالة ، وفكر فيها ، وراجع نفسك في مراعاة معاني هذه الصفات العالية ، والكلمات السامية ، والحكم البالغة ، والمعاني الشريفة - تعلم ورودها عن الإلهية ، ودلالتها على الربوبية ، وتتحقق أن الخطب المنقولة عنهم ، والأخبار المأثورة في كلماتهم الفصيحة ، من الكلام الذي تعلق به الهمم البشرية ، وما تحوم عليه الأفكار الآدمية ، وتعرف مباينتها لهذا الضرب من القول .

أي خاطر يتشوف إلى أن يقول : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون ؟

وأي لفظ يدرك هذا المضمار ؟ وأي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من الغور ؟ وأي فصيح يهتدي إلى هذا النظم ؟

ثم استقرئ الآية إلى آخرها ، واعتبر كلماتها ، وراع بعدها قوله : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب .

من يقدر على تأليف هذه الكلمات الثلاث ، على قربها ، وعلى خفتها في النظم وموقعها من القلب ؟

[ ص: 200 ] ثم تأمل قوله : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير .

كل كلمة من ذلك على ما قد وصفتها : من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة كانت عينها ، أو في خطبة كانت وجهها أو قصيدة كانت غرة غرتها ، وبيت قصيدتها ، كالياقوتة التي تكون فريدة العقد ، وعين القلادة ، ودرة الشذر ، إذا وقع بين كلام وشحه ، وإذا ضمن في نظام زينه ، وإذا اعترض في خطاب تميز عنه ، وبان بحسنه منه .

ولست أقول هذا لك في آية ، دون آية ، وسورة دون سورة ، وفصل دون فصل ، وقصة دون قصة ، ومعنى دون معنى ؛ لأني قد شرحت لك أن الكلام في حكاية القصص والأخبار ، وفي الشرائع والأحكام ، وفي الديانة والتوحيد ، وفي الحجج والتثبيت ، هو خلاف الكلام فيما عدا هذه الأمور .

ألا ترى أن الشاعر المفلق إذا جاء إلى الزهد قصر ، والأديب إذا تكلم في بيان الأحكام وذكر الحلال والحرام ، لم يكن كلامه على حسب كلامه في غيره .

ونظم القرآن لا يتفاوت في شيء ، ولا يتباين في أمر ، ولا يختل في حال ؛ بل له المثل الأعلى ، والفضل الأسنى .

وفيما شرحناه لك كفاية ، وفيما بيناه بلاغ .

* *

التالي السابق


الخدمات العلمية