[ ص: 254 ] فصل
في
nindex.php?page=treesubj&link=28741قدر المعجز من القرآن
الذي ذهب إليه عامة أصحابنا - وهو قول الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري في كتبه - أن
nindex.php?page=treesubj&link=28899_18626_20759أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة ، قصيرة كانت أو طويلة ، أو ما كان بقدرها .
قال : فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة ، وإن كانت سورة الكوثر ، فذلك معجز .
قال : ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر .
وذهبت " المعتزلة " إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة .
وقد حكي عنهم نحو قولنا ، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة ، بل شرط الآيات الكثيرة .
وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها ، ولم يخص . ولم يأتوا لشيء منها بمثل ، فعلم أن جميع ذلك معجز .
وأما قوله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله فليس بمخالف لهذا ؛ لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة .
وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ويؤيده ، وإن كان قد يتأول قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله على أن يكون راجعا إلى القبيل دون التفصيل .
وكذلك يحمل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله على القبيل ؛ لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره .
فإن قيل : هل تعرفون إعجاز السور القصار بما تعرفون إعجاز السور الطوال ؟
[ ص: 255 ] وهل تعرفون إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها ؟
فالجواب : أن شيخنا
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبا الحسن الأشعري - رحمه الله - أجاب عن ذلك : بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها .
وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن ، يقول : إن ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفا .
والطريقة الأولى أسد . وليس هذا الذي ذكرناه أخيرا بمناف له ؛ لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة تتوافى عليه وتجتمع فيه .
واعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضربا من الفائدة .
لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا - موجود في كل سورة ، صغرت أو كبرت ، فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا .
والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها في كتابنا من التفصيل الذي بينا ، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة ، وتتبين به البلاغة ، حتى يعلم ذلك بوجه آخر ، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزا حتى يستدل به من وجه آخر سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة ، وهذا غير ممتنع .
ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهر ، وفي بعضها أغمض وأدق ؟ فلا يفتقر البليغ في النظر في حال بعضها إلى تأمل كثير ، ولا بحث شديد ، حتى يتبين له الإعجاز .
ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق وبحث لطيف ، حتى يقع على الجلية ، ويصل إلى المطلب .
ولا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور ، فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف ، أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه .
[ ص: 256 ] فإن ادعى ملحد ، أو زعم زنديق ، أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار !
قلنا له : إن الإعجاز قد حصل بما بيناه ، وعرف بما وقفنا عليه من عجز العرب عنه .
ثم فيه شيء آخر ، وهو : أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد ، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز ، فكيف يجوز أن نناظره على تفصيله ؟ !
وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال ، قامت الحجة عليه ، وثبتت المعجزة ، ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات . ونحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه ، والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل لم يبق بعد ذلك إلا قولنا ؛ لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا ، ثم عرفنا في الباقي بالتوقيف ، ونحو ذلك .
وليس بممتنع اختلاف حال الكلام ، حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر ، وفي بعضه أغمض ؛ ومن آمن ببعض دون بعض كان مذموما ، على ما قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=82وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء ببعضه أوقع ، وإن كنا نقول : إنه يدل على أن الشفاء في جميعه .
واعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغ والبليغ ، ولذلك كانوا يسمون الكلمة : " يتيمة " ، ويسمون البيت الواحد : " يتيما " .
سمعت
إسماعيل بن عباد يقول : سمعت
أبا بكر بن مقسم يقول :
[ ص: 257 ] سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=15611ثعلبا يقول : سمعت
سلمة يقول : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء يقول : العرب تسمي البيت الواحد يتيما ، وكذلك يقال : " الدرة اليتيمة " ، لانفرادها ، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي " نتفة " ، وإلى العشرة تسمى " قطعة " ، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى " قصيدا " . وذلك مأخوذ من المخ القصيد ، وهو المتراكم بعضه على بعض ، وهو ضد الرار ، ومثله الرثيد .
انتهت الحكاية ، ثم استشهد بقول
لبيد :
فتذكرا ثقلا رثيدا بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر
يريد بيض النعام ، لأنه ينضد بعضه على بعض .
وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر ، والمثل السائر ، والمعنى الغريب ، والشيء الذي لو اجتهد له لم يقع عليه ، فيتفق له ويصادفه .
قال لي بعض علماء هذه الصنعة - وجاريته في ذلك - : إن هذا مما
[ ص: 258 ] لا سبب له يخصه ، وإنما سببه الغزارة في أصل الصنعة ، والتقدم في عيون المعرفة ؛ فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب ، وما يشذ عن تفصيل الحساب .
فأما ما قلنا : من أن ما بلغ قدر السورة معجز ، فإن ذلك صحيح .
[ ص: 254 ] فَصْلٌ
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28741قَدْرِ الْمُعْجِزِ مِنَ الْقُرْآنِ
الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا - وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي كُتُبِهِ - أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28899_18626_20759أَقَلَّ مَا يُعْجَزُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ السُّورَةُ ، قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً ، أَوْ مَا كَانَ بِقَدْرِهَا .
قَالَ : فَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ، فَذَلِكَ مُعْجِزٌ .
قَالَ : وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ .
وَذَهَبَتِ " الْمُعْتَزِلَةُ " إِلَى أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ بِرَأْسِهَا فَهِيَ مُعْجِزَةٌ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ نَحْوُ قَوْلِنَا ، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ الْآيَةِ بِقَدْرِ السُّورَةِ ، بَلْ شَرَطَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ .
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ تَحَدِّيًا إِلَى السُّوَرِ كُلِّهَا ، وَلَمْ يَخُصَّ . وَلَمْ يَأْتُوا لِشَيْءٍ مِنْهَا بِمِثْلٍ ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُعْجِزٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ التَّامَّ لَا تَتَحَصَّلُ حِكَايَتُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ كَلِمَاتِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ .
وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَيُؤَيِّدُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْقَبِيلِ دُونَ التَّفْصِيلِ .
وَكَذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ عَلَى الْقَبِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلْ تَعْرِفُونَ إِعْجَازَ السُّوَرِ الْقِصَارِ بِمَا تَعْرِفُونَ إِعْجَازَ السُّوَرِ الطِّوَالِ ؟
[ ص: 255 ] وَهَلْ تَعْرِفُونَ إِعْجَازَ كُلِّ قَدْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ بِمِثْلِ مَا تَعْرِفُونَ بِهِ إِعْجَازَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّ شَيْخَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=13711أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ : بِأَنَّ كُلَّ سُورَةٍ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهَا مُعْجِزَةً بِعَجْزِ الْعَرَبِ عَنْهَا .
وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْكُبَرَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ ، يَقُولُ : إِنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ ذَلِكَ تَوْقِيفًا .
وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَسَدُّ . وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَخِيرًا بِمُنَافٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْلَمَ إِعْجَازُهُ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ تَتَوَافَى عَلَيْهِ وَتَجْتَمِعُ فِيهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْتَ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ ضَرْبًا مِنَ الْفَائِدَةِ .
لِأَنَّ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى تُبَيِّنُ أَنَّ مَا عُلِمَ بِهِ كَوْنُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا - مَوْجُودٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ ، صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْكُلِّ وَاحِدًا .
وَالطَّرِيقَةُ الْأَخِيرَةُ تَتَضَمَّنُ تَعَذُّرَ مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي سَلَكْنَاهَا فِي كِتَابِنَا مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي بَيَّنَّا ، فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ فِي الْكَلَامِ الْفَصَاحَةُ ، وَتَتَبَيَّنُ بِهِ الْبَلَاغَةُ ، حَتَّى يُعْلَمَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ آخَرَ ، فَيَسْتَوِيَ فِي هَذَا الْقَدْرِ الْبَلِيغُ وَغَيْرُهُ فِي أَنْ لَا يَعْلَمَهُ مُعْجِزًا حَتَّى يَسْتَدِلَّ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سِوَى مَا يَعْلَمُهُ الْبُلَغَاءُ مِنَ التَّقَدُّمِ فِي الصَّنْعَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي بَعْضِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ أَظْهَرُ ، وَفِي بَعْضِهَا أَغْمَضُ وَأَدَقُّ ؟ فَلَا يَفْتَقِرُ الْبَلِيغُ فِي النَّظَرِ فِي حَالِ بَعْضِهَا إِلَى تَأَمُّلٍ كَثِيرٍ ، وَلَا بَحْثٍ شَدِيدٍ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْإِعْجَازُ .
وَيَفْتَقِرُ فِي بَعْضِهَا إِلَى نَظَرٍ دَقِيقٍ وَبَحْثٍ لَطِيفٍ ، حَتَّى يَقَعَ عَلَى الْجَلِيَّةِ ، وَيَصِلَ إِلَى الْمَطْلَبِ .
وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْهِ الْوَجْهُ فِي بَعْضِ السُّوَرِ ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَفْزَعَ فِيهِ إِلَى إِجْمَاعٍ أَوْ تَوْقِيفٍ ، أَوْ مَا عَلِمَهُ مِنْ عَجْزِ الْعَرَبِ قَاطِبَةً عَنْهُ .
[ ص: 256 ] فَإِنِ ادَّعَى مُلْحِدٌ ، أَوْ زَعَمَ زِنْدِيقٌ ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعَجْزُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ السُّوَرِ الْقِصَارِ أَوِ الْآيَاتِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ !
قُلْنَا لَهُ : إِنَّ اَلْإِعْجَازَ قَدْ حَصَلَ بِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَعُرِفَ بِمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ عَجْزِ الْعَرَبِ عَنْهُ .
ثُمَّ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ ، وَهُوَ : أَنَّ هَذَا سُؤَالٌ لَا يَسْتَقِيمُ لِلْمُلْحِدِ ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِعْجَازٌ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ نُنَاظِرَهُ عَلَى تَفْصِيلِهِ ؟ !
وَإِذَا ثَبَتَ لَنَا مَعَهُ إِعْجَازُهُ فِي السُّوَرِ الطِّوَالِ ، قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ ، وَثَبَتَتِ الْمُعْجِزَةُ ، وَلَا مَعْنَى لِطَلَبِهِ لِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ إِعْجَازَ الْبَعْضِ بِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَالْبَعْضِ الْآخَرِ بِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْأَصْلُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا فِي الْبَعْضِ الْإِعْجَازَ بِمَا بَيَّنَّا ، ثُمَّ عَرَفْنَا فِي الْبَاقِي بِالتَّوْقِيفِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ اخْتِلَافُ حَالِ الْكَلَامِ ، حَتَّى يَكُونَ الْإِعْجَازُ عَلَى بَعْضِهِ أَظْهَرَ ، وَفِي بَعْضِهِ أَغْمَضَ ؛ وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ كَانَ مَذْمُومًا ، عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=82وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرُهُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الشِّفَاءَ بِبَعْضِهِ أَوْقَعُ ، وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ : إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشِّفَاءَ فِي جَمِيعِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ يَقَعُ فِيهِ الْأَبْلَغُ وَالْبَلِيغُ ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْكَلِمَةَ : " يَتِيمَةً " ، وَيُسَمُّونَ الْبَيْتَ الْوَاحِدَ : " يَتِيمًا " .
سَمِعْتُ
إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبَّادٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ
أَبَا بَكْرِ بْنَ مِقْسَمٍ يَقُولُ :
[ ص: 257 ] سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=15611ثَعْلَبًا يَقُولُ : سَمِعْتُ
سَلَمَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=14888الْفَرَّاءَ يَقُولُ : الْعَرَبُ تُسَمِّي الْبَيْتَ الْوَاحِدَ يَتِيمًا ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ : " الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ " ، لِانْفِرَادِهَا ، فَإِذَا بَلَغَ الْبَيْتَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فَهِيَ " نُتْفَةٌ " ، وَإِلَى الْعَشْرَةِ تُسَمَّى " قِطْعَةً " ، وَإِذَا بَلَغَ الْعِشْرِينَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى " قَصِيدًا " . وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُخِّ الْقَصِيدِ ، وَهُوَ الْمُتَرَاكِمُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَهُوَ ضِدُّ الرَّارِ ، وَمِثْلُهُ الرَّثِيدُ .
انْتَهَتِ الْحِكَايَةُ ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ
لَبِيَدٍ :
فَتَذَكَّرَا ثَقَلًا رَثِيدًا بَعْدَمَا أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ
يُرِيدُ بَيْضَ النَّعَامِ ، لِأَنَّهُ يَنْضِدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ .
وَكَذَلِكَ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ الْبَيْتُ الْوَحْشِيُّ وَالنَّادِرُ ، وَالْمَثَلُ السَّائِرُ ، وَالْمَعْنَى الْغَرِيبُ ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَوِ اجْتَهَدَ لَهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ ، فَيَتَّفِقُ لَهُ وَيُصَادِفُهُ .
قَالَ لِي بَعْضُ عُلَمَاءِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ - وَجَارَيْتُهُ فِي ذَلِكَ - : إِنَّ هَذَا مِمَّا
[ ص: 258 ] لَا سَبَبَ لَهُ يَخُصُّهُ ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ الْغَزَارَةُ فِي أَصْلِ الصَّنْعَةِ ، وَالتَّقَدُّمُ فِي عُيُونِ الْمَعْرِفَةِ ؛ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مِنَ الْبَابِ مَا يَطَّرِدُ عَنْ حِسَابٍ ، وَمَا يَشِذُّ عَنْ تَفْصِيلِ الْحِسَابِ .
فَأَمَّا مَا قُلْنَا : مِنْ أَنَّ مَا بَلَغَ قَدْرَ السُّورَةِ مُعْجِزٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ .