ولما كان القرآن هو الأصل لجميعها بدأت به مستعينا بالله تعالى فقلت :
[ ص: 163 ] ( باب . الكتاب )
nindex.php?page=treesubj&link=20752_26502القرآن عند العلماء الأعيان . بدليل قول من نزل الفرقان ( {
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=29وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن } - إلى قوله - {
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=30إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } ) والمسموع واحد ، وبدليل قوله تعالى في آية أخرى {
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=1إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد } والإجماع منعقد على اتحاد اللفظين ، والكتاب في الأصل جنس ، ثم غلب على القرآن من بين الكتب في عرف أهل الشرع .
( وهو ) أي القرآن ( كلام منزل ) أي نزله السيد
جبريل صلوات الله وسلامه عليه ( على ) قلب سيدنا (
محمد ) رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال سبحانه وتعالى قل {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } ( معجز بنفسه ) أي مقصود به الإعجاز ، كما أنه مقصود به بيان الأحكام والمواعظ ، وقص أخبار من قص في القرآن من الأمم ، دليل التحدي به ، لقوله سبحانه وتعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } أي فأتوا بمثله ، إن ادعيتم القدرة فلما عجزوا تحداهم بعشر سور لقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } فلما عجزوا تحداهم بقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38قل فأتوا بسورة مثله } أي من مثل القرآن ، أو من مثل النبي صلى الله عليه وسلم فلما عجزوا تحداهم بدون ذلك لقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } أي فليأتوا بمثله ( متعبد بتلاوته ) لتخرج الآيات المنسوخة اللفظ سواء بقي حكمها أم لا . لأنها صارت بعد النسخ غير قرآن لسقوط التعبد بتلاوتها . ولذلك لا تعطى حكم القرآن ثم اعلم أنه لما ذكر أن القرآن كلام منزل احتاج إلى تبيين موضوع لفظ الكلام وما يتناوله لفظ الكلام حقيقة أو مجازا . وتسمى هذه المسألة مسألة الكلام ، وهي أعظم مسائل أصول الدين ، وهي مسألة طويلة الذيل ، حتى قيل : إنه لم يسم علم الكلام إلا لأجلها ولذلك اختلف فيها أئمة الإسلام المعتبرين ، المقتدى بهم اختلافا كثيرا متباينا .
[ ص: 164 ]
فالقول الأول : هو قول الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13464أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه منهم الإمام
أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وأتباعه : أن الكلام مشترك بين الألفاظ المسموعة ، وبين الكلام النفسي . وذلك : لأنه قد استعمل لغة وعرفا فيهما . والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فيكون مشتركا . أما استعماله في العبارة فكثير نحو قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=6حتى يسمع كلام الله } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=75يسمعون كلام الله ثم يحرفونه } ويقال : سمعت كلام فلان وفصاحته ، يعني ألفاظه الفصيحة ، وأما استعماله في المعنى النفسي وهو مدلول العبارة . فكقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=8ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } {
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=13وأسروا قولكم أو اجهروا به } وقول
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه في يوم السقيفة " زورت في نفسي كلاما " وقول الشاعر :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
والأصل في الإطلاق : الحقيقة . قال
الأشعري : لما كان يسمعه بلا انخراق وجب أن يكون كلامه بلا حرف ولا صوت . وذكر
الغزالي : أن قوما جعلوا الكلام حقيقة في المعنى مجازا في العبارة وقوما عكسوا ، وقوما قالوا : بالاشتراك .
فهي ثلاثة أقوال ونقلت عن
الأشعري . والمعنى النفسي نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم ، ونعني بالنسبة بين المفردين : أي بين المعنيين المفردين ، تعلق أحدهما بالآخر ، وإضافته إليه على جهة الإسناد الإفادي ، بحيث إذا عبر عن تلك النسبة بلفظ يطابقها ويؤدي معناها : كان ذلك اللفظ إسنادا إفاديا ، ومعنى قيام النسبة بالمتكلم : ما قاله
الفخر الرازي ، وهو أن الشخص إذا قال لغيره : اسقني ماء فقبل أن يتلفظ بهذه الصيغة قام بنفسه تصور حقيقة السقي وحقيقة الماء والنسبة الطلبية بينهما . فهذا هو الكلام النفسي . والمعنى القائم بالنفس ، وصيغة قوله : اسقني ماء ، عبارة عنه ودليل عنه .
وقال :
القرافي كل عاقل يجد في نفسه الأمر والنهي ، والخبر عن كون الواحد نصف الاثنين ، وعن حدوث العالم ونحو ذلك ، وهو غير مختلف فيه ، ثم يعبر عنه بعبارات ولغات مختلفة . فالمختلف هو الكلام اللساني ، وغير المختلف هو الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى . ويسمى ذلك : العلم
[ ص: 165 ] الخاص سمعا ; لأن إدراك الحواس إنما هي علوم خاصة أخص من مطلق العلم فكل إحساس علم وليس كل علم إحساسا . فإذا وجد هذا العلم الخاص في نفس
موسى المتعلق بالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى يسمى باسمه الموضوع له في اللغة ، وهو السماع . انتهى . هذا حقيقة مذهبهم . لكن
الأشعري وأتباعه قالوا : القرآن الموجود عندنا حكاية كلام الله تعالى .
nindex.php?page=showalam&ids=13464وابن كلاب وأتباعه . قالوا : القرآن الموجود بين الناس عبارة عن كلام الله تعالى لا عينه .
قال
ابن حجر : ورأيت
الشيخ تقي الدين عكس عنهما . فجعل العبارة عن
الأشعري ، والحكاية عن
nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب . وقال
الأشعري : كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12604الباقلاني : إنما نسمع التلاوة دون المتلو ، والقراءة دون المقروء . وذهب الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد إمام
أهل السنة من غير مدافعة رضي الله تعالى عنه وأصحابه ، وإمام أهل الحديث بلا شك
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه ، وجمهور العلماء - قاله
ابن مفلح في أصوله في الأمر ،
وابن قاضي الجبل - إلى أن الكلام ليس مشتركا بين العبارة ومدلولها ، بل الكلام حقيقة هو الحروف المسموعة من الصوت ، وإلى ذلك الإشارة بقوله ( والكلام حقيقة ) أي المتبادر إلى الذهن عند إطلاقه أنه ( الأصوات والحروف ) قال
الشيخ تقي الدين : المعروف عن
أهل السنة والحديث : أن الله تعالى يتكلم بصوت ، وهو قول جماهير فرق الأمة . فإن جماهير الطوائف يقولون : إن الله تعالى يتكلم بصوت ، مع تنازعهم في أن كلامه هل هو مخلوق أو قائم بنفسه قديم أو حادث ، أو ما زال يتكلم ( وإن سمي به ) أي يسمى بالكلام ( المعنى النفسي وهو ) أي المعنى النفسي ( نسبة بين مفردين قائمة ) أي تلك النسبة ( بالمتكلم ) وتقدم الكلام على المعنى النفسي ، يعني أنه متى أطلق الكلام على المعنى النفسي ( ف ) إطلاقه عليه ( مجاز ) وهذا عند الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد رضي الله عنه وغيره من
أهل السنة .
قال
الطوفي : إنما كان حقيقة في العبارة ، مجازا في مدلولها لوجهين : أحدهما : أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام : إنما هو العبارات ، والمبادرة
[ ص: 166 ] دليل الحقيقة . الثاني : أن الكلام مشتق من الكلم ، لتأثيره في نفس السامع ، والمؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات ، لا المعاني النفسية بالفعل ، نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة ، والعبارة مؤثرة بالفعل . فكانت أولى أن تكون حقيقة ، وما يكون مؤثرا بالقوة مجاز . قال المخالفون : استعمل لغة وعرفا فيهما . قلنا : نعم ، لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه ، وبالمجاز فيما ذكرتموه ؟ والأول ممنوع .
قالوا : الأصل في الإطلاق الحقيقة . قلنا : والأصل عدم الاشتراك ، ثم إذا تعارض المجاز والاشتراك المجرد ، فالمجاز أولى ، ثم إن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات ، وكثرة موارد الاستعمال تدل على الحقيقة . وأما قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=8ويقولون في أنفسهم } فمجاز ; لأنه إنما دل على المعنى النفسي بالقرينة . وهي قوله في أنفسهم ، ولو أطلق لما فهم إلا العبارة . وكذلك كل ما جاء من هذا الباب إنما يفيد مع القرينة .
ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه " زورت في نفسي كلاما " إنما أفاد ذلك بقرينة قوله " في نفسي " وأما قوله تعالى " {
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=13وأسروا قولكم أو اجهروا به } فلا حجة فيه ، لأن الإسرار نقيض الجهر . وكلاهما عبارة عن أن إحداهما أرفع صوتا من الأخرى ، وأما الشعر : فهو
nindex.php?page=showalam&ids=13672للأخطل . ويقال : إن المشهور فيه :
إن البيان لفي الفؤاد
، وبتقدير أن يكون كما ذكرتم فهو مجاز عن مادة الكلام ، وهو التصورات المصححة له ; إذ من لا يتصور منه معنى ما يقول لا يوجد منه كلام ، ثم هو مبالغة من هذا الشاعر في ترجيح الفؤاد على اللسان . انتهى كلام
الطوفي .
ونقل
ابن القيم في النونية : أن
الشيخ تقي الدين : رد كلام النفس من تسعين وجها .
وقال
الغزالي : من أحال سماع
موسى كلاما ليس بحرف ولا صوت فليحلل يوم القيامة رؤية ذات ليست بجسم ولا عرض . انتهى .
قال
الطوفي : كل هذا تكلف وخروج عن الظاهر ، بل عن القاطع من غير ضرورة إلا خيالات لاغية . وأوهام متلاشية . وما ذكروه معارض بأن المعاني لا تقوم شاهدا إلا بالأجسام . فإن أجازوا معنى قام بالذات القديمة وليست جسما ، فليجيزوا خروج صوت من الذات القديمة وليست جسما ، إذ كلا
[ ص: 167 ] الأمرين خلاف الشاهد ، ومن أحال كلاما لفظيا من غير جسم فليحلل ذاتا مرئية من غير جسم ، ولا فرق . ثم قال
الطوفي : والعجب من هؤلاء القوم - مع أنهم عقلاء فضلاء - يجيزون أن الله تعالى يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا ، وسمعا لكلامه النفسي من غير توسط حرف ولا صوت .
وأن ذلك من خاصة
موسى عليه السلام ، مع أن ذلك قلب لحقيقة السمع في الشاهد ، إذ حقيقة السمع في الشاهد إيصال الأصوات بحاسة ، ثم ينكرون علينا القول بأن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت قديمين من فوق السماء ، لكون ذلك مخالفا للشاهد فإن جاز قلب حقيقة السمع شاهدا بالنسبة إلى كلامه ، فلم لا يجوز مخالفته للشاهد بالنسبة إلى استوائه وكلامه على ما قلناه ؟ فإن قالوا : لأنه يستحيل وجود حرف وصوت إلا من جسد ووجود في جهة ليس بجسم . قلنا : إن عنيتم استحالته بالإضافة إلى الشاهد .
فسماع كلام بدون توسط صوت وحرف كذلك أيضا ، وإن عنيتم استحالته مطلقا فلا نسلم ، إذ الباري جل جلاله على خلاف المشاهد والمعقول في ذاته وصفاته . وقد وردت النصوص بما قلناه ، فوجب القول به . انتهى .
وقال
الحافظ أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم السجستاني عن قول
الأشعري " لما كان سمعه بلا انخراق . وجب أن يكون كلامه بلا حرف ولا صوت " هذا غير مسلم ، ولا يقتضي ما قاله ، وإنما يقتضي أن سمعه لما كان بلا انخراق وجب أن يكون كلامه بلا لسان وشفتين وحنك . وأيضا : لو كان الكلام من غير حرف ، وكانت الحروف عبارة عنه ، لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارة بحكم ، إما أن يكون أحدثها في صدر أو لوح ، أو أنطق بها بعض عبيده فتكون منسوبة إليه . فيلزم من يقول ذلك : أن يفصح بما عنده في السور والآي والحروف : أهي عبارة
جبريل أو
محمد عليهما الصلاة والسلام ؟ وأيضا قوله تعالى " {
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=40إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وكن حرفان ، ولا يخلو الأمر من أحد وجهين : إما أن يكون المراد بقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=40كن } " التكوين
كالمعتزلة ، أو يكون المراد به ظاهره ، وأن الله تعالى إذا أراد إيجاد
[ ص: 168 ] شيء قال له {
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=40كن } على الحقيقة فيكون .
وقد قال
الأشعري : إنه على ظاهره لا بمعنى التكوين . فيكون على ظاهره ، وهو حرفان ، وهو مخالف لمذهبه وإن قال : ليس بحرف صار بمعنى التكوين
كالمعتزلة . انتهى . وقال
الحافظ شهاب الدين ابن حجر ، في شرح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في باب كلام قوله " أنزله بعلمه والملائكة يشهدون " والمنقول عن
السلف اتفاقهم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، تلقاه
جبريل عن الله عز وجل وبلغه
جبريل إلى
محمد صلى الله عليه وسلم ، وبلغه
محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته ، انتهى .
وصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من
السلف أنهم قالوا : عن القرآن " منه بدأ وإليه يعود " ( والكتابة كلام حقيقة ) لقول
عائشة رضي الله عنها " ما بين دفتي المصحف كلام الله " واختلف كلام
nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي وغيره من أئمة أصحابنا في تسمية الكتابة كلاما حقيقة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13028المجد في المسودة عن القاضي أنه قال : إن الكتابة عندنا كلام حقيقة ، أظنه في مسألة الطلاق بالكتابة انتهى
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِهَا بَدَأْت بِهِ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَقُلْت :
[ ص: 163 ] ( بَابٌ . الْكِتَابُ )
nindex.php?page=treesubj&link=20752_26502الْقُرْآنُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ . بِدَلِيلِ قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( {
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=29وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْك نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } - إلَى قَوْلِهِ - {
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=30إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } ) وَالْمَسْمُوعُ وَاحِدٌ ، وَبِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=1إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ } وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى اتِّحَادِ اللَّفْظَيْنِ ، وَالْكِتَابُ فِي الْأَصْلِ جِنْسٌ ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ .
( وَهُوَ ) أَيْ الْقُرْآنُ ( كَلَامٌ مُنَزَّلٌ ) أَيْ نَزَّلَهُ السَّيِّدُ
جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ( عَلَى ) قَلْبِ سَيِّدِنَا (
مُحَمَّدٍ ) رَسُولِ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قُلْ {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِك بِإِذْنِ اللَّهِ } ( مُعْجِزٌ بِنَفْسِهِ ) أَيْ مَقْصُودٌ بِهِ الْإِعْجَازُ ، كَمَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ بَيَانُ الْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ ، وَقَصُّ أَخْبَارٍ مَنْ قُصَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأُمَمِ ، دَلِيلُ التَّحَدِّي بِهِ ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } أَيْ فَأْتُوا بِمِثْلِهِ ، إنْ ادَّعَيْتُمْ الْقُدْرَةَ فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=38قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } أَيْ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ ، أَوْ مِنْ مِثْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ } أَيْ فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِهِ ( مُتَعَبَّدٌ بِتِلَاوَتِهِ ) لِتَخْرُجَ الْآيَاتُ الْمَنْسُوخَةُ اللَّفْظِ سَوَاءٌ بَقِيَ حُكْمُهَا أَمْ لَا . لِأَنَّهَا صَارَتْ بَعْدَ النَّسْخِ غَيْرَ قُرْآنٍ لِسُقُوطِ التَّعَبُّدِ بِتِلَاوَتِهَا . وَلِذَلِكَ لَا تُعْطَى حُكْمَ الْقُرْآنِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ مُنَزَّلٌ احْتَاجَ إلَى تَبْيِينِ مَوْضُوعِ لَفْظِ الْكَلَامِ وَمَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْكَلَامِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا . وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ الْكَلَامِ ، وَهِيَ أَعْظَمُ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ ، حَتَّى قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يُسَمَّ عِلْمُ الْكَلَامِ إلَّا لِأَجْلِهَا وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهَا أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَبَرِينَ ، الْمُقْتَدَى بِهِمْ اخْتِلَافًا كَثِيرًا مُتَبَايِنًا .
[ ص: 164 ]
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : هُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=13464أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ : أَنَّ الْكَلَامَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ ، وَبَيْنَ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ . وَذَلِكَ : لِأَنَّهُ قَدْ اُسْتُعْمِلَ لُغَةً وَعُرْفًا فِيهِمَا . وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا . أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعِبَارَةِ فَكَثِيرٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=6حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=75يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } وَيُقَالُ : سَمِعْت كَلَامَ فُلَانٍ وَفَصَاحَتَهُ ، يَعْنِي أَلْفَاظَهُ الْفَصِيحَةَ ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ وَهُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَةِ . فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=8وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=13وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ } وَقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي يَوْمِ السَّقِيفَةِ " زَوَّرْت فِي نَفْسِي كَلَامًا " وَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ : الْحَقِيقَةُ . قَالَ
الْأَشْعَرِيُّ : لَمَّا كَانَ يَسْمَعُهُ بِلَا انْخِرَاقٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ بِلَا حَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ . وَذَكَرَ
الْغَزَالِيُّ : أَنَّ قَوْمًا جَعَلُوا الْكَلَامَ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى مَجَازًا فِي الْعِبَارَةِ وَقَوْمًا عَكَسُوا ، وَقَوْمًا قَالُوا : بِالِاشْتِرَاكِ .
فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَنُقِلَتْ عَنْ
الْأَشْعَرِيِّ . وَالْمَعْنَى النَّفْسِيُّ نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ قَائِمَةٌ بِالْمُتَكَلِّمِ ، وَنَعْنِي بِالنِّسْبَةِ بَيْنَ الْمُفْرَدَيْنِ : أَيْ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُفْرَدَيْنِ ، تَعَلُّقَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَإِضَافَتَهُ إلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الْإِسْنَادِ الْإِفَادِيِّ ، بِحَيْثُ إذَا عُبِّرَ عَنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ بِلَفْظٍ يُطَابِقُهَا وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا : كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ إسْنَادًا إفَادِيًّا ، وَمَعْنَى قِيَامِ النِّسْبَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ : مَا قَالَهُ
الْفَخْرُ الرَّازِيّ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّخْصَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ : اسْقِنِي مَاءً فَقَبْلَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ قَامَ بِنَفْسِهِ تَصَوُّرُ حَقِيقَةِ السَّقْيِ وَحَقِيقَةِ الْمَاءِ وَالنِّسْبَةِ الطَّلَبِيَّةِ بَيْنَهُمَا . فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ . وَالْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ ، وَصِيغَةُ قَوْلِهِ : اسْقِنِي مَاءً ، عِبَارَةٌ عَنْهُ وَدَلِيلٌ عَنْهُ .
وَقَالَ :
الْقَرَافِيُّ كُلُّ عَاقِلٍ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ، وَالْخَبَرَ عَنْ كَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ ، وَعَنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَهُوَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ وَلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ . فَالْمُخْتَلِفُ هُوَ الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ ، وَغَيْرُ الْمُخْتَلِفِ هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى . وَيُسَمَّى ذَلِكَ : الْعِلْمُ
[ ص: 165 ] الْخَاصُّ سَمْعًا ; لِأَنَّ إدْرَاكَ الْحَوَاسِّ إنَّمَا هِيَ عُلُومٌ خَاصَّةٌ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْعِلْمِ فَكُلُّ إحْسَاسٍ عِلْمٌ وَلَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ إحْسَاسًا . فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْعِلْمُ الْخَاصُّ فِي نَفْسِ
مُوسَى الْمُتَعَلِّقُ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يُسَمَّى بِاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اللُّغَةِ ، وَهُوَ السَّمَاعُ . انْتَهَى . هَذَا حَقِيقَةُ مَذْهَبِهِمْ . لَكِنَّ
الْأَشْعَرِيَّ وَأَتْبَاعَهُ قَالُوا : الْقُرْآنُ الْمَوْجُودُ عِنْدَنَا حِكَايَةُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى .
nindex.php?page=showalam&ids=13464وَابْنُ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعُهُ . قَالُوا : الْقُرْآنُ الْمَوْجُودُ بَيْنَ النَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَيْنِهِ .
قَالَ
ابْنُ حَجَرٍ : وَرَأَيْت
الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ عَكَسَ عَنْهُمَا . فَجَعَلَ الْعِبَارَةَ عَنْ
الْأَشْعَرِيِّ ، وَالْحِكَايَةَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ . وَقَالَ
الْأَشْعَرِيُّ : كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ يُسْمَعُ عِنْدَ تِلَاوَةِ كُلِّ تَالٍ وَقِرَاءَةِ كُلِّ قَارِئٍ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12604الْبَاقِلَّانِيُّ : إنَّمَا نَسْمَعُ التِّلَاوَةَ دُونَ الْمَتْلُوِّ ، وَالْقِرَاءَةَ دُونَ الْمَقْرُوءِ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ إمَامُ
أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ ، وَإِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِلَا شَكٍّ
nindex.php?page=showalam&ids=12070مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ - قَالَهُ
ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ فِي الْأَمْرِ ،
وَابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ - إلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْعِبَارَةِ وَمَدْلُولِهَا ، بَلْ الْكَلَامُ حَقِيقَةً هُوَ الْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الصَّوْتِ ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ( وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً ) أَيْ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ ( الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ ) قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : الْمَعْرُوفُ عَنْ
أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ فِرَقِ الْأُمَّةِ . فَإِنَّ جَمَاهِيرَ الطَّوَائِفِ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ ، مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي أَنَّ كَلَامَهُ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ قَدِيمٌ أَوْ حَادِثٌ ، أَوْ مَا زَالَ يَتَكَلَّمُ ( وَإِنَّ سُمِّيَ بِهِ ) أَيْ يُسَمَّى بِالْكَلَامِ ( الْمَعْنَى النَّفْسِيُّ وَهُوَ ) أَيْ الْمَعْنَى النَّفْسِيُّ ( نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ قَائِمَةٌ ) أَيْ تِلْكَ النِّسْبَةُ ( بِالْمُتَكَلِّمِ ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ ، يَعْنِي أَنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ ( فَ ) إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ ( مَجَازٌ ) وَهَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ
أَهْلِ السُّنَّةِ .
قَالَ
الطُّوفِيُّ : إنَّمَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْعِبَارَةِ ، مَجَازًا فِي مَدْلُولِهَا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُتَبَادَرَ إلَى فَهْمِ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ إطْلَاقِ الْكَلَامِ : إنَّمَا هُوَ الْعِبَارَاتُ ، وَالْمُبَادَرَةُ
[ ص: 166 ] دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ . الثَّانِي : أَنَّ الْكَلَامَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَلْمِ ، لِتَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ إنَّمَا هُوَ الْعِبَارَاتُ ، لَا الْمَعَانِي النَّفْسِيَّةُ بِالْفِعْلِ ، نَعَمْ هِيَ مُؤَثِّرَةٌ لِلْفَائِدَةِ بِالْقُوَّةِ ، وَالْعِبَارَةُ مُؤَثِّرَةٌ بِالْفِعْلِ . فَكَانَتْ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً ، وَمَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا بِالْقُوَّةِ مَجَازٌ . قَالَ الْمُخَالِفُونَ : اُسْتُعْمِلَ لُغَةً وَعُرْفًا فِيهِمَا . قُلْنَا : نَعَمْ ، لَكِنْ بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَبِالْمَجَازِ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ ؟ وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ .
قَالُوا : الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ . قُلْنَا : وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ ، ثُمَّ إذَا تَعَارَضَ الْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ الْمُجَرَّدُ ، فَالْمَجَازُ أَوْلَى ، ثُمَّ إنَّ لَفْظَ الْكَلَامِ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِبَارَاتِ ، وَكَثْرَةُ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=8وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } فَمَجَازٌ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ بِالْقَرِينَةِ . وَهِيَ قَوْلُهُ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ أُطْلِقَ لَمَا فُهِمَ إلَّا الْعِبَارَةُ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إنَّمَا يُفِيدُ مَعَ الْقَرِينَةِ .
وَمِنْهُ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " زَوَّرْت فِي نَفْسِي كَلَامًا " إنَّمَا أَفَادَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ " فِي نَفْسِي " وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى " {
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=13وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ } فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، لِأَنَّ الْإِسْرَارَ نَقِيضُ الْجَهْرِ . وَكِلَاهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ إحْدَاهُمَا أَرْفَعُ صَوْتًا مِنْ الْأُخْرَى ، وَأَمَّا الشِّعْرُ : فَهُوَ
nindex.php?page=showalam&ids=13672لِلْأَخْطَلِ . وَيُقَالُ : إنَّ الْمَشْهُورَ فِيهِ :
إنَّ الْبَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ
، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ مَادَّةِ الْكَلَامِ ، وَهُوَ التَّصَوُّرَاتُ الْمُصَحِّحَةُ لَهُ ; إذْ مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ مَعْنَى مَا يَقُولُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ كَلَامٌ ، ثُمَّ هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ فِي تَرْجِيحِ الْفُؤَادِ عَلَى اللِّسَانِ . انْتَهَى كَلَامُ
الطُّوفِيِّ .
وَنَقَلَ
ابْنُ الْقَيِّمِ فِي النُّونِيَّةِ : أَنَّ
الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ : رَدَّ كَلَامَ النَّفْسِ مِنْ تِسْعِينَ وَجْهًا .
وَقَالَ
الْغَزَالِيُّ : مَنْ أَحَالَ سَمَاعَ
مُوسَى كَلَامًا لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ فَلْيُحْلِلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُؤْيَةَ ذَاتٍ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ . انْتَهَى .
قَالَ
الطُّوفِيُّ : كُلُّ هَذَا تَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنْ الظَّاهِرِ ، بَلْ عَنْ الْقَاطِعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَّا خَيَالَاتٌ لَاغِيَةٌ . وَأَوْهَامٌ مُتَلَاشِيَةٌ . وَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ شَاهِدًا إلَّا بِالْأَجْسَامِ . فَإِنْ أَجَازُوا مَعْنًى قَامَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَتْ جِسْمًا ، فَلْيُجِيزُوا خُرُوجَ صَوْتٍ مِنْ الذَّاتِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَتْ جِسْمًا ، إذْ كِلَا
[ ص: 167 ] الْأَمْرَيْنِ خِلَافُ الشَّاهِدِ ، وَمَنْ أَحَالَ كَلَامًا لَفْظِيًّا مِنْ غَيْرِ جِسْمٍ فَلْيُحْلِلْ ذَاتًا مَرْئِيَّةً مِنْ غَيْرِ جِسْمٍ ، وَلَا فَرْقَ . ثُمَّ قَالَ
الطُّوفِيُّ : وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ - مَعَ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ فُضَلَاءُ - يُجِيزُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا ، وَسَمْعًا لِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ حَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ .
وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَاصَّةِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ السَّمْعِ فِي الشَّاهِدِ ، إذْ حَقِيقَةُ السَّمْعِ فِي الشَّاهِدِ إيصَالُ الْأَصْوَاتِ بِحَاسَّةٍ ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ قَدِيمَيْنِ مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ ، لِكَوْنِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلشَّاهِدِ فَإِنْ جَازَ قَلْبُ حَقِيقَةِ السَّمْعِ شَاهِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِهِ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ لِلشَّاهِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اسْتِوَائِهِ وَكَلَامِهِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ ؟ فَإِنْ قَالُوا : لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ حَرْفٍ وَصَوْتٍ إلَّا مِنْ جَسَدٍ وَوُجُودٌ فِي جِهَةٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ . قُلْنَا : إنْ عَنَيْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الشَّاهِدِ .
فَسَمَاعُ كَلَامٍ بِدُونِ تَوَسُّطِ صَوْتٍ وَحَرْفٍ كَذَلِكَ أَيْضًا ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ مُطْلَقًا فَلَا نُسَلِّمُ ، إذْ الْبَارِي جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى خِلَافِ الْمُشَاهَدِ وَالْمَعْقُولِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ . وَقَدْ وَرَدَتْ النُّصُوصُ بِمَا قُلْنَاهُ ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ . انْتَهَى .
وَقَالَ
الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ عَنْ قَوْلِ
الْأَشْعَرِيِّ " لَمَّا كَانَ سَمْعُهُ بِلَا انْخِرَاقٍ . وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ بِلَا حَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ " هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَلَا يَقْتَضِي مَا قَالَهُ ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ سَمْعَهُ لَمَّا كَانَ بِلَا انْخِرَاقٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ بِلَا لِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ وَحَنَكٍ . وَأَيْضًا : لَوْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ ، وَكَانَتْ الْحُرُوفُ عِبَارَةً عَنْهُ ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُحْكَمَ لِتِلْكَ الْعِبَارَةِ بِحُكْمٍ ، إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْدَثَهَا فِي صَدْرٍ أَوْ لَوْحٍ ، أَوْ أَنْطَقَ بِهَا بَعْضَ عَبِيدِهِ فَتَكُونَ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ . فَيَلْزَمَ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ : أَنْ يُفْصِحَ بِمَا عِنْدَهُ فِي السُّوَرِ وَالْآيِ وَالْحُرُوفِ : أَهِيَ عِبَارَةُ
جِبْرِيلَ أَوْ
مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؟ وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى " {
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=40إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَكُنْ حَرْفَانِ ، وَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=40كُنْ } " التَّكْوِينَ
كَالْمُعْتَزِلَةِ ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَهُ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ إيجَادَ
[ ص: 168 ] شَيْءٍ قَالَ لَهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=40كُنْ } عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَكُونُ .
وَقَدْ قَالَ
الْأَشْعَرِيُّ : إنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا بِمَعْنَى التَّكْوِينِ . فَيَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَهُوَ حَرْفَانِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِ وَإِنْ قَالَ : لَيْسَ بِحَرْفٍ صَارَ بِمَعْنَى التَّكْوِينِ
كَالْمُعْتَزِلَةِ . انْتَهَى . وَقَالَ
الْحَافِظُ شِهَابُ الدِّينِ ابْنُ حَجَرٍ ، فِي شَرْحِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ كَلَامِ قَوْلِهِ " أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ " وَالْمَنْقُولُ عَنْ
السَّلَفِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ، تَلَقَّاهُ
جِبْرِيلُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَلَّغَهُ
جِبْرِيلُ إلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبَلَّغَهُ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُمَّتِهِ ، انْتَهَى .
وَصَحَّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ مِنْ
السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : عَنْ الْقُرْآنِ " مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ " ( وَالْكِتَابَةُ كَلَامٌ حَقِيقَةً ) لِقَوْلِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " مَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ " وَاخْتَلَفَ كَلَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا فِي تَسْمِيَةِ الْكِتَابَةِ كَلَامًا حَقِيقَةً . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13028الْمَجْدُ فِي الْمُسَوَّدَةِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَنَا كَلَامٌ حَقِيقَةً ، أَظُنُّهُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ بِالْكِتَابَةِ انْتَهَى