والذين قالوا : وهو مع ذلك واحد ، إنما قالوه تبعا لأولئك وجريا على قياس قولهم ، وهو لازم لهم مع ظهور فساده ، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم . إن الكلام حروف وأصوات متقارنة قديمة لا يسبق بعضها بعضا،
ويلزم من قال ذلك أن يجعل الطعم واللون والريح شيئا واحدا .
وإذا قيل : هذا كالسواد والبياض .
قيل له : ويلزمك أن تجعل السواد والبياض شيئا واحدا ، كما جعلت العلم والقدرة والحياة شيئا واحدا .
فإذا قال : نحن تكلمنا فيما يمكن اجتماعه من المعاني ، والسواد والبياض متضادان .
قيل : الجواب من وجهين: [ ص: 122 ]
أحدهما : أنه يلزمك هذا في المعاني المختلفة التي يمكن اجتماعها ، كالطعم واللون والريح ، فقل إنها شيء واحد ، كما أن العلم والإرادة والقدرة ، والطلب والخبر والأمر والنهي شيء واحد .
الثاني : أن يقال : تضاد الحروف كتضاد معاني الكلام ، أو تضاد الحركات لا كتضاد السواد والبياض . فإن المحل الواحد لا يتسع لحركتين ولا لمعنيين ، فلا يتسع لحرفين وصوتين. وفرق بين ما يتضادان لأنفسهما، وما يتضادان لضيق المحل .
وإذا كان كذلك ، كان تضاد الحروف والحركات ، كتضاد معاني الكلام .
فإن قلب الإنسان يعجز في الساعة الواحدة عن جمع جميع معاني الكلام ، فإلحاق حروف الكلام بأسبابها ، وهي الحركات ومضموناتها ومدلولاتها ، وهي المعاني ، أولى من إلحاقها بالمتضادات لنفسها ، كالسواد والبياض .
وحينئذ فإذا جعلت معاني الكلام شيئا واحدا، فاجعل حروف الكلام شيئا واحدا ، وإلا فما الفرق؟
وقد يقال في الفرق : إن الحروف مقاطع الأصوات ، والأصوات تابعة لأسبابها ، وهي الحركات . والحركات : إما متماثلة وإما مختلفة ، وكل من الحركات المختلفة والمتماثلة متضادة ، لا يمكن اجتماع [ ص: 123 ] حركتين في محل واحد في زمن واحد ، فلا يجتمع صوتان ، فلا يجتمع حرفان .
والحركات هي من الأكوان ، والأكوان كالألوان ، فكما لا يجتمع لونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد ، فلا يجتمع كونان [مختلفان] في محل واحد في وقت واحد .
بخلاف معاني الكلام ، كالطلب الذي يتضمن الحب للمأمور به والبغض للمنهي عنه ، والخبر الذي يتضمن العلم والاعتقاد للمخبر عنه ، فإنها وإن كانت حقائق متنوعة، لكن لا يمنع اجتماعها ، فإن الأمر بالشيء لا يضاد النهي عن غيره ولا العلم بثالث ، فلم تتضاد لأنفسها، ولكنها لعجز العبد عن جمعها .
فالأمور ثلاثة أنواع : ما امتنع اجتماعها لنفسها ، كالألوان المختلفة . وما أمكن اجتماعها ، وقد تجتمع كالعلم والإرادة والقدرة ، والطعم واللون والريح . وما يعجز بعض الأحياء عن جمعها ، كجمع الإرادات الكثيرة والاعتقادات الكثيرة في زمن واحد، فهذه ليس بين حقائقها منافاة تمنع اجتماعها ، ولكن العبد يعجز عن جمعها ، كما أنه لا يمتنع أن يعمل بلسانه عملا وبيده [ ص: 124 ] عملا ، وبرجله عملا ، وأن يسمع كلام هذا القارئ وهذا القارئ وهذا القارئ ، فالجمع بين هذه الأمور قد يتعذر لعجز العبد لا لامتناع اجتماعها في نفسه ، فإن سمع هذا لا ينافي سمع هذا لذاته ، ولا هذه الحركة تنافي هذه الحركة لذاتها، ولهذا يعقل اجتماع هذه بخلاف اجتماع الضدين .