وكذلك رؤية المرئيات المختلفة لا تتضاد ، ولكن يتضاد تحريك الأجفان إلى جهتين مختلفتين ، فنفس الحركات متضادة ، وأما ما يحصل عنها من إدراك ، فليس هو في نفسه متضادا .
فإذا قدر إدراك لا يفتقر إلى حركة ، أو يحصل بحركة واحدة ، كمن ينظر إلى السماء بتحديق واحد ، لم يكن إدراكه لهذه المدركات في آن واحد متضادا ، فهل يمكن أن يقال في الصوت مثل ذلك ، وأنه يمكن حصول أصوات بلا حركات، وحينئذ فلا تتضاد تلك الأصوات المجتمعة في محل واحد في زمن واحد؟
فيه نزاع ، وجمهور العقلاء على امتناعه. فإن كان هذا مما يمكن اجتماعه صار كمعاني الكلام والصفات، وإن لم يمكن اجتماعه صار كالمتضادات .
وعلى هذا التقدير : فمن قال بإمكان اجتماع هذه الأمور، لم يكن في قوله من الاستبعاد أعظم من قول من يقول : تكون تلك الحقائق المختلفة شيئا واحدا . [ ص: 125 ]
وليس اجتماع ما يظهر تضاده بأعظم من اتحاد ما يعلم اختلافه .
وإذا قال القائل : ، بل العبد يختلف علمه باختلاف المعلومات، وإرادته باختلاف المرادات ، ويتعدد ذلك فيه ، والباري ليس كذلك . الأمور الإلهية لا تشبه بأحوال العباد
قيل : فإذا جوزتم أن يكون ما يعلم تعدده واختلافه في المخلوقين واحدا لا تعدد فيه ولا تنوع في حق الخالق، أمكن منازعكم أن يقول كذلك ، فيقول : ما يمتنع اجتماعه في حقنا لا يمتنع اجتماعه في حقه، لأنه واسع لا يقاس بالمخلوقين . بل اجتماع الأمور التي يظهر تضادها فينا أقرب من اتحاد الأمور التي نعلم اختلافها ، فإن كون الشيء هو نفس ما يخالفه ، أمر فيه قلب الحقائق .
وأما اجتماع الشيء وغيره في حق الخالق ، مع امتناع اجتماعهما في حق المخلوق، فيدل على أنه يمكن في حقه ما لا يمكن في حق الخلق، وذلك يدل على عظمته وقدرته .