: الحروف والأصوات المكتوبة والمسموعة -سواء جمع الوصفين كالحرف المسموع ، أو أحدهما كالحرف المكتوب والصوت الذي ليس بحرف- إذا كانت متعلقة بالدين فلا تخلو عن ثلاثة أقسام
إما أن تكون سببا للإيمان .
وإما أن تكون سببا للكفر .
وإما أن تكون مجملة تصلح لهذا ولهذا .
فالأول . وإذا نظر فيه وتدبره كان ناظرا في دليل هاد يوصله إلى العلم والمعرفة إذا كان النظر صحيحا . فأهل النظر من أهل العلم والكلام إذا كان نظرهم فيه وكلامهم منه اهتدوا ، وأهل السماع والوجد إذا كان سماعهم له ووجدهم به رشدوا ؛ ولهذا حض سبحانه على تدبره وعلى سماعه ، فهو أحسن الحديث وخير الكلام ، كلام الله وكلام رسله وأنبيائه وخلفائهم بلفظه ومعناه ، فإن السامع إذا سمع القرآن كان سماعه سببا للهدى ، فيوجب الهدى إذا لم يكن مانع » ، وقال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «زينوا القرآن بأصواتكم . (لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت [ ص: 133 ] بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته »
وأما النوع الثاني ، وهو اعتقاد أن الله هو المخلوقات ، وأنه ليس وراء المخلوق خالق خلقه متميز عنه ، كحقيقة قول فرعون فالكلام المتضمن للكفر والنفاق ، لا سيما إذا زخرف بالعبارات والشبهات ، وحسن باللحون والأصوات ، من نظم ونثر ، مثل كلام القرامطة والإسماعيلية ، وكلام التلمساني نظمه ونثره ، وكلام ابن سبعين والبلياني وغيرهم من الملاحدة ؛ فإن حروفهم سبب لاعتقاد الضلال والقرامطة من جحود خالق الخلق ؛ لكن فرعون نفاه بقوله ظاهرا وباطنا ، فهو أكفر من هذا الوجه ، ومن جهة أنه كان معاندا جاحدا . وهؤلاء قد يكون أحدهم ضالا يعتقد أنه على هدى . ففرعون أكفر منهم من جهة أنه نفاه مطلقا ، وأنه كان معاندا في نفيه وجحوده مستكبرا عليه .
وهؤلاء قد يكون أحدهم مقرا بوجوده ومعتقدا أنه هو الذي يثبته ، ويحسب أنه مهتد في ذلك وأن هذا هو دين الأنبياء ، لكن هؤلاء أضر على الأمة من فرعون ؛ لأنهم يرون أن هذا دين الأنبياء . وفرعون كان [ ص: 134 ] أعلم منهم ، لكن علمه ضار ، فإنه كان مستيقنا بأن للعالمين رب ، كما قال له موسى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا [الإسراء :102] ، لكن كان مع علمه معاندا ، فهو أصح منهم علما وأعظم كفرا وعنادا . وهؤلاء أضر منه على الأمة لكن فيهم نوع من الإيمان والإقرار . وقد يكون لما جحد فرعون فهم ضالون لا جاحدون .
وهؤلاء أقروا باسمه وبالتعبد له ، وجعلوه هو المخلوقات ، وهي إياه ، وصرحوا بأن من عبد الشمس والقمر والطواغيت فما عبد إلا الله ، ولا يتصور أن يعبد إلا الله ، وأن العابد هو المعبود ولكن دار على نفسه . وزعموا أنه هو الذي جاءت به الرسل والأنبياء وكبار العارفين ، فهم من هذا الوجه أضر على الناس من فرعون . كما يذكره ابن العربي في «فصوص الحكم » ، ويذكره القونوي في «مفتاح غيب الجمع والوجود » ، وكما يذكره العفيف في «شرح الأسماء الحسنى » وفي «شرح قصيدة » وفي أشعاره . وإن كان ابن الفارض يرى أن المعدوم شيء ثابت في العدم ، كقول من يقول ذلك من ابن العربي المعتزلة والرافضة ، ويرى أن عين وجود الحق فاض عليهم ، فيرى أن وجود الكائنات عين وجود الحق ، وأن الناكح هو المنكوح ، والشاتم هو المشتوم . وكما قال بعضهم : من قال لك إن في الكون سوى الله فقد كذب ، فقال له صاحبه : من الذي كذب ؟ [ ص: 135 ] وقد يبتلى ببعض ذلك حالا بعض جهال المتصوفة والمتعبدة ، فإنهم لما توجهوا بقلوبهم إلى الله وذكروه وأحبوه شهدت قلوبهم الوجود العام بالمخلوقات الصادر عن الحق الذي خلق السموات والأرض ، فاعتقدوا أن هذا الحق المخلوق هو الحق الخالق ، فأشبهوا من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس فظن أنها هي الشمس ، أو رأى الظل فظن أنه الشخص .
وأما صاحبه الصدر الرومي فيرى أن الله هو الوجود المطلق الساري في الكائنات ، لا يفرق بين الوجود والماهية ، ولا الفائض والمفيض عنه ، لكن ليس هو عين كل موجود ، فإن المطلق ليس هو المعين . وهذا تعطيل محض ، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة . وأما الأول ففيه قسط من ذلك .
وصاحبه التلمساني ونحوه لا يفرق بين مطلق ومعين ، ولا بين وجود وماهية ، بل عنده أن نفس الأكوان هي الله ، وهي أجزاء منه وأبعاض له ، بمنزلة أمواج البحر مع البحر ، وأجزاء البيت من البيت .
فما البحر إلا الموج لا شيء غيره . . . وإن فرقته كثرة المتعدد
فهؤلاء في الكفر الصريح ، وهم أهل الإلحاد والاتحاد العام ، بخلاف من قال بالاتحاد الخاص المقيد في نبي أو غير نبي ، كالنصارى وغالية الرافضة وغالية جهال المتعبدة من الحلاجية واليونسية وبعض العدوية [ ص: 136 ] والحاكمية وغيرهم ؛ فإن هؤلاء . يقولون بالاتحاد المعين المقيد