[ ص: 383 ] فصل في الظهار
من كلام شيخ الإسلام، إمام الأئمة الأعلام،
تقي الدين، أوحد العلماء العاملين
أبي العباس ابن تيمية رحمة الله عليه
مما صنفه بقلعة
دمشق في محبسه الأخير
[ ص: 384 ] [ ص: 385 ] بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
فصل في الظهار
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=1قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=2الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=3والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=4فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم .
وقد عرف أنها نزلت في
خولة بنت ثعلبة لما تظاهر منها
أوس بن الصامت، وكان الظهار والإيلاء طلاقا عندهم، فلما أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وجادلته واشتكت إلى الله أنزل هذه السورة. وكانت قد قيل لها: إنه
[ ص: 386 ] وقع بك الطلاق، على ما كانت عادتهم، وذلك أن موجب هذا اللفظ.
أنها تحرم عليه أبدا، لأنه شبهها بأمه يقصد تحريمها، فمقصوده تحريمها، والتحريم لا يكون إلا بزوال الملك بالطلاق، فلهذا كان طلاقا.
والإيلاء هو حلف على أن لا يطأها، ولم يكن عندهم لليمين كفارة، فكانت اليمين تمنعه من وطئها، والمرأة لا تكون محرمة الوطء أبدا، فتقع به الطلاق.
فالظهار أوجب تحريم وطئها، والإيلاء أوجب تحريم وطئها، وكلاهما ينافي موجب النكاح، فإن النكاح لا يكون إلا مع حل الوطء.
فلهذا كانوا يرون هذا وهذا طلاقا، حتى
nindex.php?page=treesubj&link=12141أنزل الله تعالى في الظهار الكفارة الكبرى، والمولي خيره بين أن يفيء وبين أن يطلق، فإنه إذا فاء ورجع كان له مخرج بالكفارة، كما قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=1لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم .
قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=2ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، كما قال في الآية الأخرى:
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=4وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم .
وهم كانوا يعرفون أنهم ما هن أمهاتهم، لكن شبهوهن بهن، فأقاموا الزوجة مقام الأم، وجعلوها مثل الأم، فبين الله تعالى بطلان هذا التشبيه، وأن الأم هي التي ولدتك، والزوجة لم تلد، فامتنع أن تكون أما أو مثل الأم.
[ ص: 383 ] فَصْلٌ فِي الظِّهَارِ
مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، إِمَامِ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ،
تَقِيِّ الدِّينِ، أَوْحَدِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ
أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ
مِمَّا صَنَّفَهُ بِقَلْعَةِ
دِمَشْقَ فِي مَحْبَسِهِ الْأَخِيرِ
[ ص: 384 ] [ ص: 385 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
فَصْلٌ فِي الظِّهَارِ
قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=1قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهُ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=2الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتِهِمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=3وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=4فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ لَمَّا تَظَاهَرَ مِنْهَا
أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، وَكَانَ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ طَلَاقًا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَادَلَتْهُ وَاشْتَكَتْ إِلَى اللَّهِ أَنْزَلَ هَذِهِ السُّورَةَ. وَكَانَتْ قَدْ قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ
[ ص: 386 ] وَقَعَ بِكِ الطَّلَاقُ، عَلَى مَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ.
أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَبَدًا، لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِأُمِّهِ يَقْصِدُ تَحْرِيمَهَا، فَمَقْصُودُهُ تَحْرِيمُهَا، وَالتَّحْرِيمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِزَوَال الْمِلْكِ بِالطَّلَاقِ، فَلِهَذَا كَانَ طَلَاقًا.
وَالْإِيلَاءُ هُوَ حَلِفٌ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةٌ، فَكَانَتِ الْيَمِينُ تَمْنَعُهُ مِنْ وَطْئِهَا، وَالْمَرْأَةُ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةَ الْوَطْءِ أَبَدًا، فَتَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ.
فَالظِّهَارُ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا، وَالْإِيلَاءُ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ وَطْئِهَا، وَكِلَاهُمَا يُنَافِي مُوجَبَ النِّكَاحِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ حَلِّ الْوَطْءِ.
فَلِهَذَا كَانُوا يَرَوْنَ هَذَا وَهَذَا طَلَاقًا، حَتَّى
nindex.php?page=treesubj&link=12141أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى، وَالْمُولِي خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَفِيءَ وَبَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنَّهُ إِذَا فَاءَ وَرَجَعَ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ بِالْكَفَّارَةِ، كَمَا قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226فَإِنْ فَاءُوا فَإِنْ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=1لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=2مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتِهِمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=4وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ .
وَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ، لَكِنْ شَبَّهُوهُنَّ بِهِنَّ، فَأَقَامُوا الزَّوْجَةَ مَقَامَ الْأُمِّ، وَجَعَلُوهَا مِثْلَ الْأُمِّ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بُطْلَانَ هَذَا التَّشْبِيهِ، وَأَنَّ الْأُمَّ هِيَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، وَالزَّوْجَةُ لَمْ تَلِدْ، فَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ أُمًّا أَوْ مِثْلَ الْأُمِّ.