وهذا من اجتهاد العلماء في القياس والتمثيل الذي اتفقوا على صحة أصله، فإنهم متفقون على ما دل عليه القرآن من أن وأن المعاقبة تكون بالمثل، وأن من اعتدى يعتدى عليه بمثل ما اعتدى . فما كانت المماثلة فيه ظاهرة لم يتنازعوا فيه، [ ص: 268 ] كما لو أتلف مكيلا أو موزونا متماثل الأجزاء، كالدرهم والحنطة ونحو ذلك، فإن الواجب هنا المثل إذا أمكن. وكذلك يجب في القرض مثل ذلك. جزاء سيئة سيئة مثلها،
وكذلك لم يتنازعوا فيما ظهرت فيه المماثلة في القصاص، كما لو قطع عنقه بالسيف، فاتفقوا على أنه يقطع عنقه بالسيف.
ولكن تنازعوا فيما : هل يفعل به كما فعل- كما يقوله إذا قتله بالجرح في غير العنق، أو بغير القتل كالتحريق والتغريق مالك والشافعي في إحدى الروايات- أو لا قود إلا بالحديد في العنق- كقول وأحمد أبي حنيفة في إحدى الروايات- أو يفرق بين الجرح المزهق وغير المزهق- كالرواية الثالثة عن أحمد- أو بين المزهق وما كان موجبا للقود بنفسه كقطع اليد، وبين ما ليس من هذين النوعين- كالرواية الرابعة عن أحمد-؟ وأحمد
فهذا من اجتهاد العلماء في تحقيق القياس والعدل والتماثل الذي اتفقوا على اعتباره، متى تعذرت المماثلة المطلقة من كل وجه. والذي يدل عليه النص والاعتبار الصحيح هو القول الأول، وهو أن يفعل به كما فعل، فإن مات بذلك، وإلا قتل، وكان هذا قتلا بالقصاص لا بنقض العهد، إذ لو قتله بمجرد نقض العهد- كما يقتل الحربي الأسير- لقتله في العنق. وأيضا فالعدل في أن يفعل به كما فعل أقرب من أن تضرب عنقه بالسيف، مع كونه حرق الأول، أو قطع أربعته، أو مثل به. فإن النبي [ ص: 269 ] - صلى الله عليه وسلم - أمر برضخ رأس اليهودي الذي رضخ رأس الجارية، لما اعترف بأنه قتلها،
وقد وإن كانت المثلة بدون ذلك منهيا عنها بقوله تعالى: أباح الله أن نمثل بمن مثل بنا، وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، فدل على أن التمثيل بجدع الأنف والأذن هو من العقوبة بالمثل.
وإذا قيل: هذا يفضي إلى أن يؤخذ أكثر.
قيل: وما ذكرتم يفضي غالبا إلى أن يؤخذ أنقص من الواجب. وهذا أقرب إلى المماثلة، فإنه يكون تارة أكثر، وتارة يكون أنقص، ولكن هذا أقرب إلى العدل من الذي يكون دائما أنقص.
وإذا قيل: في غير الجرح المزهق ربما نقص منه، فيفضي إلى جرحه مرتين. [ ص: 270 ]
قيل: لو ضربه في العنق فلم يمت، كان له أن يضربه ثانية بالاتفاق، وإن كان في ذلك ضرب مرتين، لأن هذا أقرب إلى العدل.
والمقصود بهذا أن ننبه على أن الناس يتنازعون في التماثل الواجب، حيث اتفقوا على وجوب المثل، وأن الاجتهاد في مثل هذا متفق عليه، فكذلك التماثل في غير هذا يتنازعون فيه، وذلك مما يدل على أن تنازع الناس في كثير من القياس لا يمنع أن يكون أصل القياس- الذي يقاس فيه الشيء بمثله وضده- قياسا صحيحا، فاعتباره بمثله يوجب قياس الطرد الذي يوجب التسوية بينهما، واعتباره بضده يوجب قياس العكس الذي يوجب تضاد حكمهما.
كما إذا اعتبرنا دم السمك الذي تباح ميتته بدم ما لا تباح ميتته، فقلنا: يجب أن نفرق بين الدمين، لأن ذلك لا يباح إلا بسفح دمه، وهذا يباح بدون سفح دمه، فدل على افتراق حكم الدمين.
وكذلك الوتر لما ثبت بالسنة الصحيحة أنه يصفى على الراحلة، ثبت بذاك الفرق بينه وبين الواجبات التي لا يجوز فعلها على الراحلة، فعلم أنه مفارق لها لا مماثل لها.
والطرد هو قياس الجمع، والعكس هو الفرق، والجمع والفرق [ ص: 271 ] يكون بالأمور المعتبرة في الجمع، فيجمع بين ما جمع الله بينه، ويكون الجمع والفرق بالأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله. فهذا كله من الميزان الذي أنزله الله مع رسوله، كما أنزل الله الكتاب.