وأما استصحاب حال الإجماع بعد زوال المحل المجمع عليه، كقولهم في المصلي إذا رأى الماء: كانت صلاته صحيحة بالإجماع قبل وجود الماء، والأصل بقاء ما كان على ما كان، ولم يقم دليل على الفساد.
وكذلك قولهم: أم الولد كان بيعها صحيحا قبل الاستيلاد، [ ص: 292 ] فمن ادعى التحريم فعليه الدليل.
فهذا فيه نزاع مشهور، يحتج به طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي وغيرهما، وأحمد كالمزني والصيرفي وأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن حامد وأبي عبد الله بن الخطيب الرازي وغيرهم. وينكره آخرون، كأبي حامد والطبري والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني وغيرهم. وابن الزاغوني
والذين أنكروه قالوا: إن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع، كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة، فأما بعد الرؤية فلا إجماع، فيمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع.
وهذا الذي قالوه نقيض الإجماع في محل النزاع، وهذا صحيح، والذين استدلوا به لم يدعوا الإجماع في محل النزاع، بل استصحبوا حال المجمع عليه.
قال المنكرون: فالحكم إذا كان إنما يثبت بالإجماع، يزول الحكم لزوال دليله، ويبقى إثبات الحكم بعد ذلك إثباتا بغير دليل.
وأما المستدلون فيقولون: الحكم لما كان ثابتا، وعلمنا بالإجماع ثبوته، فالإجماع ليس هو علة ثبوته ولا سبب ثبوته في [ ص: 293 ] نفس الأمر، حتى يلزم من زوال العلة زوال المعلول، ومن زوال السبب زوال حكمه، وإنما الإجماع دليل عليه، وهو في نفس الأمر يستند إلى نص أو معنى نص. فنحن نعلم أن الحكم المجمع عليه ثابت في نفس الأمر، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من انتفاء الإجماع انتفاء الحكم، بل يجوز أن يكون نافيا، ويجوز أن يكون منتفيا، لكن الأصل بقاؤه، فإن البقاء لا يفتقر إلى حادث، ولكن يفتقر إلى بقاء سبب ثبوته. وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل الأول، وإلى ما يحدث الثاني، وإلى ما يبقي الثاني، فكان ما يفتقر إليه الحادث أكثر مما يفتقر الباقي، فيكون البقاء أولى من التغيير.
وهذا مثل فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يظن أنه شاغل، ومع هذا فالأصل البراءة. استصحاب حال براءة الذمة،
والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة، لكن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد الاجتهاد في معرفة المزيل، ولا يجوز الاستدلال به لمن لا يعرف الأدلة الناقلة، كما لا يجوز [ ص: 294 ] الاستدلال بالاستصحاب لمن لا يعرف الأدلة الناقلة.
وبالجملة فإن قطع المستدل بانتفاء الناقل قطع ببقاء الحكم، كما يقطع ببقاء شرع الاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل، محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه غير منسوخ، وإن ظن انتفاء الناقل ظن بقاء الحكم، فإن كان الناقل دليلا تبين له انتفاء دلالته ظن انتفاء النقل، وإن كان معنى مؤثرا وتبين له عدم اقتضائه، تبين له بقاء النقل، مثل رؤية الماء في الصلاة، فلا يطمئن قلبه إلى بقاء الصلاة إن لم يتبين له أن رؤية الماء في الصلاة لا تبطل الطهارة، وإلا فمع تجويزه لكون هذا ناقضا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء.
وهكذا في كل من يتورع في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه، فإن الأصل بقاء طهارته، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين، وبالخارج النادر منهما، وبمس النساء لشهوة ولغير شهوة غير الجماع، ومس الذكر، وأكل ما مسته النار، وغسل الميت، وغير ذلك، لا يمكن اعتقاد استصحاب الحال حتى يتبين له بطلان ما يوجب الانتقال، وإلا بقي شاكا، وإن لم يتبين له صحة الناقل، كما لو أخبره فاسق بخبير، فإنه مأمور بالتبين والتثبت، لم يؤثر تصديقه ولا تكذيبه، فإن كلاهما ممكن [ ص: 295 ] منه، وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال، كما كان يستدل به بدون خبره. ولهذا جعل ذلك لوثا وشبهة في أظهر قولي العلماء. وإذا شهد مجهول الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد، ويلزم منه الشك في حال المشهود به، فإذا تبين عدله تم الدليل، وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما تضعف عند شهادة الفاسق، فإن الشهادة قد يكون دليلا، ولكن لم تعرف دلالته، وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بذلك، لكن يمكن وجود المدلول في هذه الصورة، فإن صدقه ممكن.