ومن هذا الباب وسائر الأسباب، بل من هذا الباب جميع ما يعمله العباد من القرب والطاعات، فإن للرسول صلى الله عليه وسلم مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: دعاء الملائكة للمؤمنين وقال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان له من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا". وهو صلى الله عليه وسلم قد سن سنن الهدى جميعها لأمته. "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا".
ومن هذا الباب يبين جواب المسألة، فإن القائل يقول: إذا كان إهداء القرب إلى الموتى مشروعا وإن كانوا فضلاء، فما بال السلف لم يكونوا يفعلون القرب عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين؟ بل ولا عن شيوخهم معلميهم ومؤدبيهم الذين علموهم العلم والإيمان؟ والسلف كانوا أحرص على الخير منا، فلا يمكن أن يقال: تركوه جهلا به ولا رغبة عنه، وهذا هو الذي يظهر به إشكال المسألة، فإن ما تقدم يحتج به من يستحب كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء والعباد من أصحاب إهداء ثواب القربات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، وأقدم من بلغنا ذلك عنه أحمد علي بن الموفق أحد [ ص: 255 ] الشيوخ المشهورين، كان أقدم من وطبقته، وقد أدرك الجنيد وعصره وعاش بعده. أحمد
ومن لا يستحب بل يراه بدعة -وهو الصواب المقطوع به- يحتج بأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم بالخير وأرغب، وليس فعل المذكور وأمثاله ولا قول طائفة من متأخري الفقهاء مما يعارض به أقوال السلف.
وأما احتجاج المحتج بتضحية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال له: هذا الحديث رواه علي أبو داود من حديث والترمذي قال: حنش الصنعاني، وقال رأيت عليا عليه السلام يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه". حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك. ومثل هذا الإسناد قد يقال: لا تقوم به سنة، فإن الترمذي: تكلم فيه غير واحد، قال حنشا كان كثير الوهم، أبو حاتم: في حديثه لين. وشريك بن عبد الله القاضي
وإن صح هذا الحديث فإنه إنما ضحى عنه صلى الله عليه وسلم بإذنه، وهذا جائز ولو لم يرد هذا الحديث، فإن الميت إذا أوصى أن يضحى عنه كان كما لو أوصى أن يحج عنه، فإن الأضحية عبادة بدنية مالية كالحج عنه، ولو وصى بالصدقة عنه جاز بإجماع المسلمين، بل [ ص: 256 ] هذا الحديث إن صح فقد يستدل به على أنهم لم يكونوا يفعلون عنه عبادة إلا بإذنه، ولو كان مشروعا عندهم التضحية عنه بدون إذنه لما أنكر ذلك على علي، ولبين علي أنه يشرع هذا وغيره من الأعمال عنه بغير إذنه.
وأما احتجاجه بحديث الذي فيه أبي بن كعب فيقال له: ليس حملك هذا الحديث على صلاته المتطوعة بأولى من حمل غيرك له على الدعاء، إذ قد سلمت أنه ليس المراد به الصلاة الواجبة ذات الركوع والسجود، فيقال له: كما لم يدخل هذه الصلاة فلا يدخل ما كان من جنسها وهو التطوع، فإنهما من جنس واحد، ولم يعرف أن في السنة أن يكون جميع ما يتطوع به العبد من الصلاة لغيره، كما لم يعرف مثل ذلك في الصيام والحج. "أجعل صلاتي كلها لك، قال: إذا تكفى همك ويغفر ذنبك"،
فإن قيل: يحصل له من أجر الإهداء أكثر من ثواب التطوع، قيل: فسووا ذلك في الفريضة، واجعلوا من المسنون أن يهدي الرجل ثواب فرائضه لبعض الموتى، ويكون ما يحصل من ثواب ذلك أعظم من أجر الفريضة مع أن ذمته بريئة. وقد تقدم أن في قولين في مذهب إهداء ثواب الفريضة وغيره. أحمد
والذين جوزوا ذلك قالوا: الفرض له مقصودان: براءة الذمة باندفاع العقاب، وحصول الأجر والثواب، فأما براءة الذمة وهو الذي امتاز به عن النافلة فلا يمكن إهداؤه، وأما الأجر وهو المشترك بينهما فيمكن إهداؤه، ولا ريب أن الحديث لا يمكن [ ص: 257 ] حمله على الصلاة عليه كما ذكر السائل. بقي المفهوم الثالث وهو الدعاء، فإن الصلاة من أهل اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: وصل عليهم ، فيكون هذا السائل له دعاء يدعو به لنفسه، فيمكن أن يجعل ثلثه دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فالصلاة عليه صلاة، ويمكن أن له شطره، ويمكن أن يكون جميع دعائه دعاء للنبي، مثل أن يصلي عليه بدل دعائه. وقد ثبت أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، فيكون أجر صلاته كافيا له، ولهذا قال: أي: إنك إنما تطلب زوال سبب الضرر الذي يعقب الهم ويوجب الذنب، فإذا صليت علي بدل دعائك حصل مقصودك، وهذا معنى مناسب، فإنه قد ثبت أن من دعا لأخيه بظهر الغيب بدعوة قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل. وثبت عنه أنه قال: "يكفي همك ويغفر ذنبك"، فإذا كان بدل دعائه لنفسه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم حصل له أعظم مما كان يطلب لنفسه. "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"،
واحتجاجه بحديث يقال له: إنما في الحديث فعل العبادات عن الوالدين، وهذا في العبادات المالية متفق عليه بين الأئمة، وإنما تنازعوا في النذر، وقد ذكر الدارقطني في صحيحه عن [ ص: 258 ] مسلم أبي إسحاق الطالقاني قال: قلت الحديث الذي جاء في البر لعبد الله بن المبارك: قال فقال بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، عبد الله: يا أبا إسحاق! عمن هذا؟ قلت له من حديث قال ثقة، قال: عمن؟ قلت: عن شهاب بن خراش، الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا إسحاق! إن بين الحجاج بن دينار ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي. وليس في الصدقة خلاف.
ولو احتج في هذا الباب بحديث عمرو لكان أقوى، كما في مسند عن أحمد عبد الله بن عمرو العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بدنة، وأن نحر حصته خمسين، وأن هشام بن العاص عمرا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت أو تصدقت عنه نفعه ذلك". وقد رواه أن ، ولفظه: أبو داود وهذا اللفظ إنما فيه الأعمال المالية. "لو كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه نفعه ذلك".