[ ص: 356 ] ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة
فيها التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة ، أخذت بني العباس منها . وانقضت دولة
استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار هولاكوقان ، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه ، وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار ، ومصانعة لهم ، قبحهم الله تعالى ، وقد سترت بغداد ، ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئا ، كما ورد في الأثر : ( لن يغني حذر عن قدر ) وكما قال تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر [ نوح : 4 ] وقال تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال [ الرعد : 11 ] .
وأحاط التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنشاب من كل جانب ، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه ، وكانت من جملة الحظايا ، وكانت مولدة تسمى عرفة ، [ ص: 357 ] جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة ، فانزعج الخليفة من ذلك ، وفزع فزعا شديدا ، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه ، فإذا عليه مكتوب : إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم . فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز ، وكثرة الستائر على دار الخلافة ، وكان قدوم هولاكوقان بجنوده كلها - وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل - إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة ، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه ، وهو أن هولاكوقان لما كان أول بروزه من همذان متوجها إلى العراق أشار الوزير على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية; ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم ، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره ، وقالوا : إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك مؤيد الدين محمد بن العلقمي التتار بما يبعثه إليه من الأموال ، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير ، فأرسل شيئا من الهدايا ، فاحتقرها هولاكوقان ، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور ، وسليمان شاه ، فلم يبعثهما إليه ، ولا بالى به حتى أزف قدومه ، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر .
فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية ، وجنود بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة ، لا [ ص: 358 ] يبلغون عشرة آلاف فارس ، وهم في غاية الضعف ، وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد ، وأنشد فيهم الشعراء القصائد يرثون لهم ، ويحزنون على الإسلام وأهله ، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي ، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب شديدة ، نهبت فيها الكرخ محلة الرافضة ، حتى نهبت دور قرابات الوزير ، فاشتد حنقه على ذلك ، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد ، وإلى هذه الأوقات ، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو ، فخرج في أهله وأصحابه وخدمه وحشمه ، فاجتمع بالسلطان هولاكوقان ، لعنه الله تعالى ، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة ، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورءوس الأمراء والدولة والأعيان ، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكوقان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا ، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين ، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت ، وقتلوا عن آخرهم ، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة ، فيقال : إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت .
ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجا نصير الطوسي ، لعنة الله عليه وغيرهما ، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة ، فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة ، وقد أشار أولئك الملأ من والوزير ابن العلقمي الرافضة ، لعنة الله عليهم ، وغيرهم من المنافقين على [ ص: 359 ] هولاكوقان أن لا يصالح الخليفة ، وقال الوزير : متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك . وحسنوا له قتل الخليفة ، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله ، ويقال : إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي والنصير الطوسي . وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزعها من أيدي الإسماعيلية ، وكان النصير وزيرا لشمس الشموس ، ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين ، وكانوا ينتسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي ، وانتخب هولاكوقان النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير ، فلما قدم هولاكوقان وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزيران ذلك ، فقتلوه رفسا وهو في جوالق ، لئلا يقع على الأرض شيء من دمه ، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم ، وقيل : بل خنق . ويقال : غرق . فالله أعلم . فباءوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاد بغداد - وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات - ومالوا على البلد ، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان .
ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش ، وقني الوسخ ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون ، وكان الفئام من الناس يجتمعون في الخانات ، ويغلقون عليهم الأبواب ، فتفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار ، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي المكان ، فيقتلونهم في الأسطحة ، حتى تجري الميازيب من الدماء في [ ص: 360 ] الأزقة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وكذلك في المساجد والجوامع والربط ، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي ، وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم . وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها أحد إلا القليل من الناس ، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة . وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط أسهمهم من الديوان ، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل ، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر ، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق إلا عشرة آلاف ، ثم كاتب التتار ، وأطمعهم في أخذ البلاد ، وسهل عليهم ذلك ، وجلى لهم حقيقة الحال ، وكشف لهم ضعف الرجال ، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية ، وأن يظهر البدعة الرافضية ، وأن يقيم خليفة من الفاطميين ، وأن يبيد العلماء والمفتين ، والله غالب على أمره ، وقد رد كيده في نحره ، وأذله بعد العزة القعساء ، وجعله حوشكاشا للتتار بعدما كان وزيرا للخلفاء ، واكتسب إثم من قتل بمدينة بغداد من الرجال والنساء والأطفال ، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء .
وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد ، كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز ، حيث يقول : وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا [ الإسراء : 4 ، 5 ] الآيات .
[ ص: 361 ] وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء ، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء ، وخرب بيت المقدس بعدما كان معمورا بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء ، فصار خاويا على عروشه ، واهي البناء .
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين ، فقيل : ثمانمائة ألف ، وقيل : ألف ألف وثمانمائة ألف . وقيل : بلغت القتلى ألفي ألف نفس ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم العلي العظيم .
وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم ، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين صباحا ، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر ، وعفا قبره ، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر ، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام ، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد ، وله خمس وعشرون سنة ، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن ، وله ثلاث وعشرون سنة ، وأسر ولده الأصغر مبارك ، وأسرت أخواته الثلاث; فاطمة وخديجة ومريم ، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل ، والله أعلم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج [ ص: 362 ] بن الجوزي ، وكان عدو الوزير ، وقتل أولاده الثلاثة; عبد الرحمن ، وعبد الله ، وعبد الكريم ، وأكابر الدولة واحدا بعد واحد ، منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك ، وشهاب الدين سليمان شاه ، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد .
وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس ، فيخرج بأولاده ونسائه وجواريه ، فيذهب به إلى مقبرة الخلال ، تجاه المنظرة ، فيذبح كما تذبح الشاة ، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه .
وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار ، وقتل الخطباء والأئمة ، وحملة القرآن ، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد ، وأراد الوزير ابن العلقمي ، قبحه الله ولعنه ، أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ، ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض ، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعلمهم بها وعليها ، فلم يقدره الله تعالى على ذلك ، بل أزال نعمته عنه ، وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة ، وأتبعه بولده فاجتمعا - والله أعلم - بالدرك الأسفل من النار .
ولما انقضى أمد الأمر المقدور ، وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس ، والقتلى في الطرقات كأنها التلول ، وقد سقط عليهم المطر ، فتغيرت صورهم ، وأنتنت البلد من جيفهم ، وتغير الهواء ، فحصل بسببه الوباء الشديد ، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام ، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح ، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من كان تحت الأرض بالمطامير والقني [ ص: 363 ] والمغاير كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم ، وقد أنكر بعضهم بعضا ، فلا يعرف الوالد ولده ، ولا الأخ أخاه ، وأخذهم الوباء الشديد ، فتفانوا ولحقوا بمن سلف من القتلى ، واجتمعوا في البلى تحت الثرى ، بأمر الذي يعلم السر وأخفى ، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى .
وكان رحيل السلطان المسلط هولاكوقان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه ، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر ، فوض إليه الشحنكية بها وإلى الوزير فلم يمهله الله ولا أهمله بعد ، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر ، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة ، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ، ولديه فضيلة في الأدب ، ولكنه كان شيعيا جلدا خبيثا رافضيا ، فمات كمدا وغما وحزنا وندما ، إلى حيث ألقت رحلها مؤيد الدين بن العلقمي ، أم قشعم ، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين أبو الفضل محمد ، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام ، ولله الحمد والمنة .
وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني ، أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد ، وذكروا أن سبب ذلك من فساد [ ص: 364 ] الهواء والجو ، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق ، وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام . فالله أعلم .
وفي هذه السنة اقتتل المصريون مع صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل بن أبي بكر بن العادل الكبير ، وكان في جيشه جماعة من أمراء البحرية ، منهم ركن الدين بيبرس البندقداري ، فكسرهم المصريون ، ونهبوا ما كان معهم من الأثقال والأموال ، وأسروا جماعة من رءوس الأمراء ، فقتلوا صبرا ، وعادوا إلى الكرك في أسوأ حالة وأشنعها ، وجعلوا يفسدون في الأرض ويعيثون في البلاد ، فأرسل إليهم الناصر صاحب دمشق جيشا ليكفهم عن ذلك ، فكسرهم البحرية ، واستنصروا فبرز إليهم الناصر بنفسه ، فلم يلتفتوا إليه ، وقطعوا أطناب خيمته التي هو فيها بإشارة ركن الدين بيبرس المذكور ، وجرت حروب وخطوب يطول بسطها ، وبالله المستعان .