[ ص: 41 ] المقدمة الأولى
في
nindex.php?page=treesubj&link=18467_18482_18496_25204فضيلة العلم وآدابه
وفيها فصلان :
الأول : في فضيلته من الكتاب ، والسنة ، والمعنى .
أما الكتاب : فمن وجوه :
الأول : أن تقول خير البرية من يخشى الله تعالى ، وكل من يخشى الله تعالى فهو عالم ، فخير البرية عالم .
بيان الأولى قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=7إن الذين آمنوا وعملوا الصاحات أولئك هم خير البرية ) . إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=8ذلك لمن خشي ربه ) فأثبت الخشية لخير البرية ، وهو المطلوب .
وبيان الثانية قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28إنما يخشى الله من عباده العلماء ) أضاف سبحانه الخشية إلى كل عالم على وجه الحصر ، فيكون كل من يخشى الله تعالى فهو عالم ، وهو المطلوب .
الثاني : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ) . بدأ بنفسه ، وثنى بالملائكة ، وثلث بالعلماء دون سائر خلقه ، فيكون من عداهم دونهم ، وهو المطلوب .
[ ص: 42 ] الثالث : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=113وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) . وعادة العرب في سياق الامتنان تأخير الأفضل ، وتقديم المفضول على الأفضل ، فتكون موهبته عليه الصلاة والسلام من العلم أفضل من موهبته من الإنزال المتضمن للنبوة ، والرسالة ، وهذا شرف عظيم شب فيه عمرو عن الطوق .
الرابع : في قوله تعالى حكاية عن
سليمان عليه السلام في أمر الهدهد : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=21لأعذبنه عذابا شديدا ) . فلما جاء الهدهد قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22أحطت بما لم تحط به ) ، فاشتدت نفسه ، واستعلت همته بما علمه على سيد أهل الزمان ، ورسول الملك الديان مع عظم ملكه ، وهيبة مجلسه ، وعلم الهدهد بحقارة نفسه ، وما تقرر عند
سليمان عليه السلام من جريمته ، والعزم على عقوبته .
فلولا أن العلم يرفع من الثرى إلى الثريا لما عظم الهدهد بعد أن كان يود أن لو كان نسيا منسيا ، فلا جرم أبدل له العقوبة بالإكرام النفيس ، وأسبغ عليه خلع الرسالة إلى بلقيس .
وأما السنة فمن وجوه :
الأول : ما في الموطأ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348158nindex.php?page=treesubj&link=18467_18479من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .
والقاعدة أن المبتدأ محصور في الخبر ، والشرط اللغوي محصور في مشروطه لأنه سبب ، فيكون المراد : الخير محصور في المتفقه ، فمن ليس بمتفقه لا خير فيه .
الثاني : ما في
أبي داود قال - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348159من سلك طريقا يطلب فيها علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة .
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348160وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم .
[ ص: 43 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=10348161وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ، ومن في الأرض ، والحيتان في جوف الماء .
وإن
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348162فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب .
وإن
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348163nindex.php?page=treesubj&link=18475العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر .
فأما الطريق التي يسلك به فيها إلى الجنة ، فمعناه أن هذه الحالة سبب موصل إلى الجنة .
وأما وضع الملائكة أجنحتها ، فقيل تكف عن الطيران ، فتجلس إليه لتستمع منه ، وقيل تكف عن الطيران توقيرا له ، وقيل تكف عن الطيران لتبسط أجنحتها له بالدعاء ، ولو لم تعلم الملائكة أن منزلته عند الله تستحق ذلك لما فعلته .
فينبغي لكل أحد من الملوك فمن دونهم أن يتواضعوا لطلبة العلم اتباعا لملائكة الله تعالى وخاصة ملكه .
وأما استغفارهم له ، فهو طلب ودعاء له بالمغفرة ، وأحدنا يسافر البلاد البعيدة للرجل الصالح لعله يدعو له ، فما ظنك بدعاء قوم لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، فيا حبذا هذه النعمة .
وأما التشبيه بالبدر ، ففيه فوائد إحداها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18475_28750العالم يكمل بقدر اتباعه للنبي لأن النبي عليه السلام هو الشمس لقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=45إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=46وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) . والسراج هو الشمس لقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=13وجعلنا سراجا وهاجا ) . ولما كان القمر يستفيد ضوءه من الشمس
[ ص: 44 ] وكلما كثر توجهه إليها كثر ضوءه حتى يصير بدرا ، فكذلك العالم كلما كثر توجهه للنبي ، وإقباله عليه توفر كماله .
وثانيتها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28750_18475العالم متى أعرض عن النبي بكليته كسف باله ، وفسد حاله كما أن القمر إذا حيل بينه وبين الشمس كسف ، خلافا لمن يزعم أن العلوم تتلقى بالتوجه ، ولا يحتاج فيها إلى النبوة .
وثالثها : أن الكوكب مع البدر كالمطموس الذي لا أثر له ، وضوء البدر عظيم المنفعة ، منتشر الأضواء ، منبعث الأشعة في الأقطار برا ، وبحرا ، وهذا هو شأن العالم ، وأما العابد ، فالكوكب حينئذ لا يتعدى نوره محله ، ولا يصل نفعه إلى غيره .
الثالث : ما في الترمذي أنه عليه السلام ذكر له رجلان عالم وعابد ، فقال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348164nindex.php?page=treesubj&link=18471فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ، ثم قال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348165وإن الله تبارك وتعالى وملائكته ، وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها يصلون على معلمي الناس خيرا .
وهذا الحديث أبلغ من الأول بكثير جدا ، فإن فضله على أدناهم أعظم من فضل القمر على الكواكب أضعافا مضاعفة .
الرابع : ما روى
ابن أبي زيد في جامع المختصر عن
ابن القاسم أنه قال : روي أنه عليه السلام قال :
ما جميع أعمال البر في الجهاد إلا كنقطة في بحر ، وما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم وفضله إلا كنقطة في بحر .
ويؤيده ما في الخبر :
يوزن مداد العلماء ، ودم الشهداء يوم القيامة ، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء .
ومعلوم أن أعلى ما للشهيد دمه ، وأدنى ما للعالم مداده ، فإذا رجح الأدنى على الأعلى ، فما الظن بالأعلى مع الأدنى .
[ ص: 45 ] الخامس : ما في
الترمذي أنه عليه السلام قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348168ما عند الله شيء أفضل من الفقه في الدين ، ولفقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد ، ولكل شيء قوام ، وقوام الدين الفقه ، ولكل شيء دعامة ، ودعامة الدين الفقه .
السادس : أنه عليه السلام قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348169قليل الفقه خير من كثير العبادة .
السابع : أنه عليه السلام قال :
إن الله يجمع العلماء في صعيد واحد ، فيقول يا معشر العلماء إني لم أوتكم علمي وحكمتي إلا لخير أردته بكم أشهدكم أني قد غفرت لكم ما كان منكم .
وأما المعنى فمن وجوه :
الأول : أن العلم معتبر في الإلهية ، وكفى بذلك شرفا عند كل عاقل على العبادات ، وغيرها .
وثانيها :
nindex.php?page=treesubj&link=18467أن كل خير مكتسب في العالم ، فهو بسبب العلم ،
nindex.php?page=treesubj&link=29563وكل شر يكتسب في العالم ، فهو بسبب الجهل ، والاستقراء يحقق ذلك .
ثالثها : أن الله تعالى لما أراد بيان فضل
آدم على الملائكة ، وإقامة الحجة عليهم علمه أسماء الأشياء ، أو علاماتها على خلاف في ذلك ، ثم سألهم ، فلم يعلموا ، وسأله ، فعلم ، وعلم ، فاعترفوا حينئذ بفضيلته ، وأمرهم بالسجود له في وقت واحد تعظيما لمنزلته ، وخالف إبليس في ذلك ، فباء من الله تعالى بقبيح لعنته ، وهذا حال العلم بأسماء الأشياء أو علاماتها ، فكيف بالعلم بحدود الدين ، وما يتوصل به إلى رب العالمين .
ورابعها : أن الكلب أخس الأشياء لقذارته ، وأذيته ، وسوء حالته ، فإذا اتصف بعلم الاصطياد شرفه الشرع ، وعظمه ، وجعل صيده حينئذ قوام الأجساد ، ومحترما عن الإفساد .
[ ص: 46 ] وخامسها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18467العالم ينقل عن الحق للخلق ، فيقول إن الله تعالى حرم عليكم كذا ، وأوجب عليكم كذا ، وأذن لكم في كذا ، وأمركم بتقديم كذا ، وتأخير كذا ، فهو القائم بأمر الله تعالى في خلقه ، وموصله إلى مستحقه ، والدافع عنه تحريف المحرفين ، وتبديل المبدلين ، وشبه المبطلين ، وهذا هو معنى مقام المرسلين .
ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يتصور نفسه في هذا المقام ، ويعاملها بما يليق بها من الاحترام ، فإن الرسول إذا ورد من عند ملك عظيم قبح عليه أن يمشي إلى بيوت الأمراء ، وفي الأسواق ، أو يتقاصر عن مكارم الأخلاق صونا لتعظيم مرسله ، وهذا معلوم في العوائد ، فكذلك طالب العلم ينبغي له أن يبعد نفسه عن الدناءات بل عن كثير من المباحات صونا لشرف منصبه ، وتعزيزا لثمرات مطلبه .
وسادسها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18469_32095قيمة الإنسان ما يعلمه لا ما يعلمه لقول
علي - رضي الله عنه - : المرء مخبوء تحت لسانه ، وما قال تحت ثيابه ، ومعنى هذا الاختباء أنه إن نطق بشر ظهرت خسته ، ودناءته ، وبخير ظهر شرفه ، وإن لم ينطق بشيء ، فهو عدم محض عند مشاهده .
وقال
علي - رضي الله عنه - : المرء بأصغريه قلبه ، ولسانه ، ولم يقل بيديه أي هو معتبر بهما ، فإن رفعاه ارتفع ، وإن وضعاه اتضع ، فالقلب معدن الحكم ، واللسان ترجمانه ، وما عداه في حكم الأعوان البعيدة التي لا اعتداد بها ، وأنشد
علي - رضي الله عنه - في هذا المعنى :
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن أتيت بفخر من ذوي نسب
فإن نسبتنا الطين والماء ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاء وقيمة المرء ما قد كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداء [ ص: 47 ] فاطلب لنفسك علما واكتسب أدبا
فالناس موتى وأهل العلم أحياء
وسابعها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18469_32095العلم على عظيم قدره وشريف معناه يزيد بكثرة الإنفاق ، وينقص مع الإشفاق ، وهذه فضيلة جليلة آخذة بآفاق الشرف جعلنا الله تعالى من أهله القائمين بحقوقه بمنه وكرمه .
وثامنها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18467_29508العلماء وصلوا بحقيقة العلم إلى عين اليقين ، فشاهدوا الأخطار والأوطار بالأفق المبين ، فاستلانوا ما استوعره المترفون ، واستأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وفازوا بما قعد عند المقصرون ، فهم مع جلسائهم بأشباحهم ، وفي الملأ الأعلى بأرواحهم ، فلا جرم هم أحياء ، وإن ماتت الأبدان ، على ممر الدهور ، والأزمان ، غابت أعيانهم عن العيان ، وصورهم مشاهدة في الجنان والجنان ، جعلنا الله تبارك وتعالى ممن أخذ من هداهم بأوثق نصيب ، ونافس في نفائسهم ، إنه قريب مجيب .
[ ص: 41 ] الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=18467_18482_18496_25204فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَآدَابِهِ
وَفِيهَا فَصْلَانِ :
الْأَوَّلُ : فِي فَضِيلَتِهِ مِنَ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْمَعْنَى .
أَمَّا الْكِتَابُ : فَمِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنْ تَقُولَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى ، وَكُلُّ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى فَهُوَ عَالِمٌ ، فَخَيْرُ الْبَرِيَّةِ عَالِمٌ .
بَيَانُ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=7إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّاحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) . إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=8ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) فَأَثْبَتَ الْخَشْيَةَ لِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَبَيَانُ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) أَضَافَ سُبْحَانَهُ الْخَشْيَةَ إِلَى كُلِّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْحَصْرِ ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى فَهُوَ عَالِمٌ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
الثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) . بَدَأَ بِنَفْسِهِ ، وَثَنَّى بِالْمَلَائِكَةِ ، وَثَلَّثَ بِالْعُلَمَاءِ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ ، فَيَكُونُ مَنْ عَدَاهُمْ دُونَهُمْ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
[ ص: 42 ] الثَّالِثُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=113وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) . وَعَادَةُ الْعَرَبِ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ تَأْخِيرُ الْأَفْضَلِ ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْأَفْضَلِ ، فَتَكُونُ مَوْهِبَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْعِلْمِ أَفْضَلَ مِنْ مَوْهِبَتِهِ مِنَ الْإِنْزَالِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنُّبُوَّةِ ، وَالرِّسَالَةِ ، وَهَذَا شَرَفٌ عَظِيمٌ شَبَّ فِيهِ عَمْرٌو عَنِ الطَّوْقِ .
الرَّابِعُ : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَمْرِ الْهُدْهُدِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=21لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) . فَلَمَّا جَاءَ الْهُدْهُدُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=22أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) ، فَاشْتَدَّتْ نَفْسُهُ ، وَاسْتَعْلَتْ هِمَّتُهُ بِمَا عَلِمَهُ عَلَى سَيِّدِ أَهْلِ الزَّمَانِ ، وَرَسُولِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ مَعَ عِظَمِ مُلْكِهِ ، وَهَيْبَةِ مَجْلِسِهِ ، وَعِلْمِ الْهُدْهُدِ بِحَقَارَةِ نَفْسِهِ ، وَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ جَرِيمَتِهِ ، وَالْعَزْمِ عَلَى عُقُوبَتِهِ .
فَلَوْلَا أَنَّ الْعِلْمَ يَرْفَعُ مِنَ الثَّرَى إِلَى الثُّرَيَّا لَمَا عَظُمَ الْهُدْهُدُ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَوَدُّ أَنْ لَوْ كَانَ نَسْيًا مَنْسِيًّا ، فَلَا جَرَمَ أَبْدَلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ بِالْإِكْرَامِ النَّفِيسِ ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ خِلَعَ الرِّسَالَةِ إِلَى بِلْقِيسَ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : مَا فِي الْمُوَطَّأِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348158nindex.php?page=treesubj&link=18467_18479مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ .
وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ مَحْصُورٌ فِي الْخَبَرِ ، وَالشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ مَحْصُورٌ فِي مَشْرُوطِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ : الْخَيْرُ مَحْصُورٌ فِي الْمُتَفَقِّهِ ، فَمَنْ لَيْسَ بِمُتَفَقِّهٍ لَا خَيْرَ فِيهِ .
الثَّانِي : مَا فِي
أَبِي دَاوُدَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348159مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهَا عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348160وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ .
[ ص: 43 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=10348161وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ .
وَإِنَّ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348162فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ .
وَإِنَّ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348163nindex.php?page=treesubj&link=18475الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَوَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ .
فَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّتِي يُسْلَكُ بِهِ فِيهَا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ سَبَبٌ مُوصِلٌ إِلَى الْجَنَّةِ .
وَأَمَّا وَضْعُ الْمَلَائِكَةِ أَجْنِحَتَهَا ، فَقِيلَ تَكُفُّ عَنِ الطَّيَرَانِ ، فَتَجْلِسُ إِلَيْهِ لِتَسْتَمِعَ مِنْهُ ، وَقِيلَ تَكُفُّ عَنِ الطَّيَرَانِ تَوْقِيرًا لَهُ ، وَقِيلَ تَكُفُّ عَنِ الطَّيَرَانِ لِتَبْسُطَ أَجْنِحَتَهَا لَهُ بِالدُّعَاءِ ، وَلَوْ لَمْ تَعْلَمِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لَمَا فَعَلَتْهُ .
فَيَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ فَمَنْ دُونَهُمْ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ اتِّبَاعًا لِمَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَاصَّةِ مَلَكِهِ .
وَأَمَّا اسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ ، فَهُوَ طَلَبٌ وَدُعَاءٌ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَأَحَدُنَا يُسَافِرُ الْبِلَادَ الْبَعِيدَةَ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ لَعَلَّهُ يَدْعُو لَهُ ، فَمَا ظَنُّكَ بِدُعَاءِ قَوْمٍ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، فَيَا حَبَّذَا هَذِهِ النِّعْمَةُ .
وَأَمَّا التَّشْبِيهُ بِالْبَدْرِ ، فَفِيهِ فَوَائِدُ إِحْدَاهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18475_28750الْعَالِمَ يَكْمُلُ بِقَدْرِ اتِّبَاعِهِ لِلنَّبِيِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الشَّمْسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=45إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=46وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ) . وَالسِّرَاجُ هُوَ الشَّمْسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=13وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) . وَلَمَّا كَانَ الْقَمَرُ يَسْتَفِيدُ ضَوْءَهُ مِنَ الشَّمْسِ
[ ص: 44 ] وَكُلَّمَا كَثُرَ تَوَجُّهُهُ إِلَيْهَا كَثُرَ ضَوْءُهُ حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا ، فَكَذَلِكَ الْعَالِمُ كُلَّمَا كَثُرَ تَوَجُّهُهُ لِلنَّبِيِّ ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ تَوَفَّرَ كَمَالُهُ .
وَثَانِيَتُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28750_18475الْعَالِمَ مَتَى أَعْرَضَ عَنِ النَّبِيِّ بِكُلِّيَّتِهِ كَسَفَ بَالُهُ ، وَفَسَدَ حَالُهُ كَمَا أَنَّ الْقَمَرَ إِذَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ كَسَفَ ، خِلَافًا لِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعُلُومَ تُتَلَقَّى بِالتَّوَجُّهِ ، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النُّبُوَّةِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ الْكَوْكَبَ مَعَ الْبَدْرِ كَالْمَطْمُوسِ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ ، وَضَوْءُ الْبَدْرِ عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ ، مُنْتَشِرُ الْأَضْوَاءِ ، مُنْبَعِثُ الْأَشِعَّةِ فِي الْأَقْطَارِ بَرًّا ، وَبَحْرًا ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الْعَالِمِ ، وَأَمَّا الْعَابِدُ ، فَالْكَوْكَبُ حِينَئِذٍ لَا يَتَعَدَّى نُورُهُ مَحَلَّهُ ، وَلَا يَصِلُ نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ .
الثَّالِثُ : مَا فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذُكِرَ لَهُ رَجُلَانِ عَالِمٌ وَعَابِدٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348164nindex.php?page=treesubj&link=18471فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348165وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ ، وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ خَيْرًا .
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ بِكَثِيرٍ جِدًّا ، فَإِنَّ فَضْلَهُ عَلَى أَدْنَاهُمْ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى الْكَوَاكِبِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً .
الرَّابِعُ : مَا رَوَى
ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي جَامِعِ الْمُخْتَصَرِ عَنِ
ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ : رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ :
مَا جَمِيعُ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِي الْجِهَادِ إِلَّا كَنُقْطَةٍ فِي بَحْرٍ ، وَمَا جَمِيعُ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْجِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ إِلَّا كَنُقْطَةٍ فِي بَحْرٍ .
وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْخَبَرِ :
يُوزَنُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ ، وَدَمُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَرْجُحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَعْلَى مَا لِلشَّهِيدِ دَمُهُ ، وَأَدْنَى مَا لِلْعَالِمِ مِدَادُهُ ، فَإِذَا رُجِّحَ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى ، فَمَا الظَّنُّ بِالْأَعْلَى مَعَ الْأَدْنَى .
[ ص: 45 ] الْخَامِسُ : مَا فِي
التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348168مَا عِنْدَ اللَّهِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنَ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى إِبْلِيسَ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ قِوَامٌ ، وَقِوَامُ الدِّينِ الْفِقْهُ ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ دِعَامَةٌ ، وَدِعَامَةُ الدِّينِ الْفِقْهُ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348169قَلِيلُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ :
إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْعُلَمَاءَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنِّي لَمْ أُوتِكُمْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي إِلَّا لِخَيْرٍ أَرَدْتُهُ بِكُمْ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْكُمْ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْعِلْمَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ عَلَى الْعِبَادَاتِ ، وَغَيْرِهَا .
وَثَانِيهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=18467أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ مُكْتَسَبٍ فِي الْعَالَمِ ، فَهُوَ بِسَبَبِ الْعِلْمِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29563وَكُلَّ شَرٍّ يُكْتَسَبُ فِي الْعَالَمِ ، فَهُوَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُحَقِّقُ ذَلِكَ .
ثَالِثُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ بَيَانَ فَضْلِ
آدَمَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ ، أَوْ عَلَامَاتِهَا عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ ، فَلَمْ يَعْلَمُوا ، وَسَأَلَهُ ، فَعَلِمَ ، وَعَلَّمَ ، فَاعْتَرَفُوا حِينَئِذٍ بِفَضِيلَتِهِ ، وَأَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تَعْظِيمًا لِمَنْزِلَتِهِ ، وَخَالَفَ إِبْلِيسُ فِي ذَلِكَ ، فَبَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَبِيحِ لَعْنَتِهِ ، وَهَذَا حَالُ الْعِلْمِ بِأَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ أَوْ عَلَامَاتِهَا ، فَكَيْفَ بِالْعِلْمِ بِحُدُودِ الدِّينِ ، وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ الْكَلْبَ أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ لِقَذَارَتِهِ ، وَأَذِيَّتِهِ ، وَسُوءِ حَالَتِهِ ، فَإِذَا اتَّصَفَ بِعِلْمِ الِاصْطِيَادِ شَرَّفَهُ الشَّرْعُ ، وَعَظَّمَهُ ، وَجَعَلَ صَيْدَهُ حِينَئِذٍ قِوَامَ الْأَجْسَادِ ، وَمُحْتَرَمًا عَنِ الْإِفْسَادِ .
[ ص: 46 ] وَخَامِسُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18467الْعَالِمَ يَنْقُلُ عَنِ الْحَقِّ لِلْخَلْقِ ، فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ كَذَا ، وَأَوْجَبَ عَلَيْكُمْ كَذَا ، وَأَذِنَ لَكُمْ فِي كَذَا ، وَأَمَرَكُمْ بِتَقْدِيمِ كَذَا ، وَتَأْخِيرِ كَذَا ، فَهُوَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ ، وَمُوصِلُهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَالدَّافِعُ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْمُحَرِّفِينَ ، وَتَبْدِيلَ الْمُبَدِّلِينَ ، وَشُبَهَ الْمُبْطِلِينَ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى مَقَامِ الْمُرْسَلِينَ .
وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنَّ يَتَصَوَّرَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَيُعَامِلَهَا بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الِاحْتِرَامِ ، فَإِنَّ الرَّسُولَ إِذَا وَرَدَ مِنْ عِنْدِ مَلِكٍ عَظِيمٍ قَبُحَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بُيُوتِ الْأُمَرَاءِ ، وَفِي الْأَسْوَاقِ ، أَوْ يَتَقَاصَرَ عَنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ صَوْنًا لِتَعْظِيمِ مُرْسِلِهِ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي الْعَوَائِدِ ، فَكَذَلِكَ طَالِبُ الْعِلْمِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبْعِدَ نَفْسَهُ عَنِ الدَّنَاءَاتِ بَلْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ صَوْنًا لِشَرَفِ مَنْصِبِهِ ، وَتَعْزِيزًا لِثَمَرَاتِ مَطْلَبِهِ .
وَسَادِسُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18469_32095قِيمَةَ الْإِنْسَانِ مَا يُعَلِّمُهُ لَا مَا يَعْلَمُهُ لِقَوْلِ
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ ، وَمَا قَالَ تَحْتَ ثِيَابِهِ ، وَمَعْنَى هَذَا الِاخْتِبَاءِ أَنَّهُ إِنْ نَطَقَ بِشَرٍّ ظَهَرَتْ خِسَّتُهُ ، وَدَنَاءَتُهُ ، وَبِخَيْرٍ ظَهَرَ شَرَفُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ ، فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ عِنْدَ مُشَاهِدِهِ .
وَقَالَ
عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ ، وَلِسَانِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِيَدَيْهِ أَيْ هُوَ مُعْتَبَرٌ بِهِمَا ، فَإِنْ رَفَعَاهُ ارْتَفَعَ ، وَإِنْ وَضَعَاهُ اتَّضَعَ ، فَالْقَلْبُ مَعْدِنُ الْحِكَمِ ، وَاللِّسَانُ تُرْجُمَانُهُ ، وَمَا عَدَاهُ فِي حُكْمِ الْأَعْوَانِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي لَا اعْتِدَادَ بِهَا ، وَأَنْشَدَ
عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذَا الْمَعْنَى :
النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكْفَاءُ أَبُوهُمُ آدَمٌ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ فَإِنْ أَتَيْتَ بِفَخْرٍ مِنْ ذَوِي نَسَبٍ
فَإِنَّ نِسْبَتَنَا الطِّينُ وَالْمَاءُ مَا الْفَخْرُ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمُ
عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ وَقِيمَةُ الْمَرْءِ مَا قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ
وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ [ ص: 47 ] فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ عِلْمًا وَاكْتَسِبْ أَدَبًا
فَالنَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَاءُ
وَسَابِعُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18469_32095الْعِلْمَ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهِ وَشَرِيفِ مَعْنَاهُ يَزِيدُ بِكَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ ، وَيَنْقُصُ مَعَ الْإِشْفَاقِ ، وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ جَلِيلَةٌ آخِذَةٌ بِآفَاقِ الشَّرَفِ جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِهِ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
وَثَامِنُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18467_29508الْعُلَمَاءَ وَصَلُوا بِحَقِيقَةِ الْعِلْمِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ ، فَشَاهَدُوا الْأَخْطَارَ وَالْأَوْطَارَ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ، فَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ ، وَاسْتَأْنَسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ ، وَفَازُوا بِمَا قَعَدَ عِنْدَ الْمُقَصِّرُونَ ، فَهُمْ مَعَ جُلَسَائِهِمْ بِأَشْبَاحِهِمْ ، وَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِأَرْوَاحِهِمْ ، فَلَا جَرَمَ هُمْ أَحْيَاءٌ ، وَإِنْ مَاتَتِ الْأَبْدَانُ ، عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ ، وَالْأَزْمَانِ ، غَابَتْ أَعْيَانُهُمْ عَنِ الْعِيَانِ ، وَصُوَرُهُمْ مُشَاهَدَةٌ فِي الْجِنَانِ وَالْجَنَانِ ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِمَّنْ أَخَذَ مِنْ هُدَاهُمْ بِأَوْثَقِ نَصِيبٍ ، وَنَافَسَ فِي نَفَائِسِهِمْ ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ .