[ ص: 156 ] الطرف الثاني في مستند قضائه ، وفيه مسائل ، إحداها : بلا شك ، فلو يقضي بالحجة ؟ طريقان أحدهما : نعم قطعا ، وأشهرهما قولان ، أظهرهما عند الجمهور : نعم ؛ لأنه يقضي بشهادة شاهدين ، وهو يفيد ظنا ، فالقضاء بالعلم أولى ، والجواب عما احتج به المانع من التهمة أن القاضي لو قال : ثبت عندي وصح [ لدي ] كذا ، لزمه قبوله بلا خلاف ، ولم يبحث عما ثبت به وصح ، والتهمة قائمة ، وسواء على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها ، وما علمه في غيرهما ، فإن قلنا : لا يقضي بعلمه ، فذلك إذا كان مستنده مجرد العلم ، أما لم يكن حجة ، وعلم صدق المدعي ، فهل يقضي بعلمه ، فله أن يقضي ويغنيه علمه بها عن تزكيتهما ، وفيه وجه ضعيف للتهمة . إذا شهد رجلان تعرف عدالتهما
ولو . قضى ، وذلك قضاء بإقرار لا بعلمه ، وإن أقر عنده سرا ، فعلى القولين ، وقيل : يقضي قطعا . ولو شهد عنده واحد ، فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر على قول المنع ؟ وجهان . أصحهما : لا . وإذا قلنا : يقضي بعلمه ، فذلك في المال قطعا وكذا في القصاص وحد القذف على الأظهر ، ولا يجوز في حدود الله تعالى على المذهب ، وقيل : قولان ، ولا يقضي بخلاف علمه بلا خلاف ، بل إذا علم أن المدعي أبرأه عما ادعاه ، وأقام به بينة ، أو أن المدعي قبله حي ، أو رآه قبله غير المدعى عليه ، أو سمع مدعي الرق بعتقه ، ومدعي النكاح يطلقها ثلاثا ، وتحقق كذب الشهود ، امتنع من القضاء قطعا . وكذا إذا علم فسق الشهود ، ثم إن الأصحاب مثلوا القضاء بالعلم الذي هو محل القولين بما ادعى عليه مالا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك ، أو سمع المدعى عليه أقر بذلك ، ومعلوم أن [ ص: 157 ] رؤية الإقراض ، وسماع الإقرار لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت القضاء ، فيدل أنهم أرادوا بالعلم الظن المؤكد لا اليقين . الثانية : إذا رأى القاضي ورقة فيها ذكر حكمه لرجل ، وطلب منه إمضاءه والعمل به ، نظر إن تذكره أمضاه على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وفي أمالي أقر بالمدعى في مجلس قضائه إنه على القولين في القضاء بعلمه وإن لم يتذكره ، لم يعتمده قطعا لإمكان التزوير ، وكذا الشاهد لا يشهد بمضمون خطه إذا لم يتذكر ، فلو كان الكتاب محفوظا عنده ، وبعد احتمال التزوير والتحريف ، كالمحضر والسجل الذي يحتاط فيه القاضي على ما سبق ، فالصحيح والمنصوص والذي عليه الجمهور أنه لا يقضي به أيضا ما لم يتذكر ، لاحتمال التحريف ، وكذا الشاهد في مثل هذه الحالة لا يشهد ، وفيهما وجه حكاه أبي الفرج الرزاز الشيخ أبو محمد وغيره أنه يجوز إذا لم يتداخله ريبة .
وفي جواز المحفوظ عنده وجهان ، أحدهما : المنع ، ولا تكفيه رواية السماع بخطه أو خط ثقة ، والصحيح الجواز ، لعمل العلماء به سلفا وخلفا ، وباب الرواية على التوسعة ، ولو كتب إليه شيخ بالإجازة ، وعرف خطه ، جاز له أن يروي عنه تفريعا على اعتماد الخط ، فيقول : أخبرني فلان كتابة ، أو في كتابة ، أو كتب إلي وهذا على تجويز رواية الحديث اعتمادا على الخط وهو الصحيح ، ومنعها الرواية بالإجازة القاضي حسين .
قلت : وقد منعها أيضا الماوردي في " الحاوي " ونقل هو منعها عن الفقهاء ، وهو أحد قولي - رحمه الله - ولكن أظهر قوليه ، والمشهور من مذاهب السلف والخلف ، والذي عليه العمل صحة الإجازة ، وجواز الرواية بها ، ووجوب العمل بها . ثم هي سبعة أنواع قد لخصتها بفروعها وأمثلتها وما يتعلق بها في " الإرشاد " في مختصر علوم الحديث ، وأنا أذكر منها هنا رموزا إلى مقاصدها تفريعا على الصحيح ، [ ص: 158 ] وهو جوازها . الأول : الشافعي ، كأجزتك رواية صحيح إجازة معين لمعين ، أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذه أعلى أنواعها . البخاري
الثاني : ، كأجزتك مسموعاتي أو مروياتي والجمهور على أنه كالأول ، فتصح الرواية به ، ويجب العمل بها ، وقيل بمنعه مع قبول الأول . إجازة غير معين لمعين
الثالث : أن ، كأجزت المسلمين ، أو كل أحد أو من أدرك زماني ونحوه ، فالأصح أيضا جوازها ، وبه قطع القاضي يجيز لغير معين بوصف العموم أبو الطيب ، وصاحبه وغيرهما من أصحابنا ، وغيرهم من الحفاظ . الخطيب البغدادي
ونقل المتأخر من أصحابنا أن الذين أدركهم من الحفاظ كانوا يميلون إلى جوازها . الحافظ أبو بكر الحازمي
الرابع : ، كأجزتك كتاب السنن وهو يروي كتبا من السنن ، أو أجزت إجازة مجهول أو لمجهول لزيد بن محمد وهناك جماعة كذلك ، فهذه باطلة . فإن أجاز لمسمين معينين لا يعرف أعيانهم ولا أنسابهم ولا عددهم ، صحت ، كما لو سمعوا منه في مجلسه في مثل هذا الحال .
الخامس : ، كأجزت لمن يولد لفلان أو لفلان ، ومن يولد له ، فالصحيح بطلانها ، وبه قطع القاضي الإجازة لمعدوم أبو الطيب ، وابن الصباغ ، وجوزه الخطيب وغيره . والإجازة للطفل الذي لا يميز صحيحة على الصحيح ، وبه قطع القاضي أبو الطيب ، ونقله الخطيب عن شيوخه كافة .
السادس : ، ولم يتحمله بوجه ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز ، وهي باطلة قطعا . إجازة ما لم يسمعه المجيز
السابع : وهي صحيحة عند أصحابنا ، وهو الصواب الذي قطع به الحفاظ الأعلام من أصحابنا وغيرهم ، منهم إجازة المجاز [ ص: 159 ] الدارقطني ، وأبو نعيم الأصفهاني وغيرهم من أصحابنا . وإذا كتب الإجازة ، استحب أن يتلفظ بها ، ولو اقتصر على الكتابة مع قصد الإجازة ، صحت كالقراءة عليه مع سكوته ، والله أعلم . والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي