الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        فقه الوسائل في الشريعة الإسلامية

        الدكتورة / أم نائل بركاني

        المبحث الرابع

        العلاقة الجامعة بين الوسائل والحيل

        (المشروعة وغير المشروعة)

        من خلال كل ما مر، سواء من تعريف الحيل أو من بيان أقسامها، يمكن استنتاج العلاقة التي تجمع بين الوسائل والحيل وهي كما يلي:

        1- الحيل بالمعنى اللغوي وبالمعنى العام، الذي هـو أصل الوضع، مرادفة للوسـائل مطلقا، فهي كل حيلة يتوصل بها إلى مقصود سواء كان حسـنا أم سيئا، وسواء كانت الحيلة الموصلة إلى هـذا المقصود حسنة أم سيئة.

        2- الحيلة الجائزة المؤدية إلى مقصود جائز، هـي ذاتها الوسيلة الجائزة المفضية إلى مقصود جائز؛ كاتخاذ الزواج وسيلة لحفظ النسل.

        3- الحيلة الجائزة المؤدية إلى محظور، وهي ذاتها الوسيلة الجائزة المؤدية إلى محظور؛ كالهبة بقصد إسقاط الزكاة، وكالنكاح بقصد التحليل. وهذا النوع من الحيل هـو مفهومها بالمعنى الخاص، والذي يمثل أحد أقسام الوسائل وهو الوسيلة الممنوعة التي في أصلها مباحة لكن لإفضائها إلى محظور منعت وهي المصطلح عليها بسـد الذريعة. فهذه الحيلة يجب منعها وعدم اتخاذها لإفضائها إلى محرم، أما لو أجيزت لكانت في ذلك مناقضة لسد الذريعة، لذلك قال ابن تيمية: «وتجويز الحيل يناقض سد الذريعة مناقضة ظاهرة» [1] . [ ص: 153 ] 4- الحيلة المحظورة المؤدية إلى محظور، وهي ذاتها الوسيلة المحظورة المؤدية إلى محظور؛ مثالها التبني بقصد الإضرار بالورثة.

        5- الحيلة المحظورة والمؤدية إلى جائز، وهي ذاتها الوسيلة المحظورة والمؤدية إلى جائز، ومثالها شـهادة الزور بقصـد إثبات حق قد أنكره المدعى عليه.

        6- الحيلة بالمعنى الخاص هـي ما كانت جائزة وأدت إلى محرم سواء أكان ترك واجب أو فعل محرم، إفضاؤها إلى هـذا المقصود إما أن يكون قطعيا أو ظنيا، وهو الشأن في الوسائل تماما بالنسبة إلى المقاصد، وقد تم بحث ذلك في الباب الأول. ولعل الفرق الوحيد بينهما أن الحيلة يشترط فيها القصد أما الوسيلة فلا يشترط فيها ذلك.

        7- الوسائل أعم وأشمل من الحيل، وذلك لأنها تتعلق بكل ما يفضي إلى مقصود سواء كانت هـذه الوسائل مباحة أو محرمة، وسواء كان المقصود جائزا أو ممنوعا، وسواء كان المقصود يتوقف على هـذه الوسيلة أو لا، وسـواء صحب القصـد الوسـيلة أم لا، بخلاف الحيل (غير المشروعة) ؛ لأن الشرط فيها أن تكون الحيلة التي هـي الوسيلة مباحة ويرافقها قصد غير جائز لإسقاط واجب أو حق، أو تحليل حرام. ويفهم من مجموع كلام الشاطبي أن الذرائع أوسع دائرة من الحيل وأعم، وذلك بإدراجه الحيل في الذرائع [2] . وعليه فكل حيلة هـي وسيلة، وليست كل وسيلة حيلة. [ ص: 154 ] 8- خلاصة القول هـي: إن الحيل -بالمعنى الخاص- تمثل أحد أقسام الوسـائل وهي الوسائل المباحة التي تفضي إلى محرم، أي تحريم الوسـائل، أما بمعناها العام فهي مرادفة للوسائل، ولعل أبلغ دليل على ذلك هـو أن العلماء الذين تناولوا الحديث عن الحيل كثيرا ما يدرجون فيها سد الذرائع أو الذرائع مطلقا، وحتى التقسيمات التي وضعوها للحيل هـي في غالبيتها أقسام الذرائع المرادفة للوسائل. كما أن منهم من تناول الحيل بالحديث في أثناء بحثه لموضوع الذرائع، فالملاحظ أن هـناك تداخلا بين الموضوعين عند العلماء خاصة عند كل من ابن تيمية وابن القيم والشاطبي.

        لذلك قال ابن تيمية : «هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها، ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم، فهذا القسـم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع» [3] . ثم بين أن الأقسام صارت ثلاثة وهي:

        - ماهو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف؛ وماهو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى؛ وما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة، ثم علق على هـذه الأقسام قائلا: [ ص: 155 ] «والغرض هـنا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع» [4] .

        9- بناء على ما مر تكون الحيل التي اختلف العلماء في جوازها وعدمه والتي اصطلح عليها المجيزون بالمخارج هـي: ما قصد التوصل به إلى تحويل حكم إلى آخر بوسيلة مشروعة في الأصل لتحقيق مصلحة راجحة [5] .

        فالفعل لا يكون حيلة إلا إذا قصد المكلف به تغيير الحكم، أما إذا انتفى القصـد فلا يعد حيلة، كما أن تحويل الحكم يكون بقلبه بالتخلص من الحرام، أو التوصل إلى الحلال بتحقيق مصلحة راجحة، أما الوسيلة التي يتخذها المكلف لقلب الحكم فيشترط أن تكون مباحة في أصل وضعها، أما إذا كانت الوسيلة محرمة فهذا الفعل لا يعد تحيلا، وإنما هـو معاندة للشرع وتهديم لمقاصده.

        وعليه، فمعنى الحيلة والنظر فيها يتوقف على أركانها الثلاثة وهي: القصد والوسيلة والمقصد أو المتوسل إليه.

        10- الحيل المباحة المتفق على صحتها وسلامتها من سوء النية هـي مخارج من الضيق، وهي تشبه الرخص التي تفضل الله بها على عباده للتخفيف عنهم من شدة التكاليف، وقت الاحتياج لذلك، وإزالة الحرج عنهم في الدين [6] . فإذا استعملت بقصد التوصل إلى إثبات حق أو دفع [ ص: 156 ] مظلمة، فهي جائزة في جميع المذاهب؛ لأنها حينئذ تؤدي إلى العدل وتحقيق المصلحة، أما إذا استعملت بقصد التحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن فهي باطلة [7] .

        11- الحيل المختلف فيها يمكن الأخذ بها عند الضرورة والحرج الشديد، إن ترجح دليلها، أو تساوى مع دليل بطلانها، خصوصا للمضطر المحرج، فيجوز الإفتاء بها له لإخراجه من الحرج والضيق، ولإبقاء حرمة الدين واحترامه في نفسه [8] .

        12- إجازة الحيل الممنوعة معناها إجازة الوسائل المحرمة، وهذا يؤدي إلى مخالفة قصـد الشـارع بارتكاب الممنوع والمنهي عنه، والشـريعة تسعى دائما إلى منع وسـد كل باب يفضي إلى الحرام، يقول ابن القيم : «وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها، فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم تناقض والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه» [9] . ثم يعلق ابن القيم على ذلك بكلام أقل ما يقال عنه: أنه حكم، وهو يدافع عن شرع الله ويرد على القائلين بتجويز الحيل المحرمة [ ص: 157 ] فيقول: «وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة، التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها، أن تجوز فتح باب الحيل، وطرق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرماتها، والتذرع على حصول المفاسد التي قصدت دفعها» [10] .

        13- لعل التعبير بالمخارج أولى وأوفق، وذلك لأمور عديدة، من أهمها، أن هـذا التعبير يوحي بالمشروعية دون خداع، على خلاف مصطلح الحيلة فهو يوحي بالخداع وكأن فيه مخالفة للشرع دائما، مع أن المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي العام للحيل يصدق على الحيل المشروعة وغير المشروعة، لكن يبدو أن هـذا المصطلح مرتبط كثيرا في أذهان عامة الناس بمعنى الخديعة والغش والمكر، لكثرة استعمالاته في ذلك بين الناس، ولعله صار متعارفا عليه عند أكثر الناس أن الحيلة مضمونها خديعة ومخالفة، لذلك فالأولى استعمال مصطلح «المخرج» الذي لا شبهة فيه للتعبير عن الحيل المشروعة. كما أن الأمر يتعلق بالمباحث الأصولية، وهي مباحث دقيقة وفي غاية الأهمية، والأصل أن تكون مفرداتها ومصطلحاتها واضحة، لا لبس فيها، فاستعمال مصطلح الحيلة ولو قرن بمصطلح الشرعية، إلا أنه لا يسلم من النقد ويبقى محل شبهة وتساؤل، خاصة إذا علم أن من المستشرقين من تلقف هـذا المصطلح واتهم الشريعة وحملها ما لا يليق بها [11] . [ ص: 158 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية