الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثاني: حجية الوسائل

        الفرع الأول: الأدلة على مشروعية العمل بالوسائل المشروعة

        إن الوسائل إذا كانت واجبة أو مندوبة أو مباحة، فمن البدهي أنها مشروعة، أما إذا كانت مكروهة أو محرمة فتكون غير مشروعة، والأدلة على مشروعية الوسائل أكثر من أن تحصى،

        ولا أدل على ذلك من قوله تعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة:2) ،

        يقول العز بن عبد السلام في تفسير هـذه الآية: «وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح» [1] ،

        وقوله تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ) (النحل:90)

        ويواصل العز في بيان ذلك عند تفسير هـذه الآية قائلا: «وهذا أمر بالمصالح وأسبابها، ونهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها» [2] .

        وقوله تعالى: ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ) (التوبة:120)

        فقد استدل بها كل من العز والقرافي على مشروعية الوسائل، [ ص: 40 ] فقال العز : «وإنما أثيبوا على الظمأ والنصب وليسا من فعلهم؛ لأنهم تسببوا إليهما بسفرهم وسعيهم، وعلى الحقيقة فالتأهب للجهاد الذي هـو وسيلة إلى إعزاز الدين، وغير ذلك من مقاصد الجهاد، فالمقصود ما شرع الجهاد لأجله، والجهاد وسيلة إليه، وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد الذي هـو وسيلة إلى مقاصده» [3] . وقال القرافي عن هـذه الآية: «فأثابهم على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم؛ لأنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هـو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة» [4] .

        وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) (الجمعة:9)

        فالله سبحانه وتعالى يأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة وهو وسـيلة غير مقصودة لذاتها، وإنما المقصود الحقيقي هـو إقامة الصلاة فكان السـعي إليها مطلوب لا لذاته وإنما لغيره، لأن المقصود لا يتحقق إلى بتحصيل هـذه الوسيلة.

        وقوله تعالى: ( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (التوبة:41)

        فهذا الخروج لملاقاة العـدو وسـيلة لتحقيق الجهاد، الذي هـو أيضا وسـيلة لحفظ الدين وإعزازه. [ ص: 41 ] - إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشير إلى اتخاذ الوسائل من أجل تحقيق المقاصد، وما الأسباب والشروط وانتفاء الموانع إلا وسائل لتحقيق المقاصد، وما من تصرف يصدر عن المكلف ما هـو في الحقيقة إلا وسـيلة إلى فعل آخر أو غاية أو مقصد معين، وما النية التي تعد في كثير من الأحيان إما ركنا أو شرطا في صحة العمل إلا وسيلة لتمييز العادات عن العبادات، وتمييز رتب العبادات، كما أنها وسيلة للتقرب إلى الله تعالى طلبا للثواب والأجر، وذلك لأنها وسيلة للتمييز في ذات الفعل.

        ولقد تناول أبو زهرة حجية الوسائل أثناء حديثه عن سد الذريعة فقال: «الأصل في اعتبار سد الذريعة هـو النظر في مآلات الأفعال، وما تنتهي في جملتها إليه، فإن كانت تتجه نحو المصالح التي هـي المقاصد والغايات من معاملات بني الإنسان بعضهم مع بعض، كانت مطلوبة بمقدار ما يناسب طلب هـذه المقاصد، وإن كانت لا تساويها في الطلب. وإن كانت مآلاتها تتجه نحو المفاسد فإنها تكون محرمة بما يتناسب مع تحريم هـذه المفاسد، وإن كان مقدار التحريم أقل في الوسيلة» [5] .

        والنظر في هـذه المآلات لا يتوقف على قصد العامل ونيته، بل النظر كل النظر يكون إلى نتيجة العمل وثمرته، فيحسن الفعل في الدنيا، أو يقبح، ويطلب أو يمنع؛ لأن الدنيا قامت على مصالح العباد، وبحسب النية يثاب [ ص: 42 ] الشخص أو يعاقب في الآخرة؛ لذلك في الوسائل لا ينظر فقط إلى النيات والمقاصد الشخصية، بل إلى النتائج والمآلات، وقد يكتفى بالنتائج دون النيات. ففي الوسائل المشروعة يكون الاعتبار للنيات وللمآلات، أما في الوسائل التي يحكم على عدم مشروعيتها فالاعتبار يكون للمآلات بالدرجة الأولى، ولو كانت القصود حسنة، فمتى كان المآل محرما، أو هـادما لمقاصد الشارع فلا اعتبار للقصود والنيات، وإنما منع الفعل يتوقف على هـذا المآل.

        ومن الأمثلة التي ذكرها العلماء في الوسائل المشروعة أو ما أطلقوا عليه «فتح الذرائع» مايلي [6] :

        1- جواز دفع المال للمحاربين الكفار وذلك لإطلاق سراح أسرى المسلمين، فدفع المال لهم محرم في الأصل؛ لأنه يؤدي إلى تقوية الأعداء، ولكن أجيز لدفع ضرر أكبر هـو عدم عودة الأسرى وتقوية الجماعة الإسلامية لهم.

        2- جواز دفع المال للدولة المحاربة لدفع خطرها إذا لم يكن لجماعة المسلمين قوة يستطيعون بها حماية حدودهم.

        ومن الأمثلة على «سد الذرائع» أو الوسائل الممنوعة:

        - تحريم النظر إلى النساء؛ لأنه يؤدي إلى الزنا.

        - تحريم بيع السلاح وقت الفتنة؛ لأنه إعانة على القتال والعدوان غالبا. [ ص: 43 ] - منع القاضي من القضـاء بعلمه؛ لأنه وسـيلة للقضاء بالباطل من قضاة السوء.

        بالإضافة إلى ما ذكر من آيات دالة على مشروعية الوسائل، فهناك قواعد أصولية تدعم هـذه المشروعية، وهذه القواعد هـي: قاعدة مقدمة الواجب، وقاعدة اعتبار المآل، ومكملات المقاصد [7] .

        الفرع الثاني: الأدلة على عدم مشروعية الوسائل التي تفضي إلى ممنوع ولو كانت مباحة في نفسها

        الوسائل غير المشروعة، سواء أكانت محرمة في ذاتها وهذه حتما يجب تركها وعدم اللجوء إليها، أو مباحة في نفسها لكنها تؤدي إلى المحرم، وهو ما يعرف بسد الذريعة، فالأدلة على منع هـذا النوع كثيرة نذكر بعضها، وذلك لأن الإمام ابن القيم [8] تولى ذلك وذكر تسعة وتسعين دليلا على وجوب سد الذريعة ومنع الوسائل المباحة التي تؤدي إلى محظور، منها: قولـه تعـالى: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) (الأنعام:108) . [ ص: 44 ] فقد حرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم وهذا لكونه وسيلة وذريعة إلى سب الكفار والمشركين لله تعالى، ويقول ابن القيم في بيان وجه النهي: «وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح عن المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز» [9] .

        وقولـه تعـالى: ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) (النور:31) ،

        فمنع الله النسـاء من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سـببا إلى سـمع الرجال صوت الخلخال فتثار دواعي الشهوة منهم إليهن.

        ومثل ذلك نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسـب الرجل والدي غيره فيكون ذلك سببا في سب والديه، وإن لم يقصد، ( فقال عليه الصلاة والسلام: «من الكبائر شتم الرجل والديه.. قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) [10] .. وككفه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس، فمنع من أشار عليه بقتل من ظهر نفاقه، حتى ( لا يتحدث [ ص: 45 ] الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) [11] . وقد علق الشاطبي على ذلك بقوله: «فقد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام، ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هـو أرجح في الاعتبار» [12] .

        فالفساد الذي يدسه المنافقون بين صفوف المسلمين يقتضي قتلهم، وفي هـذا مصلحة حماية صفوف المسلمين، فقتلهم في الأصل مشروع لأنه يحقق مصلحة للإسلام والمسلمين، لكن هـذا القتل قد يكون ذريعة لاتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يقتل أصحابه فينفض من حوله المسلمون، وهي مفسدة أكبر من مصلحة قتل المنافقين، فسد هـذا الطريق.

        كما أن تأسيس البيت على قواعد إبراهيم أمر مأذون فيه أصلا لما يحققه من مصلحة إعادة البيت إلى أسسه الأولى، التي جاء الأمر الإلهي بالبناء [ ص: 46 ] عليها، ولكن ذلك قد يفضي إلى مفسدة أكبر من مصلحة بناء البيت على قواعد إبراهيم ، وهو خروج الناس عن الدين وارتدادهم عنه، وهذه المفسدة أعظم وعليه فيمنع من الفعل المأذون فيه سدا للذريعة؛ لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة، رضي الله عنها: ( لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفا ) [13] .

        وقد أخذ الصحابة بسد الذرائع في أحكامهم، وبنوا عليها كثيرا من فتاويهم، ومن أمثلة ذلك [14] : اتفاق الصـحابة وعامة الفقهاء على قتل الجماعة بالواحد، وإن كان الأصـل في القصاص أن هـذا ممتنع، لعدم المماثلة، لكن لو لم يؤخذ بهذا الحكم، لكان ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، فلا يقتص من الجماعة، لذلك في عهد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه، لما عرضت عليه مسألة الرجل الذي قتلته زوجة أبيه وخليلها، فبعد تردد وتمحيص للموضوع، واستشارة علي ، رضي الله عنه، حكم بقتل الجماعة بالواحد، وقال كلمته المشـهورة: " «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا» " [15] . [ ص: 47 ] ومن ذلك ما قام به عثمان ، رضي الله عنه، من جمع للمصحف على حرف واحد، لئلا يكون ذريعة لاختلاف المسلمين في القرآن، ووافقه الصحابة على ذلك [16] .

        ومنه أيضا التقاط ضوال الإبل، حيث كان الأمر على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما، خلاف ذلك، أي لا تلتقط بل تترك سائبة لا يمسها أحد حتى يلقاها صاحبها، لأنه كان يؤمن عليها، أما في عهد عثمان فقد أمر بالتقاطها وتعريفها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، وذلك سدا للذريعة أمام الناس لسرقتها بسبب تغير الظروف وفقدان ما كان من الأمانة في العهود السابقة، فلا يؤكل مال الغير بالباطل [17] .

        بناء على ما مر، فقد دلت النصوص على أن الفعل إذا كان مأذونا فيه ومشروعا في أصله؛ لأنه يحقق مصلحة، لكنه يؤدي إلى حصول مفسدة أكبر؛ فإنه يمنع دفعا لتلك المفسدة.. وقد أشار الشاطبي إلى أن ذلك هـو مقصود الشارع، وإن لم يثبت ذلك بنص واحد ولا دليل معين، وإنما هـو مسـتفاد من جملة النصوص، فقال مقررا هـذا المعنى: «ولهذه المسـألة فوائد تنبني عليها؛ أصلية وفرعية، وذلك أنه إذا تقرر عند المجتهد، ثم استقرى معنى عاما من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص [ ص: 48 ] نازلة تعن بل يحكم عليها، وإن كانت خاصة، بالدخول تحت عموم المعنى المستقرأ من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذ صار ما استقرى من عموم المعنى كالنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبة» [18] .

        وعليه، فالوسائل المشروعة هـي ما كانت مشروعة في نفسها، وتفضي إلى مشروع، والوسائل الممنوعة هـي ما كانت ممنوعة في نفسها وتفضي إلى ممنوع، أو مباحة في نفسها لكنها تفضي إلى ممنوع فتمنع وتسد.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية