الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثالث: الفرق بين الوسيلة والمقدمة والتوابع

        كثيرا ما يلتبس الأمر بين الوسيلة والمقدمة، ويطلق كل واحدة منهما على الأخرى، فهل الوسيلة مرادفة للمقدمة؟ وماهو وجه الاشتراك والاختلاف بينهما؟ وهل الوسيلة هـي التابع؟ وهل هـناك فرق بينهما؟ ومتى يتفقان في المعنى ومتى يختلفان؟ وهو ما نحاول الإجابة عنه هـنا.

        الفرع الأول: الفرق بين الوسيلة والمقدمة

        تعريف المقدمة

        المقدمة لغة

        جاء في لسان العرب [1] : مقدمة العسكر وقادمتهم وقدامهم: متقدموهم. ومقدمة الجيش، بكسر الدال، أوله، الذين يتقدمون الجيش، [ ص: 49 ] والمقدمة ما استقبلك من الجبهة والجبين، والمقدمة الناصية والجبهة، ومقاديم وجهه ما استقبلك منه.. وقيل: إنه يجوز مقدمة بفتح الدال. ومقدمة الجيش هـي من قدم بمعنى تقدم [2] ، ومنه قولهم المقدمة والنتيجة.. وقد استعير اللفظ لكل شيء، فقيل: مقدمة الكتاب، ومقدمة الكلام بكسر الدال، وقد تفتح. وقيل مقدمة كل شيء أوله. ومقدم كل شيء نقيض مؤخره.

        - المقدمة اصطلاحا:

        عرفها صاحب قواعد الفقه بقوله: «المقدمة ما يتوقف عليه الشيء» [3] وبمثله عرفه البرديسي فقال: «المقدمة ما يتوقف عليها وجود الشيء» [4] ؛ وعرفها الزحيلي بقوله: «الأمر الذي يتوقف عليه وجود الشيء» [5] ؛ فالمقدمة هـي الأمر الذي يتوقف عليه وجود الشيء، فلا يتصور وقوع المقصود إلا بوجود هـذه المقدمة، سواء كانت مفضية إلى هـذا المقصود أو لا. لذلك فيلزم من عدم وجود المقدمة عدم وجود الفعل. [ ص: 50 ] ومثال ذلك السـفر لطاعة أو معصـية فإنه يتوقف ارتكاب الطـاعة أو المعصية على قطع المسافة، إلا أن السفر في حد ذاته ليس من شأنه أن يفضي إلى تلك الطاعة أو المعصية [6] .

        والفرق بين المقدمة والوسيلة هـو أن الوسيلة، كما سبق تعريفها، هـي الذريعة إلى الشيء مطلقا، فهي كل ما يتوصل به إلى المقصود، سواء توقف وجود هـذا المقصود على هـذه الوسيلة أم لا، لكن يشترط في الوسيلة الإفضاء إلى المقصود، أما المقدمة فيتوقف وجود المقصد عليها.

        وعليه، فالوسيلة أعم من المقدمة، فهي تشترك مع المقدمة في كونها سابقة على المقصود في الوجود، وتشمل ما يتوقف عليه وجود الشيء وغيره، وتكون عادة مفضية إلى المقصود وغيره [7] . وهذا ينطبق على الوسائل بصفة عامة، جائزة أو ممنوعة.

        أما الوسائل الممنوعة المرادفة لسد الذريعة فهي عكس المقدمة؛ لأن الوسائل الممنوعة الإفضاء فيها إلى المقصود ضروري لتمنع وتسد الذريعة، غير أن وجود المقصود لا يتوقف على هـذه الوسيلة الممنوعة.

        فالظاهر في الوسيلة هـو جانب الوجود أي الجانب الإيجابي، أي إذا وجدت الوسائل وجد المقصود قطعا أو احتمالا، أما انعدام الوسيلة لا يلزم منه ضرورة انعدام المقصد، إذ قد تنعدم الوسيلة والمقصود موجود. [ ص: 51 ] أما في المقدمة فينظر إليها من الناحية السلبية، أي جانب العدم إذ يلزم من عدم وجود المقدمة عدم وجود الفعل سواء كان واجبا أو غيره، ولا يلزم من وجود المقدمة وجود الفعل بالضرورة.

        وبناء على ما مر يمكن القول: إن بين الوسيلة والمقدمة عموما وخصوصا مطلقا؛ فكل مقدمة وسيلة وليس كل وسيلة مقدمة؛ وذلك لأن الوسيلة أعم من المقدمة.

        فقد تجتمع الوسيلة مع المقدمة في أمر واحد، كما في شرب المسكر المفضي إلى مفسدة ذهاب العقل، والزنا المفضي إلى اختلاط الأنساب، فكل منهما [8] مقدمة للمفسدة ووسيلة إليها. وكما في الوضوء بالنسبة إلى الصلاة فهو مقدمة لها باعتبار أن الصلاة لا تصح بدونه، وهو وسيلة باعتبار أنه مفضي إلى الصلاة.

        وتنفرد الوسيلة عن المقدمة في حالات بحيث تكون الوسيلة مفضية إلى المقصود، لكن هـذا المقصود قد لا يتوقف على الشيء الواقع وسيلة، كالضرب بالأرجل في قوله تعالى ( ولا يضربن بأرجلهن )

        فالضرب بالأرجل وسـيلة للافتتان بالمرأة، لكن هـذا الافتتان لا يتوقف على الضرب بالأرجل فلا يكون مقدمة؛ لأنه قد يتحقق بطرق أخرى. [ ص: 52 ]

        علاقة الوسائل بمقدمة الواجب [9] :

        مقدمة الواجب هـي ما يتوقف الواجب عليه سواء أكانت المقدمة سببا كالوقت بالنسبة إلى التكليف بالصلاة والصـوم، أو شرطا كالعقل فإنه شرط للتكليف بالواجب. ويعبر عن هـذه المسألة بعبارة: «ما لا يتم الواجب إلا به» ، فهل يوصف بالواجب؟

        للإجابة عن هـذا السؤال رأى الغزالي أنه لابد من تقسيم ما لا يتم الواجب إلا به إلى قسمين [10] : [ ص: 53 ]

        الأول: ما ليس في مقدور المكلف، كاليد في الكتابة وكالرجل في المشي، فهذا لا يوصف بالوجوب بل عدمه يمنع الإيجاب، إلا على مذهب من يجوز التكليف بما لا يطاق.

        الثاني: ما كان في مقدور العبد وتعلق باختياره، فهذا ينقسم إلى الشرط الشرعي كالطهارة في الصلاة فيجب وصفها بالوجوب عند وجوب الصلاة؛ لأن إيجاب الصلاة إيجاب لما يصير به الفعل صلاة، وإلى الحسي كالسعي إلى الجمعة والمشي إلى الحج وإلى مواضع المناسك فينبغي أن يوصف بالوجوب؛ لأن أمر البعيد عن مكة بالحج أمر بالمشي إليه لا محالة.

        والقول الراجح [11] في المسألة: أن مقدمة الواجب تكون واجبة، سواء كانت جزءا من الواجب المطلق [12] كالسجود في الصلاة، أو خارجة عنه كالسبب بأقسامه الثلاثة [13] ، أو الشرط بأقسامه الثلاثة ما داما (السبب والشرط) في مقدور المكلف [14] . [ ص: 54 ] بناء على ما مر يمكن استنتاج العلاقة بين مقدمة الواجب والوسـائل؛ إذ أن مقدمة الواجب تمثل قسما من الوسائل وهي الوسائل المشروعة ومدى كونها واجبة إذا كان حصول المقصود متوقفا عليها، فالوسائل أعم من مقدمة الواجب؛ وذلك لأنها تشمل كل أنواع الوسائل من واجبة ومندوبة ومباحة ومكروهة ومحرمة، أما مقدمة الواجب فتتعلق بالوسائل الواجبة. فمقدمة الواجب مقابلة لسد الذريعة، فالأولى تعنى بالوسائل الواجبة والثانية تعنى بالوسائل الممنوعة.

        والفرق الآخر أن مقدمة الواجب ينظر إليها من حيث مقدرة المكلف ليتحقق وجوبها، أما الوسائل فلا ينظر إليها من هـذه الزاوية؛ وذلك لأن الوسائل العبرة فيها للإفضاء إلى المقصود، ووجوبها وعدمه يتعلق بحكم المقصد، وكونها في مقدور المكلف أو في غير مقدوره متعلق بنوع الوسائل من حيث كونها منصوصا عليها أو غير منصوص عليها. وبالتالي، من الوسائل ماهو في مقدور المكلف ومنها ماهو في غير مقدوره، لكن في جميع الحالات فهي وسائل.

        ومن أهم ما يترتب على مسألة «ما لا يتم الواجب إلا به» هـو الجزاء من ثواب وعقاب؛ الثواب في تحصيل الواجب.. هـل يترتب الثواب على تحصيل الوسيلة وذلك لكونها الموصلة لهذه القربة؟ وهل يثاب عليها ثواب [ ص: 55 ] الواجب، بناء على أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؟ وهل يترتب العقاب على ترك الوسيلة كما يترتب على ترك الواجب؟ [15] .

        يقول القرافي في ذلك: «لا نـزاع في أن المقاصد تتوقف على الوسائل، وإنما النـزاع إذا تركت الوسيلة مع المقاصد، فهل يعاقب عقابين: عقاب على الوسيلة وعقاب على المقصد؟ وهل يثاب ثوابين عليهما؟».. ثم أجاب القرافي على ذلك بقوله: «وتعدد الثواب والعقاب لا دليل عليه، وإنما الدليل على التوقف، وهو مسلم إجماعا. فمن أين لنا: أن الله يعاقب تارك الجمعة وتارك الحج على ترك العبادة والسعي بمجرد كونه أمر بهما مع السكوت عن السعي؟ ولك أن تقول: تخريج العقاب على ذلك واضح، وأما تخريج الثواب ففيه نظر، لجواز أن يثاب عليه وإن لم يكن واجبا»[16] .

        من الجدير بالذكر هـنا أن أشير إلى حكم مقدمة المندوب والمكروه والحرام ؛ أما مقدمة المندوب فهي كمقدمة الواجب مندوبة، والمكروه فمقدمته مكروهة وأما الحرام ففيه تفصيل [17] . [ ص: 56 ]

        الفرع الثاني: الفرق بين الوسيلة والتابع

        - التابع لغة

        [18] تابع مأخوذ من تبع: وتبع الشيء تبعاي الأفعال، وتبعت الشيء تبوعا: سرت في إثره، واتبعته وأتبعته وتتبعه قفاه وتطلبه متبعا له، وكذلك تتبعه وتتبعته تتبعا.. وتبعت القوم تبعا وتباعة بالفتح إذا مشـيت خلفـهم أو مروا بك فمضيت معهم. وفي حديث الدعاء: «تابع بيننا وبينهم على الخيرات»، أي اجعلنا نتبعهم على ما هـم عليه.. والتباعة مثل التبعة والتبعة وأتبعه الشيء جعله تابعا.. والتابع: التالي والجمع تبع وتباع وتبعة. والتبع اسم للجمـع.. وتبعه تبعا وأتبعه: مر به فمضى معه..

        ومنه قول الله تعـالى: ( إنا كنا لكم تبعا ) (إبراهيم:21)

        أي ذوي تبع. وتبعت الشيء واتبعته مثل ردفته وأردفته،

        وقوله تعالى: ( إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) (الصافات:10) .

        والتبيع الفحل من ولد البقر لأنه يتبع أمه وهو من استكمل الحول.. والتبيع الغريم، وتابعه بمال أي طلبه. والتبيع: الذي يتبعك بحق يطالبك به وهو الذي يتبع الغريم بما أحيل عليه.

        - التابع اصطلاحا

        تطلق عليها عدة اصطلاحات منها التوابع والمتممات والزوائد، والمكملات، يقول صاحب رسالة في القواعد الفقهية: «وسائل الأمور كالمقاصد وحكم بهذا الحكم للزوائد» [19] .. [ ص: 57 ] وقد جاء في موسوعة القواعد الفقهية أن التابع هـو: «ما لا يوجد مستقلا بنفسه، بل وجوده تابع لوجود غيره» [20] .. والتابع في اصطلاح الفقهاء يطلق على عدة أمور [21] :

        الأول: ما اتصل بغيره اتصالا حقيقيا لغة أو شرعا، بحيث يكون جزءا منه كالعضو من الحيوان، وفروع الأشجار وأوراقها، وقفل الباب المثبت على الباب، والحجارة المخلوقة في الأرض وغير ذلك.

        الثاني: ما اتصل بغيره اتصالا قابلا للانفصال عنه كالجنين والثمار.

        الثالث: ما اتصل بغيره اتصالا ضروريا كالمفتاح من القفل.

        الرابع: ما اتصـل بغيره اتصـالا عرضـيا كالنقـل والتفريغ في الأشـياء المباعة.

        قال الفتوحي في المكملات: «ومعنى كونه مكملا له أنه لا يستقل ضروريا بنفسه بل بطريق الانضمام؛ فله تأثير فيه، لكن لا بنفسه، فيكون في حكم الضرورة مبالغة في مراعاته» [22] . [ ص: 58 ] والملاحظ من كلام الفتوحي أن المكمل أو التابع لا يستقل بالتأثير بنفسه في المقاصد، ولكنه يؤثر فيما يؤثر فيها، فلا يحصل المقصود الضروري على أكمل وجه إلا به.

        وعليه يمكن تعريف المكمل أو التابع بأنه: ما يتم به المقصود، سواء كان ضروريا أو حاجيا أو تحسينيا، على أوفى وأكمل الوجوه.

        ولقد اشتهر على لسان الفقهاء قولهم: «التابع تابع» ، وهو أحد القواعد الفقهية المنصوص عليها في كتبهم.. ومعنى هـذه القاعدة «التابع تابع»: أن الشيء الذي جعل تابعا لشيء آخر لابد أن يكون تابعا له في الحكم ولا يفرد بحكم مستقل.. وقد فرعوا عنها عدة قواعد فقهية منها [23] : [ ص: 59 ]

        1- التابع يسقط بسقوط متبوعه [24] : وترد أحيانا بصيغة أخرى وهي «إذا سقط الأصل سقط الفرع» . ومعنى هـذه القاعدة أن التابع في الوجود يأخذ حكم المتبوع، فإذا سقط حكم المتبوع كان سقوط حكم المتبوع من باب أولى [25] .

        لكن سـقوط التابع لا يترتب عليه سـقوط المتبوع بالضـرورة؛ لأن لا حكم له بالأصالة بل بالتبعية حيث إنه فرع متبوع.

        2- التابع لا يتقدم على المتبوع: وقد ذكر هـذه القاعدة كل من السيوطي [26] وابن نجيم [27] ، وهي قاعدة لا تجري في كل أبواب الفقه، بل في أبواب معينة فقط، وعادة ما تعتبر هـذه القاعدة من الحكمة، لأن العقل في الغالب يرتضي أن يكون التابع للشيء متأخرا عنه لا متقدما عنه. [ ص: 60 ]

        3- يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها: يفهم من هـذه القاعدة أنه يمكن التسامح في التوابع مادامت توابع، ولا يتسامح فيها إذا صارت متبوعا أي مقصودا [28] .

        أوجه الاتفاق والاختلاف بين الوسيلة والتابع:

        تختلف الوسـائل عن التوابع من حيث الحكم عليها؛ فالوسـائل غالبا ما تأخذ حكم المقاصـد من وجوب وندب وإباحة وكراهة وتحريم، بحيث إذا كان المقصد واجبا فالوسيلة المحققة لهذا المقصد والمؤدية إليه تكون واجبة، أما في التوابع فالأمر يختلف؛ وذلك لأنه إذا كان المقصد واجبا مثلا فليس بالضرورة أن يكون التابع للمقصد واجبا، بل غالبا ما يكون مباحا من حيث كون فعلا وقع بعد المقصد تتميما له وتكملة له، لكن إذا نظر إلى التابع من حيث الثواب عليه فهو يثاب عليه كما يثاب على المقصد ووسيلته، بناء على أنه عبادة يؤجر عليها فاعلها، وقد ثبت في السنة عن اتباع الجنازة وعيادة المريض أن صاحبها مأجور من وقت الخروج من بيته إلى أن يرجع لأنه في عبادة.

        وقد قيل للرجل: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، وكان من أبعد الناس بيتا عن المسجد، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب [ ص: 61 ] ( المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فلما ذكروا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: «قد جمع الله لك ذلك كله ) [29] .

        وعليه، فتوابع الواجب ليست واجبة، وتوابع المندوب ليست مندوبة، أما في الوسائل فوسيلة الواجب تكون واجبة في الأصل إلا في حالات استثنائية. وسيأتي توضيح ذلك في حكم الوسائل.

        وبناء على ما مر، يمكن اعتبار التوابع نوعا أو جزءا من الوسائل بناء على أن لها علاقة بالمقاصد كما في الوسـائل، فهي إحدى الطرق التي ليست بموصلة للمقاصد وإنما متممة ومكملة لها، حيث يتم بها المقصود على أكمل وجه. وأما الوسائل فهي أعم من أن تكون توابع؛ فهي توابع ومتممات للمقاصد من جهة، كما أنها سوابق وطرق موصلة ومحققة للمقاصد من جهة أخرى. [ ص: 62 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية