الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    50 - ( فصل )

                    إذا ردت اليمين على المدعي ، فهل تكون يمينه كالبينة ، أم كإقرار المدعى عليه ؟ فيه قولان للشافعي . أظهرهما عند أصحابه : أنها كالإقرار . فعلى هذا : لو أقام المدعى عليه بينة بالأداء والإبراء بعد ما حلف المدعي ، فإن قيل : يمينه كالبينة سمعت للمدعى عليه . وإن قيل : هي كالإقرار لم تسمع ، لكونها مكذبة للبينة بالإقرار .

                    [ ص: 108 ] وإذا قضي بالنكول فهل يكون كالإقرار أو كالبذل ؟ فيه وجهان ، ينبني عليهما ما إذا ادعى نكاح امرأة واستحلفناها فنكلت ، فهل يقضى عليها بالنكول وتجعل زوجته ؟ فإن قلنا : النكول إقرار حكم له بكونها زوجته وإن قلنا : بذل ، لم نحكم بذلك ، لأن الزوجية لا تستباح بالبذل . وكذلك لو ادعى رق مجهول النسب ، وقلنا : يستحلف ، فنكل عن اليمين . وكذلك لو ادعى قذفه واستحلفناه فنكل ، فهل يحد للقذف ؟ ينبني على ذلك . وكذلك الخلاف في مذهب أبي حنيفة ، فالنكول بذل عنده وإقرار عند صاحبيه .

                    قال صاحباه : فلا يستحلف في النكاح والرجعة والإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود ، لأن النكول عند أبي حنيفة بذل وهو لا يجري في هذه الأشياء ، وعندهما يستحلف ، لأنه يجري مجرى الإقرار ، وهو مقبول بها .

                    واحتج من جعله كالإقرار بأن الناكل كالممتنع من اليمين الكاذبة ظاهرا ، فيصير معترفا بالمدعى ، لأنه لما نكل مع إمكان تخلصه باليمين ، دل ذلك على أنه لو حلف لكان كاذبا ، وذلك دليل على اعترافه ، إلا أنه لما كان دون الإقرار الصريح لم يعمل عمله في الحدود والقيود . واحتج من جعله كالبذل ، بأنا لو اعتبرناه إقرارا منه يكون كاذبا في إنكاره ، والكذب حرام ، فيفسق بالنكول بعد الإنكار ، وهذا باطل ، فجعلناه بذلا وإباحة صيانة له عما يقدح في عدالته ، ويجعله كاذبا .

                    والصحيح : أن النكول يقوم مقام الشاهد والبينة ، لا مقام الإقرار ولا البذل . لأن الناكل قد صرح بالإنكار ، وأنه لا يستحق المدعي به . وهو مصر على ذلك ، متورع عن اليمين . فكيف يقال : إنه مقر ، مع إصراره على الإنكار ، ويجعل مكذبا لنفسه ؟ وأيضا ، لو كان مقرا لم تسمع منه بينة نكوله بالإبراء والأداء ، فإنه يكون مكذبا لنفسه . وأيضا ، فإن الإقرار إخبار وشهادة المرء على نفسه . فكيف يجعل مقرا شاهدا على نفسه بنكوله ، والبذل إباحة وتبرع ، وهو لم يقصد ذلك ، ولم يخطر على قلبه . وقد يكون المدعى عليه مريضا مرض الموت ، فلو كان النكول بذلا وإباحة اعتبر خروج المدعى من الثلث . فتبين أن لا إقرار ولا إباحة . وإنما هو جار مجرى الشاهد والبينة ، فإن " البينة " اسم لما تبين الحق ، ونكوله - مع تمكنه من اليمين الصادقة التي يبرأ بها من المدعى عليه ويتخلص بها من خصمه - دليل ظاهر على صحة دعوى خصمه وبيان أنها حق ، فقام مقام شاهد القرائن .

                    فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه وسلم أجرى السكوت مجرى الإقرار والبذل في حق البكر إذا استؤذنت ؟ [ ص: 109 ] قيل : ليس ذلك نكولا ، وإنما هو دليل على الرضا بما استؤذنت فيه ، لأنها تستحي من الكلام ويلحقها العار لكلامها الدال على طلبها ، فنزل سكوتها منزلة رضاها للضرورة . وهاهنا المدعى عليه لا يستحي من الكلام ولا عار عليه فيه فلا يشبه البكر ، والله أعلم .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية