الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    63 - ( فصل )

                    وأما تحليف الشاهد : فقد تقدم . ومما يلتحق به : أنه لو ادعى عليه شهادة فأنكرها ، فهل يحلف ، وتصح الدعوى بذلك ؟ فقال شيخنا : لو قيل إنه تصح الدعوى بالشهادة لتوجه ، لأن الشهادة سبب موجب للحق ، فإذا ادعى على رجل أنه شاهد له بحقه ، وسأل يمينه : كان له ذلك ، فإذا نكل عن اليمين لزمه ما ادعى بشهادته ، فإن قيل : إن كتمان الشهادة موجب للضمان لما تلف ، وما هو ببعيد ، كما قلنا : يجب الضمان على من ترك الطعام الواجب إذا كان موجبا للتلف ، أوجب الضمان كفعل المحرم ، إلا أنه يعارض هذا : أن هذا تهمة للشاهد ، وهو يقدح في عدالته فلا يحصل المقصود ، فكأنه يقول : لي شاهد فاسق بكتمانه إلا أن هذا لا ينفي الضمان في نفس الأمر .

                    وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ضمن مسألة الشهادة على الشهادة في الحدود التي لله وللآدمي : أن الشهادة ليست حقا على الشاهد ، بدلالة أن رجلا لو قال لي على فلان شهادة فجحدها فلان ، أن الحاكم لا يعدى عليه ولا يحضره ، ولو كانت حقا عليه لأحضره ، كما يحضره في سائر الحقوق ، وسلم القاضي ذلك ، وقال : ليس إذا لم يجز الاستقراء والإعداء ، أو لم تسمع الدعوى لم تسمع الشهادة به ، وكذلك أعاد ذكرها في مسألة شاهد الفرع على شاهد الأصل ، وأن الشهادة ليست حقا على أحد ، بدليل عدم الإعداء ، والإحضار إذا ادعى أن له قبل فلان شهادة . وهذا الكلام ليس على إطلاقه ، فإن الشهادة المتعينة حق على الشاهد ، يجب عليه القيام به ، ويأثم بتركه ، قال الله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } .

                    وقال تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } وهل المراد به : إذا ما دعوا للتحمل ، أو للأداء ؟ على قولين للسلف ، وهما روايتان عن أحمد ، والصحيح : أن الآية تعمهما ، فهي حق له ، يأثم بتركه ويتعرض للفسق والوعيد ، ولكن ليست حقا تصح الدعوى به ، والتحليف عليه ، لأن ذلك يعود على مقصودها بالإبطال ، فإنه مستلزم لاتهامه والقدح فيه بالكتمان . وقياس المذهب : أن الشاهد إذا كتم شهادته بالحق ضمنه ، لأنه أمكنه تخليص حق صاحبه فلم [ ص: 126 ] يفعل ، فلزمه الضمان ، كما لو أمكنه تخليصه من هلكة فلم يفعل . وطرد هذا أن الحاكم إذا تبين له الحق فلم يحكم لصاحبه به ، فإنه يضمنه لأنه أتلفه عليه بترك الحكم الواجب عليه . فإن قيل : هذا ينتقض عليكم بمن رأى متاع غيره يحترق أو يغرق أو يسرق ويمكنه دفع أسباب تلفه ، أو رأى شاته تموت ويمكنه ذبحها ، فإنه لا يضمن في ذلك كله .

                    قيل : المنصوص عن عمر رضي الله عنه وعن غيره : إنما هو فيمن استسقى قوما فلم يسقوه حتى مات ، فألزمهم ديته ، وقاس عليه أصحابنا كل من أمكنه إنجاء إنسان من هلكة فلم يفعل . وأما هذه الصورة التي نقضتم بها : فلا ترد . والفرق بينها وبين الشاهد والحاكم : أنهما متسببين للإتلاف بترك ما وجب عليهما من الشهادة والحكم ، ومن تسبب إلى إتلاف مال غيره وجب عليه ضمانه ، وفي هذه الصورة لم يكن من الممسك عن التخليص سبب يقتضي الإتلاف ، والله أعلم .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية