الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      المبحث الثالث: خطورة الإفراط في الاجتهاد المقاصدي

      ذكرنا في ثنايا هذا البحث أن اعتبار المقصد الشرعي في عملية الاستنباط أمر مهم للغاية، بل هو من الضروري الذي لا ينبغي الاستغناء عنه، إذ الحكم الذي لا يلتفت إلى مقصده وغايته وعلته يظل جسما بلا روح، وهيكلا خاليا من جوهره وكنهه وحقيقته.

      غير أن التأكيد على هذا لا يعني المبالغة في استخدام المقاصد في الاجتهاد، ولا يفيد الإفراط بلا موجب، ولا الإقبال المتهور للعمل بالمصالح على حساب النصوص والضوابط والشروط الشرعية المقررة، وإنما يفيد كما هو معلوم التوسط والاعتدال، والأخذ بالعمل المقاصدي بمقداره وحدوده دون إفراط أو تفريط، ومن غير الوقوع في ما وقع فيه غلاة الظاهرية والحرفية الذين أهدروا الأقيسة والتعليل، وألغوا من دائرة الاجتهاد مصالح الخلق ومراعاة الأعراف والتطور واختلاف البيئات والأزمان والظروف، وما يتعلق بالوقائع والنصوص من حيثيات وقرائن وأمارات وملابسات، وغير ذلك مما يتوقف عليه الاجتهاد الشرعي الصحيح.

      وقد وردت على مسيرة الفكر الإسلامي وتاريخ الفقه والاجتهاد حالات من الشذوذ عن منهج التوسط المقاصدي والاعتدال المصلحي، ومظاهر من الإفراط في التعويل على المصالح والمبالغة في الاعتداد بها [ ص: 109 ] وبناء الأحكام عليها، إلى درجة الوثوق بها والاعتقاد فيها ولو أدى الأمر إلى مخالفة الوحي وتعطيل أحكامه وتوجيهاته، واعتباره تابعا ومحكوما وليس متبوعا وحاكما.

      وقد تمثلت تلك الحالات والمظاهر في عديد المناسبات والعينات، تراوحت بين الأقوال والأمثلة والاجتهادات التي بين فيها أصحابها المبالغة في التعويل على المصالح وتفضيلها على النصوص والأدلة، وبين التنظير والتأسيس والتقنين لذلك حتى يصبح بمثابة الأصل المقطوع به والمصدر الثابت المعتمد عليه.

      كما كانت تتراوح بين حسن القصد وسلامته وبين تبييت النية وسبق الإصرار بغرض التحامل والتعسف والتعطيل.

      حماس للمقاصد في غير محله

      هناك من تحمس للمصالح دون أن تكون له نية تعطيل النصوص أو ضرب قدسية الوحي أو تشريع الأحكام بمجرد الهوى والتشهي، وإنما فعل ذلك لمبررات رأى أنها مناسبة ومعقولة، كمن فعل ذلك ردا على غلاة الظاهرية المعطلين لمعقولية الشريعة ومرونتها وحيويتها وصلاحها، أو من فعل ذلك تأسيا بالسلف والخلف في النظر المصلحي، لكنه وقع في غير ما أراده السلف والخلف بإهمال بعض [ ص: 110 ] القيود والضوابط، أو بالوقوع في خطأ الفهم والاستنتاج، وفي خطأ المقابلة والإلحاق والإدراج، أو من فعل ذلك استجابة لواجب الاجتهاد الفقهي والنظر المقاصدي، لكنه وقع في الخطأ بسبب العجلة والتسرع، أو بسبب الرغبة في تحصيل هدف نبيل وشريف كالغيرة على الشريعة والذب عنها في مواطن احتاج فيها إلى إبراز معقوليتها وصلاحيتها [1] ، فيروح يؤكد على المصالح والمقاصد وعلى أن الشريعة واقعية وإنسانية ومسايرة للواقع والبيئات والظروف، وعلى أن المصلحة أينمـا وجدت فثمـة شرع الله، وغير ذلك مما قد يوصل إلى القول بتفضيل المصالح على الشرع .

      فهذا الذي تحمس للمصلحة لما رآه من مبررات ودواع، قد أدى به الأمر إلى الوقوع في الغلو المصلحي، إما بسبب النقل والرواية عنه، وإما بسبب توظيف منقولاته وآرائه، وهو في هذه الحالة ينبغي عليه التأكد والحذر والحيطة والتروي حتى لا يقع أو يوقع في المحظور بقصد أو بغير قصد، فسلامة النية وحدها غير كافية بل يجب معها النظر في المآلات والنتائج . [ ص: 111 ]

      وهناك من تحمس للمصالح، اعتقادا فيها، وتسليما بقدسيتها وحرمتها، وهيمنتها على نصوص الوحي وتعاليمه، فراح يقنع الناس بذلك مستدلا بكل واردة وشاردة وكل منقول ومعقول، جامعا في أسلوبه بين التعسف والتطويع والتحامل والتهميش والتشويش . [ ص: 112 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية