الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      المبحث الأول: القطعيات التي لا تقبل الاجتهاد المقاصدي

      العقيدة

      هي جملة القضايا والتصورات التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها على سبيل القطع واليقين والتسليم الكامل للخالق المعبود، ومثالها: الإيمان با تعالى وبجميع صفاته وأسمائه وأفعاله، والتصديق بجميع الرسل والأنبياء وكتبهم ورسالاتهم، والإقرار بوجود الحياة بعد الموت، وحصول الجزاء ثوابا وعقابا، والإقامة الدائمة والسعادة الأبدية بجوار الرحمان رب العالمين ... وغير ذلك من مسلمات العقيدة الإسلامية وأركانها المبسوطة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة .

      فهذه المسلمات قطعية وثابتة بمرور الأعصار وتقلب الأمصار، ولن يقوم أمر الإنسانية وأمنها وفلاحها في الدارين إلا إذا كانت تلك المسلمات والتصورات مركوزة في الأذهان، مشفوعة بالأعمال الصالحة، متبوعة بنظم وعلاقات متزنة ومتماسكة ومفيدة في شتى نواحي الحياة وأحوالها وتصاريفها، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والأسرة والتعليم وغيره.

      ومن هنا فإنه لا مسوغ لبروز بعض الاختلالات الاعتقادية على مسيرة الحياة الإنسانية تحت غطاء التطور، وسنة الحياة، وضغط الواقع، ومسايرة التحضر، وذلك على نحو ما يرد من حين لآخر في تصورات الناس ومعتقداتهم وأفكارهم، مثل ادعاء النبوة، والتثليث، واتخاذ [ ص: 93 ] الأصنام الحسية أو المعنوية، واتخاذ الأضرحة وتقديس ساكنيها، اعتقادا في نفعهم وضررهم وطول سلطانهم على الناس، ووضع التمائم في الصدور والأعناق، والمعلقات في البيـوت والجدران، اعتقادا في ما وضعت له تلك التمائم والمعلقات.

      إن كل ذلك وغيره باطل ومردود، وفساده بين وجلي، ومآله خسران صاحبه في العاجل والآجل واستحقاقه عذاب الله الأليم والخلود الأبدي في الجحيم .

      العبادات

      وهي جملة النيات والأقوال والأعمال التي تنظم علاقة المعبود بالعابد، على نحو الطهارة والتيمم والصلاة والصوم والحج والزكاة والذكر والتنفل والتهجد والاستغفار والاستسقاء والكفن والدفن، وما يتعلق بكل ذلك من شروط وآداب وكيفيات مبينة في مواطنها .

      وهذه العبادات لا يجوز تبديلها وتغييرها أو تعديلها وتنقيحها زيادة أو تنقيصا بدعوى الاستصلاح المرسل وزيادة الأجر [1] ، وتحسين الأداء، ومسايرة التطور، ورفع الحرج، ودفع المشقة، وتقرير التيسير .

      والأصل فيها التعبد كما أراد المعبود، والامتثال كما أمر الشارع، [ ص: 94 ] إذ لا يعبد الشارع إلا بما شرع [2] .

      وقد يطرأ على المسيرة الإنسانية ما يعطل هذا المبدأ العظيم تحت أنواع من العناوين والشعارات والتعبيرات، منها : مراعاة التطور وتحرير طاقة الإنسان، والتخلص من القيود والمكبلات والحواجز، وتقرير الاجتهاد والتعليل والتفكر، والعبرة بالمقصد والغاية وليس بالوسيلة والكيفية [3] وغير ذلك مما يروجه بعض من لم يفهموا أن التعبد الشرعي الصحيح قائم على الثبات والقطع واليقين والدوام، وأن مصالحه المعتبرة لن يكون لها وجود إلا بتلك الصفات، وأن أي تغيير أو تنقيح لها يبطل فوائدها، ويضيع مصالحها، ويوقع الناس في هرج الفوضى العبادية والاضطراب الديني، ويحرمهم من خيرات التعبد المنضبط والثابت.

      ومن أمثلة ما يطرأ من وقت لآخر : شواهد الابتداع والتزيد في العبادة، والدعوة إلى التحلل من بعض العبادات التي لم تعقل معانيها، أو التي لم تعد صالحة في هذا العصر، أو التي تلحق الضرر بالناس مثل ترك الإحرام في الطائرة، لأنه قد يؤدي إلى خلل في الطائرة بسبب الازدحام في دورات المياه، وترك شرب زمزم لأنه يورث الحجارة في [ ص: 95 ] الكلى، وتغيير مكان الحج وزمانه، وتعطيل الرؤية لثبوت الشهر والاكتفاء بالحساب، وترك الصلوات في الجماعة في الحرمين وفي غيرهما من المساجد لتجنب الازدحام وإذاية المسلمين - والضرر يزال؟؟؟ - وحرارة الطقس، وضربات الشمس، واحتمال العدوى، وادخار الطاقة لأركان الحج وواجباته التي هي أعظم من المستحبات والسنن كالجماعة والتنفل!

      المقدرات

      وهي جملة الأمـور التي بينها الشـارع بيانا محـددا ومضبوطا لا يقبل الاحتمال والتأويل، ومثالها مسائل الميراث والعدة والحدود والكفارات الموضوعة لمعالجة الأخطاء والجنايات.

      وهي متسمة بالثبات والقطعية والتقدير المحكم، الذي لا يتبدل بتبدل الزمان والمكان والحال، وبتغير المصلحة والعرف والعادة والظرف.

      وما قيل في المظاهر المقاصدية لهذه المقدرات ونواحيها المصلحية، إنما هو في فهم مصالحها المنوطة بها، وليس في تغييرها بحسب المصلحة وبما دعت إليه الضرورة، وكذلك ما قيل في أن السلف والمجتهدين يعطلون أحيانا أمرا مقدرا كما فعل عمر في إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وإسقاط الحد عام المجاعة، وقتل الجماعة بالواحد، وغير ذلك من الأمثلة التي قضى فيها عمر وغيره من أعلام الاجتهاد سلفا وخلفا، [ ص: 96 ] والتي ظن أو توهم أنها خضعت لعملية الاستصلاح والتعليل، وتغيرت أحكامها على وفق ذلك، إن كل تلك الأمثلة المقدرة لم تعطل بسبب النظر المصلحي، أو أن العقل توصل إلى تغيير ذلك، بل لم يقع تطبيقها لأنها بعد النظر والتحقيق تبين أن مناطاتها وشروطها لم تتوفر بعد، وأن مصالحها المعتبرة المنوطة بها ليس لها وجود لو طبقت على ذلك الوضع، فهي في الحقيقة معللة بالمصالح المشروعة المعتبرة وجودا وعدما، وليس بتوهم المصالح الخيالية كما يدعي أصحاب هذا الرأي [4]

      أصول المعاملات

      وهي مبادئ التعامل الكبرى وقواعد الأخلاق العامة، على نحو : قيم العدل والشورى والأمانة، والأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، والوفاء بالوعد والصلح، وأخذ الحكمة، وتبجيل الكبير، ومساعدة الصغير وذي الحاجة والفاقة، وتفريج الكرب والنوائب عن المعسرين والغارمين والمصابين، وإكرام الضيف، وغير ذلك من الفضائل المقررة في كل أمة وملة، والجارية على وفق العقول الراجحة والطباع السليمة، والتي لاينبغي أن تعطل أو تغيب عن واقع الناس مهما كانت الادعاءات والإغراءات، ولا يمكن استخدام الاجتهاد المقاصدي إلا في معظم تفاصيلها وكيفياتها كما سنبين ذلك قريبا . [ ص: 97 ]

      عموم القواطع

      وهي جملة ما يعد قطعيا في منظور الشرع، إما بالتنصيص عليه، أو الإجماع عليه، أو ما علم من الدين بالضرورة أو غير ذلك مما لا يقبل التغيير والتعديل بموجب النظر المصلحي والعمل الاجتهادي مهما علت درجات ذلك الاجتهاد والاستصلاح وبلغت ما بلغت من القطع والوضوح والظهور والمشروعية، ومن قبيل ذلك قطعية المتواتر والإجماع، وكيفيات بعض المعاملات وغير ذلك .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية