الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      الفصل الثالث : مجالات الاجتهاد المقاصدي

      مجالات الاجتهاد المقاصدي هي الميادين التي يمكن أن تستخدم فيها المقاصد، مراعاة لها، واستنادا إليها في بيان أحكامها الشرعية على وفق تلك المقاصد وعلى ضوئها ومقتضاها.

      ومعلوم أن أحكام الشريعة منها ما هو متغير قابل للاجتهاد فيه على وفق المقاصد والمصالح.

      ومنها ما هو ثابت بالنصوص والإجماع على مر الأزمان، لا يتغير ولا يعدل بموجب المصالح الإنسانية المتغيرة والمتطورة، وهو مما ثبتت وتأكدت مصالحه المعتبرة بإجرائه على دوامه واستقراره وثباته، ومن قبيل ذلك نجد العبادات والمقدرات والكفارات وأصول الفضائل والقيم والمعاملات وغيرها.

      ومعنى أن الاجتـهاد المقاصدي لا يشمـلها ولا ينطـبق عليها، لا يفيد عدم قابليتها للمعقولية والتعلـيلية، وكونها من الأمور التي لا تفهم مصالحها ومقاصدها وغير ذلك، وإنما يعني ذلك أنه لا يجوز تغييرها في وقت من الأوقات تحت موجب المصلحة أو مقتضى مقصد معين حتم ذلك التغيير. [ ص: 89 ]

      بل كل مجالات الشريعة يمكن فهم مصالحها وحكمها ومشروعيتها، بناء على قاعدة كون الشريعة قد انطوت على ما فيه مصالح الناس في العاجل والآجل، وأنها جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الرذائل إلى الفضائل، ومن فساد الأوضاع إلى صلاح الأحكام.

      فالمجال الذي لا يقبل إعمال النظر المقاصدي بغرض تغييره أو تعديله، لا يعني كونه مبهما وغير واضح في مشروعيته وحكمته، بل إنه معلل إما على الجملة وإما على التفصيل، وأن ذلك التعليل تتفاوت أحجامه وأقداره بحسب الحال والمقام، فالأمر التعبدي في الحج يلاحظ فيه التعليل والتقصيد أكثر من الأمر التعبدي في التيمم، فالحج مصالحه بارزة وظاهرة على الجملة، والتيمم عبادة رمزية اعتبارية ترابية تقتصر علته جملة على أداء الامتثال والخضوع واستباحة الصلاة وتنزيه المعبود، وفي الحج نفسه تتفاوت درجات المعقولية والتعليل بين أعماله ومناسكه كما هو الحال في الهدي والحلق، إذ الأول قد لوحظ فيه التعليل بالتوسعة على الفقراء والتعويد على البذل والعطاء في زمن الشدة والحاجة، وشكر الله على ما أمد به ضيوفه من معاني الوحدة والتضامن، ومن خصال نعمة الصحة والسلامة وأداء الفريضة على خير حال.

      أما الحلق ولئن لوحظت فيه بعض التعليلات على نحو اقتفاء أثر [ ص: 90 ] الأولين وتأكيد مظاهر الوحدة، وتحقيق الامتثال الأكمل وغيره ... فإنه غير واصل إلى شعيرة الهدي وغيرها من حيث المعقولية وبيان الحكمة والمقصد، وتجلية الأسرار والمشروعية . وهكذا الحال في سائر التكاليف والأوامر التي أراد الله عز ثناؤه أن ينيطها بما شاء من الحكم والأسرار والغايات، وأن يتفضل على عباده ببيان بعض تلك المناطات، وأن يستأثر ببعضها حكمة منه وتقديرا، والأمر من قبل ومن بعد.

      فما هي إذن المجالات التي لا يمكن أن نستخدم فيها الاجتهاد المقاصدي والنظر المصلحي، أي المجالات التي لا تتحدد أحكامها بموجب المصالح التي يراها الخلق، وليس المصالح التي تتضمنها تلك الحالات ابتداء من عند الشارع نفسه، والتي ينبغي على المجتهدين فهمها واستيعابها لمعرفة تلك المجالات وتتبع أحكامها؟

      إذ المجالات القطعية لا تخلو من مصالحها المبثوثة فيها والتي يتعين فهمها واستيعابها .. وفهم تلك المصالح قد يطلق عليه معنى النظر المصلحي أو التفسير المصلحي، وهذا جائز مشروع .. أما الذي لا يجوز فهو تغيير تلك المجالات أو بعضها تحت غطاء المصلحة المتوصل إليها وتحت عنوان التفسير المصلحي والنظر المقاصدي . فالنظر المصلحي سلاح ذو حدين، فإذا قصد به فهم الحكم القطعي وفهم مقصده معه فهذا معلوم الجواز والتعين واللزوم، أما إذا قصد به [ ص: 91 ] تقديم المصالح على القواطع والثوابت فهو معلوم الترك والبطلان والفساد، ولا مشاحة في الاصطلاح.

      الثوابت والمتغيرات في الشريعة

      إن علماء الشريعة ومجتهديها توصلوا باستقراء الأدلة والأحكام والقرائن والأمارات الشرعية إلى تقرير صفتين اثنتين للشريعة وأحكامها وتعاليمها، صفة الثبات والقطع، وصفة التغير والظن [1] وأطلقوا صفة الثبات والقطع على طائفة من الأحكام التي اعتبروها من المسلمات والمقررات الدائمة والثابتة على مر الأيام والعصور وفي كل ملة وأمة، والتي لا يمكن البتة تعديلها وتنقيحها بموجب المصلحة الإنسانيـة مهما ادعي كون تلك المصـلحة بلغت ما بلغت من درجات اليقين والقطع والظهور والأهمية والحاجة.

      كما أطلقوا صفة التغير والظن والاحتمال على غير تلك الأحكام التي اتسمت بمراعاة البيئات والظروف ومسايرة أعراف الناس وعاداتهم وحاجياتهم .

      فما هي إذن القطعيات المقررة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تغييرها أو تنقيحها بموجب النظر المقاصدي والمصلحي؟ [ ص: 92 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية