الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وجه ) قولهما : أن التوكيل بقبض الدين توكيل باستيفاء عين الحق ، فلا يتعدى إلى الخصومة كالتوكيل بقبض العين ، ولأبي حنيفة أن التوكيل بقبض الدين توكيل بالمبادلة ، والحقوق في مبادلة المال بالمال تتعلق بالعاقد كما في البيع والإجارة ، ودلالة ذلك أن استيفاء عين الدين لا يتصور ; لأن الدين إما أن يكون عبارة عن الفعل وهو فعل تسليم المال ، وإما أن يكون عبارة عن مال حكمي في الذمة .

                                                                                                                                وكل ذلك لا يتصور استيفاؤه ، ولكن استيفاء الدين عبارة عن نوع مبادلة ، وهو مبادلة المأخوذ العين بما في ذمة الغريم وتمليكه بهذا القدر المأخوذ من المال فأشبه البيع والخصومة في حقوق مبادلة المال بالمال فيملكه الوكيل ، بخلاف الوكيل بقبض الثمن ; لأن ذلك توكيل باستيفاء عين الحق لا بالمبادلة ; لأن عينه مقدور الاستيفاء فلا يملك الخصومة فيها إلا بأمر جديد فهو الفرق بين الفصلين فإذا لم يملك الخصومة لا تسمع بينة المدعى عليه على الشراء من الموكل بالقبض ; لأنها بينة قامت لا على خصم ، ولكنها تسمع في دفع قبض الوكيل ، ويجوز أن تكون البينة مسموعة من وجه دون وجه كمن وكل إنسانا بنقل زوجته إلى حيث هو فطالبها الوكيل بالانتقال ، فأقامت البينة على أن زوجها طلقها ثلاثا ، تسمع هذه البينة في اندفاع حق الوكيل في النقل ولا تسمع في إثبات الحرمة .

                                                                                                                                كذا هذا وكذلك الوكيل بأخذ الدار بالشفعة وكيل بالمبادلة ; لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وكذا الرد بالعيب ، والقسمة فيها معنى المبادلة ، فكانت الخصومة فيها من حقوقها فيملكها الوكيل كالوكيل بالبيع ، والوكيل بالقبض إذا أراد أن يوكل غيره هذا على وجهين : ( إما ) أن كانت الوكالة عامة بأن قال له وقت التوكيل بالقبض : اصنع ما شئت أو ما صنعت من شيء فهو جائز علي أو نحو ذلك : ( وإما ) أن كانت خاصة بأن لم يقل ذلك عند التوكيل بالقبض ; فإن كانت عامة يملك أن يوكل غيره بالقبض لأن الأصل فيما يخرج مخرج العموم ، إجراؤه على عمومه ، وإن كانت خاصة فليس له أن يوكل غيره بالقبض ; لأن الوكيل يتصرف بتفويض الموكل فيملك قدر ما فوض إليه فإن فعل ذلك وقبض الوكيل الثاني لم يبرأ الغريم من الدين ; لأن توكيله بالقبض إذا لم يصح فقبضه وقبض الأجنبي سواء فإن وصل إلى يد الوكيل الأول برئ الغريم ; لأنه وصل إلى يد من هو نائب الموكل في القبض .

                                                                                                                                وإن هلك في يده قبل أن يصل إلى الوكيل الأول ضمن القابض للغريم ; لأن قبضه بجهة استيفاء الدين ، والقبض بجهة استيفاء الدين قبض بجهة المبادلة على ما مر ، والمقبوض بجهة المبادلة مضمون على القابض كالمقبوض على سوم الشراء وكان له أن يرجع بما ضمن على الوكيل الأول ; لأنه صار مغرورا من جهته بتوكيله بالقبض فيرجع عليه إذ كل غار ضامن للمغرور بما لحقه من العهدة فيرجع عليه بضمان الكفالة .

                                                                                                                                ولا يبرأ الغريم من الدين لما قلنا إن توكيله بالقبض لم يصح فكان للطالب أن يأخذ الغريم بدينه وإذا أخذ منه رجع الغريم على الوكيل الثاني لما قلنا ، ويرجع الوكيل الثاني على الأول بحكم الغرور لما قلنا إن الوكيل بقبض الدين للموكل على إنسان معين أو في بلد [ ص: 26 ] معين لا يملك أن يتعدى إلى غيره ; لأن المتصرف بحكم الآمر لا يملك التعدي عن موضع الأمر وليس للوكيل بقبض الدين أن يأخذ عوضا عن الدين ; وهو أن يأخذ عينا مكانه ; لأن هذه معاوضة مقصودة ، وأنها لا تدخل تحت التوكيل بقبض الدين وهذا لما بينا أن قبض الدين حقيقة لا يتصور لما ذكرنا فلا يتصور التوكيل بقبضه حقيقة إلا أن التوكيل بقبض الدين جعل توكيلا بالمعاوضة ضرورة تصحيح التصرف ودفع الحاجة المعلقة بالتوكيل بقبض الدين .

                                                                                                                                وحق الضرورة يصير مقضيا بثبوتها ضمنا للعقد فبقيت المعاوضة المقصودة خارجة عن العقد أصلا فلا يملكها الوكيل .

                                                                                                                                ولو كان لرجل على رجل دين فجاء إنسان إلى الغريم وقال : إن الطالب أمرني أن أقبضه منك ، فإن صدقه الغريم وأراد أن يدفع إليه لا يمنع منه ، وإن أبى أن يدفع إليه يجبر على الدفع في الدين وفي العين لا يجبر عليه والفرق : أن التصديق في الدين إقرار على نفسه ، فكان مجبورا على التسليم ، وفي العين إقرار على غيره فلا يصح إلا بتصديق ذلك الغير ، وإن لم يصدقه لم يجبر على الدفع فإن دفعه إليه ثم جاء الطالب فإن صدقه مضى الأمر ، وإن كذبه وأنكر أن يكون وكله بذلك فهذا على وجوه ثلاثة : إما أن صدقه ودفعه إليه ، وإما أن كذبه ومع ذلك دفع إليه .

                                                                                                                                وأما إن لم يصدقه ولم يكذبه ودفع إليه ، فإن صدقه في الوكالة ولم يضمنه فجاء الطالب ، يقال له : ادفع الدين إلى الطالب ، ولا حق لك على الوكيل ; لأنه لما صدقه في الوكالة فقد أقر بوكالته ، وإقراره صحيح في حق نفسه ، فكأنه يقول : إن الوكيل كان محقا في القبض ، وإن الطالب ظالم فيما يقبض مني ، وإن ظلم على مبطل فلا أظلم على محق ، وإن صدقه وضمنه ما دفع إليه ثم حضر الطالب فأخذ منه يرجع هو على القابض ; لأن الغريم وإن أقر أن القابض محق في القبض بتصديقه إياه في الوكالة فعنده أن الطالب مبطل فيه ظالم فيما يقبض منه ; فإذا ضمنه فقد أضاف الضمان إلى ما يقبضه الطالب عنه بغير حق ، وإضافة الضمان إلى المقبوض المضمون صحيح كما إذا قال ما غصبك فلان فعلي ، وإن كذبه في الوكالة ومع ذلك دفع إليه له أن يضمن الوكيل ; لأن عنده أنه مبطل في القبض وإنما دفعه إليه على رجاء أن يجوزه الطالب وكذا إذا لم يصدق ولم يكذب ; لأنه لم يوجد منه الإقرار بكونه محقا في القبض فيملك الرجوع عليه ، الوكيل بقبض الدين إذا قبضه فوجده معيبا فما كان للموكل رده فله رده وأخذ بدله ; لأنه قائم مقام الموكل فهو يملك قبض حقه أصلا ووصفا فكذا الوكيل ولو وكل رجلا بقبض دين له على رجل وغاب الطالب فادعى الغريم أنه قد أوفاه الطالب لا يحتاج الوكيل إلى إقامة البينة ، ولا إلى إحضار الطالب ليحلفه ، لكن يقال للغريم : ادفع الدين إلى الوكيل ، ثم اتبع الطالب وحلفه إن أردت يمينه فإن حلف وإلا رجعت عليه ; لأنه مقر بالدين ، والدين مقضي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم بسقوطه بدعوى الإيفاء مع الاحتمال ، بل يجبر على التسليم إلى الوكيل ، وكذلك الوكيل بطلب الشفعة إذا ادعى المشتري أن الشفيع قد سلم للشفعة يؤمر بتسليم الدار إلى الوكيل ، ثم يقال له : اتبع الشفيع وحلفه إن أردت يمينه ; لأن المشتري مقر بثبوت حق الشفعة ; لأن تسليم الشفعة بعد ثبوتها يكون فلا يبطل الحق الثابت بدعوى التسليم مع الاحتمال فيؤمر بتسليم المشترى إلى الوكيل ، وهذا بخلاف الوكيل بالرد بالعيب إذا ادعى البائع أن المشتري قد رضي بالعيب أنه لا يكون للوكيل حق الرد حتى يحضر الموكل فيحلف بالله تعالى ما رضي بهذا العيب ; لأن البائع بقوله رضي المشتري بالعيب ، لم يقر بثبوت حق الرد بالعيب ، إذ ليس كل عيب موجبا للرد ، ألا ترى أنه لو اشتراه وهو عالم بعيبه ليس له حق الرد مع وجود العيب ، فيتوقف على حضور الموكل ويمينه ، فإن أراد الغريم أن يحلف الوكيل بالله - عز وجل - ما يعلم أن الطالب قد استوفى الدين لم يكن له أن يحلفه عند أبي حنيفة : وأبي يوسف .

                                                                                                                                وقال زفر : يحلفه على علمه ، فإن أبى أن يحلف خرج عن الوكالة ولم يبرأ الغريم وكان الطالب على حجته .

                                                                                                                                ( وجه ) قول زفر أن هذا أمر لو أقر به الوكيل للزمه ، وسقط حقه من القبض ، فإذا أنكر يستحلف لجواز أنه ينكل عن اليمين ، فيسقط حقه .

                                                                                                                                ( ولنا ) قول النبي : عليه الصلاة والسلام { واليمين على المدعى عليه } والغريم ما ادعى على الوكيل شيئا وإنما ادعى على الموكل ، فكانت اليمين عليه ، واليمين مما لا تجري فيه النيابة ، فلا يثبت للغريم ولاية استحلاف الوكيل .

                                                                                                                                وهذا بخلاف ما إذا مات الطالب ، فادعى الغريم أنه قد كان استوفاه حال حياته ، وأنكر الوارث : أن له أن يستحلف الوارث على علمه [ ص: 27 ] بالله - تعالى - ما يعلم أن الطالب استوفى الدين ; لأن هناك الوارث مدعى عليه ; لأن الغريم يدعي عليه بطلان حقه في الاستيفاء الذي هو حقه ، فلم يكن استحلافه بطريق النيابة عن المورث إلا أنه يستحلف على علمه ; لأنه يستحلف على فعل غيره .

                                                                                                                                وكل من يستحلف على فعل باشره غيره يستحلف على العلم لا البت ; لأنه لا علم له به أنه فعل ذلك أو لم يفعل .

                                                                                                                                فإن أقام الغريم البينة على الإيفاء سمعت بينته عند أبي حنيفة .

                                                                                                                                وعندهما لا تسمع وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة : بناء على أن الوكيل بقبض الدين هل يكون وكيلا بالخصومة فيه ؟ عنده يكون وعندهما لا يكون لما تقدم ، وكذلك على هذا الاختلاف إذا أقام الغريم البينة أنه أعطى الطالب بالدراهم الدنانير أو باعه بها عرضا فبينته مسموعة عنده ، وعندهما غير مسموعة ; لأن إيفاء الدين بطريقي المبادلة والمقاصة ، ويستوي فيهما الجنس وخلاف الجنس فكان الخلاف في الكل ثابتا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية