الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 253 ] فصل : وتقتل الجماعة بالواحد ، وعنه : لا يقتلون . والمذهب الأول . وإن جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية ، وإن قطع أحدهما من الكوع ، ثم قطعه الآخر من المرفق فهما قاتلان . وإن فعل أحدهما فعلا لا تبقى الحياة معه كقطع حشوته أو مريئه أو ودجيه ، ثم ضرب عنقه آخر ، فالقاتل هو الأول ويعزر الثاني ، وإن شق الأول بطنه ، أو قطع يده ، ثم ضرب الثاني عنقه ، فالقاتل هو الثاني وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدية . وإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقاتل هو الثاني ، وإن رماه في لجة فتلقاه حوت فابتلعه ، فالقود على الرامي في أحد الوجهين ، وإن أكره إنسانا على القتل فقتل فالقصاص عليهما ، وإن أمر من لا يميز أو مجنونا أو عبده الذي لا يعلم أن القتل محرم فقتل ، فالقصاص على الآمر ، وإن أمر كبيرا عاقلا بتحريم القتل فقتل فالقصاص على القاتل . وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك ، فالقصاص على القاتل ، وإن لم يعلم فعلى الآمر . وإن أمسك إنسانا لآخر ليقتله فقتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين والأخرى يقتل أيضا ، وإن كتف إنسانا وطرحه في أرض مسبعة ، أو ذات حيات فقتلته فحكمه حكم الممسك .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( وتقتل الجماعة بالواحد ) على الأشهر لما روى ابن عمر أن غلاما قتل غيلة فقال عمر : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم . رواه البخاري ، وهذا إذا كان فعل كل واحد منهم صالحا للقتل به ، وإلا فلا ما لم يتواطئوا على ذلك ( وعنه : لا يقتلون ) نقلها حنبل ، روي ذلك عن ابن عباس ، وابن الزبير لقوله تعالى : النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] يدل على أنه لا يوجد أكثر من نفس واحدة بنفس واحدة ، ولأن كل واحد من الجماعة مكافئ للمقتول ، فلا يؤخذ أبدال بمبدل واحد كما لا تؤخذ ديات بمقتول واحد ، ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد ، فالتفاوت في العدد أولى وعليها تلزمهم دية واحدة ، قال ابن المنذر : لا حجة مع من أوجب قتل الجماعة بواحد ، وعلى الأولى تلزمهم دية واحدة . نص عليه ، وهو أشهر كخطأ ، ونقل ابن ماهان تلزمهم ديات كما لو انفرد كل واحد منهم ، ونقل ابن منصور ، والفضل : إن قتله ثلاثة فله قتل أحدهم ، والعفو عن آخر وأخذ الدية كاملة من أحدهم ( والمذهب الأول ) لقوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] ; لأنه إذا علم أنه متى قتل قتل به انكف عنه ، فلو لم يشرع القصاص في الجماعة بالواحد لبطلت الحكمة قي مشروعية القصاص ، ولإجماع الصحابة ، فروى سعيد عن هشيم ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أن عمر قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا ، وعن علي ، وابن عباس معناه ، ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا ، فكان كالإجماع ، ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد ، [ ص: 254 ] فوجبت على الجماعة كحد القذف ، والفرق بين قتل الجماعة والدية أن الدم لا يتبعض ، بخلاف الدية ، وهذا إذا قلنا : إن موجب العمد أحد شيئين القصاص أو الدية ، فمتى عفا عن القود تعينت الدية ، وإن قلنا : موجبه القود فقط فللأولياء أن يعفوا عن القليل والكثير من غير تقدير



                                                                                                                          ( وإن جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة ) جرح ، أو أوضحه أحدهما ، أو شجه الآخر آمة ، أو أحدهما جائفة ، والآخر غير جائفة ( فهما سواء في القصاص والدية ) لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه ، ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم ; لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ، ولا يكتفى باحتمال الوجود ، بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم ، ولأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت به دون المائة .



                                                                                                                          فرع : إذا اشترك ثلاثة فقطع أحدهم يده ، والآخر رجله ، والثالث أوضحه فمات فللولي قتل جميعهم ، والعفو عنهم إلى الدية ويأخذ من كل واحد ثلثها ، وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ، ويقتل الآخرين ، وأن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ، ويقتل الثالث .



                                                                                                                          ( وإن قطع أحدهما من الكوع ، ثم قطعه الآخر من المرفق فهما قاتلان ) أي : فهما سواء في القصاص ، أو الدية إذا قطع الثاني قبل بروء جراحة الأول على المذهب ; لأنهما قطعان ، فإذا مات بعدهما وجب عليهما القصاص كما لو كانا في يدين ، وقيل : القاتل هو الثاني فيقاد الأول ; لأن قطع الثاني قطع [ ص: 255 ] سراية ، قطعه ومات بعد زوال جنايته ، وعلى الأول إن سقط القود بعفو - غرما ديته نصفين ، وإن اندمل الجرحان ، فعلى من قطع من الكوع القود ، وعلى الآخر حكومة ، وعنه : ثلث دية اليد ، ولو قتلوه بأفعال لا يصلح واحد لقتله نحو أن يضربه كل منهم سوطا في حاله أو متواليا ، فلا قود ، وفيه عن تواطئ وجهان ، قاله في " الترغيب "



                                                                                                                          ( وإن فعل أحدهما فعلا لا تبقى الحياة معه كقطع حشوته ) بضم الحاء وكسرها : أمعاؤه ( أو مريئه ) بالهمز ، وهو مجرى الطعام والشراب في الحلق ( أو ودجيه ) بفتح الواو وكسرها ، والودجان هما عرقان في العنق ( ثم ضرب عنقه آخر ، فالقاتل هو الأول ) لأن الحياة لا تبقى مع جنايته ( ويعزر الثاني ) كما لو جنى على ميت ، فلهذا لا يضمنه ودل على أن هذا التصرف فيه كميت لو كان عبدا ، فلا يصح بيعه ، كذا جعلوا الضابط : من يعيش مثله ، ومن لا يعيش ، وكذا علل الخرقي المسألتين مع أنه قال في الذي لا يعيش : خرق بطنه وأخرج حشوته فقطعها فأبانها منه ، وهذا يقتضي أنه لو لم يبنها لم يكن حكمه كذلك مع أنه بقطعها لا يعيش ، فاعتبر كونه لا يعيش في موضع خاص ، فتعميم الأصحاب فيه نظر



                                                                                                                          ( وإن شق الأول بطنه ، أو قطع يده ، ثم ضرب الثاني عنقه ، فالقاتل هو الثاني ) لأنه هو المفوت للنفس جزءا ، فعلى هذا عليه القصاص في النفس ، والدية إن عفا عنه ; لأنه لم يخرج بجرح الأول من حكم الحياة ( وعلى الأول ضمان ما أتلف ) لأنه حصل بجنايته ( بالقصاص أو الدية ) لأن الحياة تارة تكون موجبة للقصاص كقطع اليد عمدا ، وتارة لا تكون كذلك كقطعها خطأ ، لكن جرح الأول إن كان موجبا [ ص: 256 ] للقصاص خير بين قطع طرفه والعفو عن ديته والعفو مطلقا ، وإن كان لا يوجب قودا كالجائفة فعليه الأرش ، وإنما جعلنا عليه القصاص ; لأن الثاني بفعله قطع سراية الأول ، وإن كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة ، فالقاتل هو الثاني ; لأن عمر لما جرح وسقي لبنا فخرج من جوفه ، فعلم أنه ميت وعهد إلى الناس وجعل الخلافة في أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وعملوا به



                                                                                                                          ( وإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقاتل هو الثاني ) لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حال ييأس فيها من حياته أشبه ما لو رماه بسهم فبادره آخر فقطع عنقه قبل وصول السهم إليه ، ولأن الرمي سبب ، والقتل مباشرة ( وإن رماه في لجة فتلقاه حوت فابتلعه ، فالقود على الرامي في أحد الوجهين ) جزم به في " الوجيز " وقدمه في " الفروع " وهو المذهب ; لأنه تسبب إلى قتله ، ولم توجد مباشرة فصلح إسناد القتل إليه فوجب أن يعمل السبب عمله وبه فارق بما تقدم ، والثاني : لا قود عليه ; لأنه متسبب ، والإتلاف حصل بالمباشرة ، وهو يوجب قطع التسبب وكما لو منعه موج أو غيره ، أو كان الماء غير مغرق ، والأول أصح ; لأن قطع التسبب لا يكون إلا بشرط صلاحية إسناد التلف إلى المباشرة ، وهو مفقود هنا ، وعلى هذا لا فرق بين أن يلتقمه قبل أن يمس الماء أو بعده قبل الغرق أو بعده ، وقيل : إن التقمه بعد حصوله فيه قبل غرقه ، وقيل : شبه عمد ومع قلة ، فإن علم بالحوت فالقود وإلا دية



                                                                                                                          ( وإن أكره إنسانا ) مكلفا ( على القتل ) أي : على قتل مكافئه ( فقتل [ ص: 257 ] فالقصاص ) أو الدية ، قاله في " المحرر " و " الوجيز " ( عليهما ) لأن المكره تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبا ، أشبه ما لو أنهشه حية ، والمكره قتله ظلما لاستبقاء نفسه كما لو قتله في المجاعة ليأكله ، فعلى هذا إن صار الأمر إلى الدية فهي عليهما كالشريكين ، وفي " الموجز " إذا قلنا : تقتل الجماعة بالواحد وخصه بعضهم بمكره ويتوجه عكسه ، لا يقال : المكره ملجأ لأنه غير صحيح ; لأنه متمكن من الامتناع ، ولهذا يأثم بالقتل ، وقوله - عليه السلام - عفي لأمتي عما استكرهوا عليه محمول على غير القتل



                                                                                                                          ( وإن أمر من لا يميز أو مجنونا ) أو أعجميا ، لا يعلم خطر القتل ، وفي " الرعاية " و " الفروع " : أو كبيرا يجهل تحريمه ( أو عبده الذي لا يعلم أن القتل محرم ) كمن نشأ في غير بلاد الإسلام ( فقتل ، فالقصاص على الآمر ) لأن القاتل هنا كالآلة ، أشبه ما لو أنهشه حية ، ونقل مهنا : إذا أمر صبيا أن يضرب رجلا فضربه فقتله ، فعلى الآمر ، ولا شيء عليه بدفع سكين إليه ولم يأمره ، وفي " الانتصار " إن أمر صبيا وجب على آمره وشريكه في رواية ، وإن سلم لا يلزمهما فلعجزه غالبا ، وظاهره أنه إذا أقام في بلاد الإسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ، ولا يعذر فيه إذا كان عالما ، وحينئذ يقتل العبد ويؤدب سيده الآمر . نص عليه ، وعنه : يقتل الآمر ويحبس العبد حتى يموت كممسكه ، وعلى أنه إذا أمره بزنا أو سرقة فعلى المباشر



                                                                                                                          ( وإن أمر كبيرا عاقلا بتحريم القتل فقتل ، فالقصاص على القاتل ) بغير خلاف نعلمه ; لأنه مقتول ظلما فوجب عليه القصاص كما لو لم يؤمر ، وقال ابن المنجا : [ ص: 258 ] المراد بالكبير هنا من يميز ، وليس بكبير فلا قود عليه ، ولا على الآمر ; لأنه غير مكلف ، ولأن تمييزه يمنع كونه كالآلة ، وليس بظاهر .



                                                                                                                          فرع : إذا قال لغيره : اقتلني ، أو اجرحني . ففعل غير مكره وهما مكلفان فهدر . نص عليه ، وعنه : تلزم الدية ، وعنه : عليه دية نفسه إرثا ، ويحتمل القود ، ولو قال ذلك عبد لمن يقتل به فقتله ضمنه لسيده بمال فقط . نص عليه ، ولو قال : اقتلني وإلا قتلتك فخلاف كإذنه ، وفي " الانتصار " : لا إثم ولا كفارة ، وفي " الرعاية " اقتل نفسك وإلا قتلتك إكراه كاحتمال في : اقتل زيدا أو عمرا



                                                                                                                          ( وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك ، فالقصاص على القاتل ) لأنه غير معذور في فعله لقوله عليه السلام لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولأن غير السلطان لو أمره بذلك كان القصاص على المباشر ، علم أو لم يعلم ، ويحتمل إن خاف السلطان ، قتل كما لو أكرهه ( وإن لم يعلم ، فعلى الآمر ) لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية ، والظاهر من حاله أنه لا يأمر إلا بالحق .



                                                                                                                          فرع : إذا أكرهه السلطان على قتل أحد بغير حق ، فالقود ، أو الدية عليهما ، فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور كمسلم قتل ذميا ، فقال القاضي : الضمان عليه دون الإمام ; لأنه قتل من لا يحل له قتله ، قال في " المغني " : ينبغي أن يفرق بين المجتهد ، والمقلد ، فإن كان مجتهدا فهو كقول القاضي ، وإن كان مقلدا ، فلا ضمان عليه ; لأن له تقليد الإمام فيما رآه ، وإن كان الإمام يعتقد تحريمه ، والمأمور يعتقد حله ، فالضمان على الآمر كما لو أمر السيد عبده الذي [ ص: 259 ] لا يعتقد تحريم القتل به



                                                                                                                          ( وإن أمسك إنسانا لآخر ليقتله فقتله ، قتل القاتل ) بغير خلاف نعلمه ; لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق ( وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين ) نصره في " الشرح " ، وقدمه في " الفروع " ، وجزم به في " الوجيز " لما روى ابن عمر مرفوعا ، قال : إذا أمسك الرجل وقتله الآخر ، قتل القاتل ، ويحبس الذي أمسك . رواه الدارقطني ، وروى الشافعي نحوه من قضاء علي رضي الله عنه ، ولأنه حبسه إلى الموت ، فيحبس الآخر عن الطعام ، والشراب حتى يموت ( والأخرى يقتل أيضا ) اختارها أبو محمد الجوزي ، وقدمها في " الرعاية " وادعاه سليمان بن موسى إجماعا ; لأن قتله حصل بفعلهما كما لو جرحاه ، لكن إن لم يعلم الممسك أنه يقتله ، إنه لا شيء عليه ، وكذا الخلاف لو فتح واحد فمه وسقاه آخر سما قاتلا فمات ، وجزم في " الوجيز " بقتله ، ومثله لو أمسكه ليقطع طرفه ، ذكره في " الانتصار " ، أو تبع رجلا ليقتله فهرب فأدركه آخر فقطع رجله ، ثم أدركه الثاني فقتله ، فإن كان الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني فعليه القود في القطع ، وحكمه في النفس حكم الممسك ، فإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم



                                                                                                                          ( وإن كتف إنسانا وطرحه في أرض مسبعة ، أو ذات حيات فقتلته فحكمه حكم الممسك ) ذكره القاضي ، قال المؤلف : والصحيح أنه لا قصاص فيه ; لأنه لا يقتل غالبا وتجب فيه الدية ; لأنه فعل به فعلا متعمدا ، لا يقتل غالبا ، فهو شبه عمد .

                                                                                                                          فرع : إذا أمسك زيد عبدا فقتله آخر ضمنه زيد ورجع على عاقلته [ ص: 260 ] وله تضمين أيهما شاء ، وإن أمسكه لغير قتله لم يضمنه الممسك بحال ، قاله في " الرعاية " ومن تعرض لقتل زيد ، ولم يدفعه عن نفسه وسكت ، فقتله ، ضمنه إن قلنا : الدية إرث ، وإن قلنا : له ، فوجهان .




                                                                                                                          الخدمات العلمية