الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( ثم يفتتح القراءة ويخفي ببسم الله الرحمن الرحيم ) فقد أدخل التسمية في القراءة بهذا اللفظ وهذا إشارة إلى أنها من القرآن وكان مالك رحمه الله تعالى يقول لا يأتي المصلي بالتسمية لا سرا ولا جهرا لحديث عائشة رضي الله عنها : { أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين } ، ولنا حديث أنس قال { صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر فكانوا يفتتحون القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم } وتأويل حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان يخفي التسمية وهو مذهبنا وهو قول علي وابن مسعود وقال الشافعي رحمه الله يجهر بها الإمام في صلاة الجهر وهو قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وعن عمر فيه روايتان واحتج بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالتسمية } ، ولما صلى معاوية بالمدينة ولم يجهر بالتسمية أنكروا عليه وقالوا أسرقت من الصلاة ؟ أين التسمية ؟ فدل أن الجهر بها كان معروفا عندهم ولنا حديث عبد الله بن المغفل رضي الله تعالى عنه أنه سمع ابنه يجهر بالتسمية في الصلاة فنهاه عن ذلك فقال يا بني إياك والحدث في الإسلام { ، فإني صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكانوا لا يجهرون بالتسمية } وهكذا روي عن أنس رضي الله تعالى عنه .

والمسألة في الحقيقة تنبني على أن التسمية ليست بآية من أول الفاتحة ولا من أوائل السور عندنا وهو قول الحسن رحمه الله ، فإنه كان يعد { إياك نعبد وإياك نستعين } آية ، وقال الشافعي رحمه الله التسمية آية من أول الفاتحة قولا واحدا وله في أوائل السور قولان وكان ابن المبارك يقول : التسمية آية من أول كل سورة حتى قال : من ختم القرآن وترك التسمية فكأنما ترك مائة وثلاث عشرة آية أو مائة وأربع عشرة آية . والشافعي رحمه الله ربما احتج بحديث أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم : { قرأ الفاتحة فقال بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية ، ثم قال : { الحمد لله رب العالمين } وعدها آية } ، ولأنها مكتوبة في المصاحف بقلم الوحي لمبدأ الفاتحة وكل سورة ، وقد أمرنا بتجريد القرآن في المصاحف من النقط والتعاشير ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات ولا تكون سبع آيات إلا بالتسمية وقول من يقول : { إياك نعبد } آية { وإياك نستعين } آية ضعيف تشهد المقاطع بخلافه .

ولنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : { قال : يقول الله - تعالى - : قسمت الصلاة بيني [ ص: 16 ] وبين عبدي نصفين فإذا قال : { الحمد لله رب العالمين } يقول الله - تعالى - حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله - تعالى - مجدني عبدي ، وإذا قال : { مالك يوم الدين } قال الله - تعالى - أثنى علي عبدي ، وإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله - تعالى - هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل } ، فالبداءة بقوله الحمد لله رب العالمين دليل على أن التسمية ليست بآية من أول الفاتحة إذ لو كانت آية من أول الفاتحة لم تتحقق المناصفة ، فإنه يكون في النصف الأول أربع آيات إلا نصفا ، وقد نص على المناصفة والسلف اتفقوا على أن سورة الكوثر ثلاث آيات وهي ثلاث آيات بدون التسمية ولأن أدنى درجات اختلاف الأخبار والعلماء إيراث الشبهة والقرآن لا يثبت مع الشبهة ، فإن طريقه طريق اليقين والإحاطة .

( وعن ) معلى قال قلت لمحمد التسمية آية من القرآن أم لا ؟ قال : ما بين الدفتين كله قرآن . قلت : فلم لم تجهر ؟ فلم يجبني . فهذا عن محمد بيان أنها آية أنزلت للفصل بين السور لا من أوائل السور ولهذا كتبت بخط على حدة وهو اختيار أبي بكر الرازي رحمه الله حتى قال محمد رحمه الله يكره للحائض والجنب قراءة التسمية على وجه قراءة القرآن ; لأن من ضرورة كونها قرآنا حرمة قراءتها على الحائض والجنب وليس من ضرورة كونها قرآنا الجهر بها كالفاتحة في الآخرتين . ودليل هذا ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال لعثمان لم لم تكتب التسمية بين التوبة والأنفال ؟ قال : لأن التوبة من آخر ما نزل فرسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين لنا شأنها فرأيت أوائلها يشبه أواخر الأنفال فألحقتها بها فهذا بيان منهما أنها كتبت للفصل بين السور . وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحمة الله عليهما - أن المصلي يسمي في أول صلاته ، ثم لا يعيد ; لأنها لافتتاح القراءة كالتعوذ . ( وروى ) المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يؤتى بها في أول كل ركعة ، وهو قول أبي يوسف رحمه الله ، وهو أقرب إلى الاحتياط لاختلاف العلماء - والآثار في كونها آية من الفاتحة . ( وروى ) ابن أبي رجاء عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال إذا كان يخفي القراءة يأتي بالتسمية بين السورة والفاتحة ; لأنه أقرب إلى متابعة المصحف ، وإذا كان يجهر لا يأتي بها بين السورة والفاتحة ; لأنه لو فعل لأخفى بها فيكون ذلك سكتة له في وسط القراءة ولم ينقل ذلك مأثورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية