وبالجملة ، فأهل السنة كلهم ، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف ، متفقون على أن . ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات ، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما ، أو أنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وأن نوع الكلام قديم . كلام الله غير مخلوق
وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق ، ومرادهم أنه [ ص: 186 ] غير مختلق مفترى مكذوب ، بل هو حق وصدق ، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين .
والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقا خلقه الله ، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته ؟ وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا ، وإلا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه . ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع - معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه ، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع .
ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة ، لم يكن بينهم نزاع ، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه ، فرق بها بينهم . وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ( البقرة : 176 ) .
والذي يدل عليه كلام رحمه الله : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء ، وأن نوع كلامه قديم . وكذلك ظاهر كلام الطحاوي رضي الله عنه في الفقه الأكبر ، فإنه قال : والقرآن [ كلام الله ] في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الألسن مقروء ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق [ وكتابتنا له مخلوقة ، وقراءتنا له مخلوقة ] والقرآن غير مخلوق ، وما ذكره الله في [ ص: 187 ] القرآن [ حكاية ] عن الإمام أبي حنيفة موسى عليه السلام وغيره ، [ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ] وعن فرعون وإبليس - فإن ذلك [ كله ] كلام الله إخبارا عنهم ، [ كلام الله غير مخلوق ] وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله لا كلامهم ، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى ، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل ، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا ، ويتكلم لا ككلامنا . انتهى . فقوله : ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته - يعلم منه أنه حين جاء كلمه ، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلا وأبدا يقول يا موسى ، كما يفهم ذلك من قوله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ( الأعراف : 143 ) ، ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع ، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء ، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره .
وقوله : الذي هو من صفاته لم يزل رد على من يقول أنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلما .
وبالجملة : فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل على أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم إذا شاء ، وأنه يتكلم شيئا بعد شيء ، فهو حق يجب قبوله . وما يقول به من يقول : إن كلام الله قائم بذاته ، وأنه صفة له . والصفة لا تقوم إلا بالموصوف : فهو حق يجب قبوله والقول به . فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب ، والعدول عما [ ص: 188 ] يرده الشرع والعقل من قول كل منهما .
فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به . قلنا : هذا القول مجمل ، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك ، ونصوص الأئمة أيضا ، مع صريح العقل .
ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول ، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه ، بل الذي أفهموهم إياه : أن الله نفسه هو الذي تكلم ، والكلام قائم به لا بغيره ، وأنه هو الذي تكلم به وقاله ، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك : ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى . ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه ، إذ لا يجوز . تأخير البيان عن وقت الحاجة
ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذرا من التشبيه ، فلا يثبتوا صفة غيره ، فإنهم إذا قالوا : يعلم لا كعلمنا ، قلنا : ويتكلم لا كتكلمنا ، وكذلك سائر الصفات .
وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة ، أو حي لا تقوم [ ص: 189 ] به الحياة ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم : فهل يقول عاقل أنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق ؟ بل هذا كقوله : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وكقوله : أعوذ برضاك من سخطك . وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، . وكقوله : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا . كل هذه من صفات الله تعالى .
وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها ، وإنما أشير إليها هنا إشارة .
وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد ، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض في الحاصل في الدلالات ، لا في المدلول . وهذه العبارات مخلوقة ، وسميت كلام الله لدلالتها عليه وتأديه بها ، فإن عبر بالعربية فهو قرآن ، وإن عبر بالعبرية فهو توراة ، فاختلفت العبارات لا الكلام . قالوا : وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازا ! وهذا الكلام فاسد ، فإن لازمه أن معنى قوله : ولا تقربوا الزنا ( الإسراء : 32 ) ، هو معنى قوله : وأقيموا الصلاة ( البقرة : 43 ) ومعنى [ ص: 190 ] آية الكرسي هو معنى آية الدين ! ومعنى سورة الإخلاص هو معنى تبت يدا أبي لهب ( المسد : 1 ) . وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده ، وعلم أنه مخالف لكلام السلف . والحق : أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة ، وكلام الله تعالى لا يتناهى ، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء ، ولا يزال كذلك . قال تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ( الكهف : 109 ) . وقال تعالى : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ( لقمان : 27 ) .