قوله : ( والله يغضب ويرضى ، لا كأحد من الورى ) .
ش : قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119رضي الله عنهم [ المائدة : 119 ] [ المجادلة : 22 ] [ البينة : 8 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=18لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ الفتح : 18 ] . وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60من لعنه الله وغضب عليه [ المائدة : 60 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93وغضب الله عليه ولعنه [ النساء : 93 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=61وباءوا بغضب من الله [ البقرة : 61 ] . ونظائر ذلك كثيرة .
[ ص: 685 ] nindex.php?page=treesubj&link=29697_29700_29695_28707ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب ، والرضى ، والعداوة ، والولاية ، والحب ، والبغض ، ونحو ذلك من الصفات ، التي ورد بها الكتاب والسنة ، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى . كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات ، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله : إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية - ترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين .
وانظر إلى جواب الإمام
مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف قال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول . وروي أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا عليها ، ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم : من لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه . ويأتي في كلامه أن الإسلام بين الغلو والتقصير ، وبين التشبيه والتعطيل .
فقول الشيخ رحمه الله : لا كأحد من الورى ، نفي التشبيه .
nindex.php?page=treesubj&link=29697_29695ولا يقال : إن الرضى إرادة الإحسان ، والغضب إرادة الانتقام - فإن هذا نفي للصفة . وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه ، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه ، وينهى عما يسخطه ويكرهه ، ويبغضه ويغضب على فاعله ، وإن كان قد شاءه وأراده . فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده ، ويكره ويسخط ويغضب لما أراده .
[ ص: 686 ] ويقال لمن تأول الغضب والرضى بإرادة الإحسان : لم تأولت ذلك ؟ فلابد أن يقول : لأن الغضب غليان دم القلب ، والرضى الميل والشهوة ، وذلك لا يليق بالله تعالى ! فيقال له : غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب ، لا أنه الغضب . ويقال له أيضا : وكذلك الإرادة والمشيئة فينا ، فهي ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه ، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة ، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه ، ويزداد بوجوده ، وينتقص بعدمه . فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء ، فإن جاز هذا جاز ذاك ، وإن امتنع هذا امتنع ذاك .
فإن قال :
nindex.php?page=treesubj&link=29622_29723الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد ، وإن كان كل منهما حقيقة ؟ قيل له : فقل : إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد ، وإن كان كل منهما حقيقة . فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات ، لم يتعين التأويل ، بل يجب تركه ، لأنك تسلم من التناقض ، وتسلم أيضا من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب . فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام ، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله ، إذ العقول مختلفة ، فكل يقول إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر !
وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى ، لامتناع مسمى ذلك في المخلوق ، فإنه لا بد أن يثبت شيئا لله تعالى
[ ص: 687 ] على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود ، فإن وجود العبد كما يليق به ، ووجود الباري تعالى كما يليق به ، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم ، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم ، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته ، مثل الحي والعليم والقدير ، أو سمى به بعض صفاته ، كالغضب والرضى ، وسمى به بعض صفات عباده - : فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى ، وأنه حق ثابت موجود ، ونعقل أيضا معاني هذه الأسماء في حق المخلوق ، ونعقل أن بين المعنيين قدرا مشتركا ، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركا ، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركا إلا في الأذهان ، ولا يوجد في الخارج إلا معينا مختصا . فيثبت في كل منهما كما يليق به . بل لو قيل : غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة - : لم يجب أن يكون مماثلا لكيفية غضب الآدميين ، لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة ، حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه . فغضب الله أولى .
وقد
nindex.php?page=treesubj&link=28836نفى الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه ، من كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وأسفه ونحو ذلك ، وقالوا : إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه ، ليس هو في نفسه متصفا بشيء من ذلك ! !
وعارض هؤلاء من الصفاتية
ابن كلاب ومن وافقه ، فقالوا : لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا ، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته ، قديمة أزلية ، فلا يرضى في وقت دون وقت ، ولا يغضب في وقت دون وقت . كما قال في حديث الشفاعة : إن
[ ص: 688 ] ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله
وفي الصحيحين عن nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا .
فيستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت ، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط ، كما يحل السخط ثم يرضى ، لكن هؤلاء أحل عليهم رضوانا لا يتعقبه سخط .
وهم قالوا : لا يتكلم إذا شاء ، ولا يضحك إذا شاء ، ولا يغضب إذا شاء ، ولا يرضى إذا شاء ، بل إما أن يجعلوا الرضى والغضب والحب والبغض هو الإرادة ، أو يجعلوها صفات أخرى ، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته ، إذ لو تعلقت بذلك لكان محلا للحوادث ! ! فنفى هؤلاء الصفات الفعلية الذاتية بهذا الأصل ، كما نفى أولئك الصفات مطلقا بقولهم ليس محلا للأعراض . وقد يقال : بل هي أفعال ، ولا تسمى حوادث ، كما سميت
[ ص: 689 ] تلك صفات ، ولم تسم أعراضا . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى ، ولكن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في الصفات في المختصر في مكان واحد ، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك ، ولم يعتن فيه بترتيب .
وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين ترتيب جواب النبي صلى الله عليه وسلم
لجبريل عليه السلام ، حين سأله عن
nindex.php?page=treesubj&link=28647الإيمان ، فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، الحديث - فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات وما يتعلق بذلك ، ثم بالكلام على الملائكة ، ثم وثم ، إلى آخره .
قَوْلُهُ : ( وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى ، لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى ) .
ش : قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 119 ] [ الْمُجَادَلَةِ : 22 ] [ الْبَيِّنَةِ : 8 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=18لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [ الْفَتْحِ : 18 ] . وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [ الْمَائِدَةِ : 60 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [ النِّسَاءِ : 93 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=61وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ : 61 ] . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
[ ص: 685 ] nindex.php?page=treesubj&link=29697_29700_29695_28707وَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْغَضَبِ ، وَالرِّضَى ، وَالْعَدَاوَةِ ، وَالْوِلَايَةِ ، وَالْحُبِّ ، وَالْبُغْضِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ ، الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ ، وَمَنْعُ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَصْرِفُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا اللَّائِقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى . كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ : إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ - تَرْكَ التَّأْوِيلِ ، وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ .
وَانْظُرْ إِلَى جَوَابِ الْإِمَامِ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ كَيْفَ قَالَ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهَا ، وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا تَقَدَّمَ : مَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ . وَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ .
فَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى ، نَفْيُ التَّشْبِيهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29697_29695وَلَا يُقَالُ : إِنَّ الرِّضَى إِرَادَةُ الْإِحْسَانِ ، وَالْغَضَبَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ - فَإِنَّ هَذَا نَفْيٌ لِلصِّفَةِ . وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَشَاؤُهُ ، وَيَنْهَى عَمَّا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ ، وَيُبْغِضُهُ وَيَغْضَبُ عَلَى فَاعِلِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ وَأَرَادَهُ . فَقَدْ يُحِبُّ عِنْدَهُمْ وَيَرْضَى مَا لَا يُرِيدُهُ ، وَيَكْرَهُ وَيَسْخَطُ وَيَغْضَبُ لِمَا أَرَادَهُ .
[ ص: 686 ] وَيُقَالُ لِمَنْ تَأَوَّلَ الْغَضَبَ وَالرِّضَى بِإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ : لِمَ تَأَوَّلْتَ ذَلِكَ ؟ فَلَابُدَّ أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّ الْغَضَبَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ ، وَالرِّضَى الْمَيْلُ وَالشَّهْوَةُ ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى ! فَيُقَالُ لَهُ : غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ فِي الْآدَمِيِّ أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْ صِفَةِ الْغَضَبِ ، لَا أَنَّهُ الْغَضَبُ . وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ فِينَا ، فَهِيَ مَيْلُ الْحَيِّ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ وَيُنَاسِبُهُ ، فَإِنَّ الْحَيَّ مِنَّا لَا يُرِيدُ إِلَّا مَا يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يُرِيدُهُ وَمُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ ، وَيَزْدَادُ بِوُجُودِهِ ، وَيَنْتَقِصُ بِعَدَمِهِ . فَالْمَعْنَى الَّذِي صَرَفْتَ إِلَيْهِ اللَّفْظَ كَالْمَعْنَى الَّذِي صَرَفْتَهُ عَنْهُ سَوَاءٌ ، فَإِنْ جَازَ هَذَا جَازَ ذَاكَ ، وَإِنِ امْتَنَعَ هَذَا امْتَنَعَ ذَاكَ .
فَإِنْ قَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29622_29723الْإِرَادَةُ الَّتِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا مُخَالِفَةٌ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْعَبْدُ ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً ؟ قِيلَ لَهُ : فَقُلْ : إِنَّ الْغَضَبَ وَالرِّضَى الَّذِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً . فَإِذَا كَانَ مَا يَقُولُهُ فِي الْإِرَادَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ ، لَمْ يَتَعَيَّنِ التَّأْوِيلُ ، بَلْ يَجِبُ تَرْكُهُ ، لِأَنَّكَ تَسْلَمُ مِنَ التَّنَاقُضِ ، وَتَسْلَمُ أَيْضًا مِنْ تَعْطِيلِ مَعْنَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ بِلَا مُوجِبٍ . فَإِنَّ صَرْفَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ حَرَامٌ ، وَلَا يَكُونُ الْمُوجِبُ لِلصَّرْفِ مَا دَلَّهُ عَلَيْهِ عَقْلُهُ ، إِذِ الْعُقُولُ مُخْتَلِفَةٌ ، فَكَلٌّ يَقُولُ إِنَّ عَقْلَهُ دَلَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْآخَرُ !
وَهَذَا الْكَلَامُ يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِامْتِنَاعِ مُسَمَّى ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى
[ ص: 687 ] عَلَى خِلَافِ مَا يَعْهَدُهُ حَتَّى فِي صِفَةِ الْوُجُودِ ، فَإِنَّ وُجُودَ الْعَبْدِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ ، وَوُجُودَ الْبَارِي تَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِهِ ، فَوُجُودُهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ ، وَوُجُودُ الْمَخْلُوقِ لَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ ، وَمَا سَمَّى بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ وَسَمَّى بِهِ مَخْلُوقَاتِهِ ، مِثْلَ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ ، أَوْ سَمَّى بِهِ بَعْضَ صِفَاتِهِ ، كَالْغَضَبِ وَالرِّضَى ، وَسَمَّى بِهِ بَعْضَ صِفَاتِ عِبَادِهِ - : فَنَحْنُ نَعْقِلُ بِقُلُوبِنَا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ ، وَنَعْقِلُ أَيْضًا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ ، وَنَعْقِلُ أَنَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا ، لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُشْتَرَكًا ، إِذِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ الْكُلِّيُّ لَا يُوجَدُ مُشْتَرَكًا إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا مُعَيَّنًا مُخْتَصًّا . فَيَثْبُتُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا يَلِيقُ بِهِ . بَلْ لَوْ قِيلَ : غَضَبُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ وَغَضَبُ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - : لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِكَيْفِيَّةِ غَضَبِ الْآدَمِيِّينَ ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ ، حَتَّى تَغْلِيَ دِمَاءُ قُلُوبِهِمْ كَمَا يَغْلِي دَمُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ غَضَبِهِ . فَغَضَبُ اللَّهِ أَوْلَى .
وَقَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=28836نَفَى الْجَهْمُ وَمَنْ وَافَقَهُ كُلَّ مَا وَصَفَ اللَّهَ بِهِ نَفْسَهُ ، مِنْ كَلَامِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَأَسَفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : إِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ ، لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَّصِفًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ! !
وَعَارَضَ هَؤُلَاءِ مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ
ابْنُ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ، فَقَالُوا : لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَصْلًا ، بَلْ جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ ، قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ ، فَلَا يَرْضَى فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَلَا يَغْضَبُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ . كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ : إِنَّ
[ ص: 688 ] رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبُّ ؟ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، فَيَقُولُ : أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُونَ : يَا رَبُّ ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا .
فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُحِلُّ رِضْوَانَهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَأَنَّهُ قَدْ يُحِلُّ رِضْوَانَهُ ثُمَّ يَسْخَطُ ، كَمَا يُحِلُّ السَّخَطَ ثُمَّ يَرْضَى ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَحَلَّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانًا لَا يَتَعَقَّبُهُ سَخَطٌ .
وَهُمْ قَالُوا : لَا يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ ، وَلَا يَضْحَكُ إِذَا شَاءَ ، وَلَا يَغْضَبُ إِذَا شَاءَ ، وَلَا يَرْضَى إِذَا شَاءَ ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَجْعَلُوا الرِّضَى وَالْغَضَبَ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ هُوَ الْإِرَادَةُ ، أَوْ يَجْعَلُوهَا صِفَاتٍ أُخْرَى ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا بِمَشِيئَتِهِ وَلَا بِقُدْرَتِهِ ، إِذْ لَوْ تَعَلَّقَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ مَحَلًا لِلْحَوَادِثِ ! ! فَنَفَى هَؤُلَاءِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةَ الذَّاتِيَّةَ بِهَذَا الْأَصْلِ ، كَمَا نَفَى أُولَئِكَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِمْ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْأَعْرَاضِ . وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ هِيَ أَفْعَالٌ ، وَلَا تُسَمَّى حَوَادِثَ ، كَمَا سُمِّيَتْ
[ ص: 689 ] تِلْكَ صِفَاتٍ ، وَلَمْ تُسَمَّ أَعْرَاضًا . وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فِي الْمُخْتَصَرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَعْتَنِ فِيهِ بِتَرْتِيبٍ .
وَأَحْسَنُ مَا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ كِتَابُ أُصُولِ الدِّينِ تَرْتِيبُ جَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، حِينَ سَأَلَهُ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=28647الْإِيمَانِ ، فَقَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ ، الْحَدِيثَ - فَيَبْدَأُ بِالْكَلَامِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ بِالْكَلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، ثُمَّ وَثُمَّ ، إِلَى آخِرِهِ .