وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع ، ثابت بالعقل والفطرة ، أما ثبوته بالعقل ، فمن وجوه :
أحدها : العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين ، إما أن يكون أحدهما ساريا في الآخر قائما به كالصفات ، وإما أن يكون قائما بنفسه بائنا من الآخر .
الثاني : أنه لما خلق العالم ، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته ، والأول باطل : أما أولا : فبالاتفاق ، وأما ثانيا : فلأنه يلزم أن يكون محلا للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
[ ص: 390 ] والثاني يقتضي كون العالم واقعا خارج ذاته ، فيكون منفصلا ، فتعينت المباينة ، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه - غير معقول .
الثالث : أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه - : يقتضي نفي وجوده بالكلية ، لأنه غير معقول : فيكون موجودا إما داخله وإما خارجه . والأول باطل فتعين الثاني ، فلزمت المباينة .
وأما ثبوته بالفطرة ، فإن الخلق جميعا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء ، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى . وذكر أن الشيخ محمد بن طاهر المقدسي حضر مجلس الأستاذ أبا جعفر الهمذاني المعروف أبي المعالي الجويني وهو يتكلم في نفي صفة العلو ، ويقول : كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان ! فقال الشيخ بإمام الحرمين ، أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ؟ فإنه ما قال عارف قط : يا الله ، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا ؟ قال : فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل ! وأظنه قال : وبكى ! وقال : حيرني الهمذاني حيرني ! أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده ، من غير أن يتلقوه من المعلمين ، [ ص: 391 ] يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو .
وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته ، لأنه أنكره جمهور العقلاء ، فلو كان بديهيا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء ، بل هو قضية وهمية خيالية .
والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه ، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة ، وهو أن يقال : إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل ، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم ردا ، فإن كان قولنا باطلا في العقل ، فقولكم أبطل ، وإن كان قولكم حقا مقبولا في العقل ، فقولنا أولى أن يكون مقبولا في العقل . فإن دعوى الضرورة مشتركة .
فإنا نقول : نعلم بالضرورة بطلان قولكم ، وأنتم تقولون كذلك ، فإذا قلتم : تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل ، قابلناكم بنظير قولكم ، وعامة فطر الناس ، - ليسوا منكم ولا منا - يوافقونا على هذا ، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولا ترجحنا عليكم ، وإن كان مردودا غير مقبول بطل قولكم بالكلية ، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية ، وبطلت عقلياتنا أيضا ، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم ، فنحن مختصون بالسمع دونكم ، والعقل مشترك بيننا وبينكم .
فإن قلتم : أكثر العقلاء يقولون بقولنا ؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم ليس فوق العالم وليس فوق [ ص: 392 ] العالم شيء موجود ، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم - : طائفة من النظار ، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام وأتباعه . جهم بن صفوان