nindex.php?page=treesubj&link=29426_28657فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس ، بين القرآن [ ص: 39 ] بطلانه ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=91nindex.php?page=treesubj&link=28658_28662ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ( المؤمنون : 91 ) . فتأمل هذا البرهان الباهر ، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر . فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا ، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر ، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه ، لكان له خلق وفعل ، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة ، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل ، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق ، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه ، إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه . فلا بد من أحد ثلاثة أمور :
إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه .
وإما أن يعلو بعضهم على بعض .
وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ، ولا يتصرفون فيه ، بل يكون وحده هو الإله ، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه .
وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره ، من أدل دليل على أن مدبره إله واحد ، وملك واحد ، ورب واحد ، لا إله للخلق غيره ، ولا رب لهم سواه . كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد ، لا رب غيره ولا إله سواه ، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد ، وهذا تمانع في
[ ص: 40 ] العبادة والإلهية . فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان ، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان .
فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته ، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه ، فكذا تبطل إلهية اثنين . فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية ، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية .
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) . وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره ، وهو أنه لو كان للعالم صانعان . . . . . الخ ، وغفلوا عن مضمون الآية ، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ، ولم يقل : أرباب .
وأيضا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما ، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا .
وأيضا فإنه قال : لفسدتا ، وهذا فساد بعد الوجود ، ولم يقل : لم يوجدا .
ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة ، بل لا يكون الإله إلا الواحد ، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى ، وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون
[ ص: 41 ] الآلهة فيهما متعددة ، ومن كون الإله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره . فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله ، فإن قيامه إنما هو بالعدل ، وبه قامت السماوات والأرض .
وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك ، وأعدل العدل التوحيد .
nindex.php?page=treesubj&link=29426_28657فَلَمَّا كَانَ هَذَا الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ مَوْجُودًا فِي النَّاسِ ، بَيَّنَ الْقُرْآنُ [ ص: 39 ] بُطْلَانَهُ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=91nindex.php?page=treesubj&link=28658_28662مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( الْمُؤْمِنُونَ : 91 ) . فَتَأَمَّلْ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ ، بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ الظَّاهِرِ . فَإِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فَاعِلًا ، يُوصِلُ إِلَى عَابِدِهِ النَّفْعَ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الضُّرَّ ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ آخَرُ يُشْرِكُهُ فِي مُلْكِهِ ، لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ وَفِعْلٌ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَرْضَى تِلْكَ الشَّرِكَةَ ، بَلْ إِنْ قَدَرَ عَلَى قَهْرِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَالْإِلَهِيَّةِ دُونَهُ فَعَلَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْفَرَدَ بِخَلْقِهِ وَذَهَبَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ ، كَمَا يَنْفَرِدُ مُلُوكُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِمَمَالِكِهِ ، إِذَا لَمْ يَقْدِرُ الْمُنْفَرِدُ مِنْهُمْ عَلَى قَهْرِ الْآخَرِ وَالْعُلُوِّ عَلَيْهِ . فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ :
إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِخَلْقِهِ وَسُلْطَانِهِ .
وَإِمَّا أَنْ يَعْلُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ قَهْرِ مَلِكٍ وَاحِدٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ ، وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ ، بَلْ يَكُونُ وَحْدَهُ هُوَ الْإِلَهُ ، وَهُمُ الْعَبِيدُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَقْهُورُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَانْتِظَامُ أَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَإِحْكَامِ أَمْرِهِ ، مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وَمَلِكٌ وَاحِدٌ ، وَرَبٌّ وَاحِدٌ ، لَا إِلَهَ لِلْخَلْقِ غَيْرُهُ ، وَلَا رَبَّ لَهُمْ سِوَاهُ . كَمَا قَدْ دَلَّ دَلِيلُ التَّمَانُعِ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ ، فَذَاكَ تَمَانُعٌ فِي الْفِعْلِ وَالْإِيجَادِ ، وَهَذَا تَمَانُعٌ فِي
[ ص: 40 ] الْعِبَادَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ . فَكَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ رَبَّانِ خَالِقَانِ مُتَكَافِئَانِ ، كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِلَهَانِ مَعْبُودَانِ .
فَالْعِلْمُ بِأَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ ، مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بُطْلَانُهُ ، فَكَذَا تَبْطُلُ إِلَهِيَّةُ اثْنَيْنِ . فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُوَافِقَةٌ لِمَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ، دَالَّةٌ مُثْبِتَةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ .
وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الْأَنْبِيَاءِ : 22 ) . وَقَدْ ظَنَّ طَوَائِفُ أَنَّ هَذَا دَلِيلُ التَّمَانُعِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ . . . . . الْخَ ، وَغَفَلُوا عَنْ مَضْمُونِ الْآيَةِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غَيْرُهُ ، وَلَمْ يَقُلْ : أَرْبَابٌ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُجُودِهِمَا ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَهُمَا مَوْجُودَتَانِ آلِهَةٌ سِوَاهُ لَفَسَدَتَا .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : لَفَسَدَتَا ، وَهَذَا فَسَادٌ بَعْدَ الْوُجُودِ ، وَلَمْ يَقُلْ : لَمْ يُوجَدَا .
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا آلِهَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ ، بَلْ لَا يَكُونُ الْإِلَهُ إِلَّا الْوَاحِدَ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَنَّ فَسَادَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ
[ ص: 41 ] الْآلِهَةِ فِيهِمَا مُتَعَدِّدَةً ، وَمِنْ كَوْنِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ غَيْرَ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا صَلَاحَ لَهُمَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ فِيهِمَا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا غَيْرَهُ . فَلَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ إِلَهَانِ مَعْبُودَانِ لَفَسَدَ نِظَامُهُ كُلُّهُ ، فَإِنَّ قِيَامَهُ إِنَّمَا هُوَ بِالْعَدْلِ ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ .
وَأَظْلَمُ الظُّلْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الشِّرْكُ ، وَأَعْدَلُ الْعَدْلِ التَّوْحِيدُ .