والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة - . فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، أو جزءا من الإيمان ، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ، بل هو في مشيئة الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه - : نزاع لفظي ، لا يترتب عليه فساد اعتقاد . والقائلون بتكفير تارك الصلاة ، ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى . وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية ، اتفاقا . اختلاف صوري
[ ص: 463 ] ، وأعني بالقول : التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم : الإيمان قول وعمل . لكن هذا المطلوب من العباد : هل يشمله اسم الإيمان ؟ أم الإيمان أحدهما ، وهو القول وحده ، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر ، وإن أطلق عليهما كان مجازا ؟ هذا محل النزاع . ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل
وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ، وامتنع عن العمل بجوارحه : أنه عاص لله ورسوله ، مستحق الوعيد ، لكن فيمن يقول : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال : لما كان الإيمان شيئا واحدا فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما ! بل قال : كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم السلام ! ! وهذا غلو منه . فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر ، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه ، فمنهم الأخفش [ ص: 464 ] والأعشى ، ومن يرى الخط الثخين ، دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها ، ومن يرى عن قرب زائد على العادة ، وآخر بضده .
ولهذا - والله أعلم - قال الشيخ رحمه الله : وأهله في أصله سواء ، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله ، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه ، بل تفاوت نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله تعالى : فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس ، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري ، وآخر كالمشعل العظيم ، وآخر كالسراج المضيء ، وآخر كالسراج الضعيف . ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار ، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علما وعملا ، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته ، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنبا إلا أحرقه ، وهذه حال الصادق في توحيده ، فسماء إيمانه قد حرست بالرجوم من كل سارق . ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ، وقوله : إن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت [ ص: 465 ] على كثير من الناس ، حتى ظنها بعضهم منسوخة ، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار ، وأول بعضهم الدخول بالخلود ، ونحو ذلك . لا يدخل النار من قال : لا إله إلا الله
والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط ، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار ، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب .
وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ، ويقابلها تسعة وتسعون [ ص: 466 ] سجلا ، كل سجل منها مد البصر ، فتثقل البطاقة ، وتطيش السجلات ، فلا يعذب صاحبها .
ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة ، وكثير منهم يدخل النار . وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان ، التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية ، وحملته وهو في تلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت .
وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان ، حين نزعت موقها وسقت الكلب من الركية ، فغفر لها .
وهكذا العقل أيضا ، فإنه يقبل التفاضل ، وأهله في أصله سواء ، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين ، وبعضهم أعقل من بعض .
وكذلك الإيجاب والتحريم ، فيكون إيجاب دون إيجاب ، وتحريم دون تحريم . هذا هو الصحيح ، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب .