ومن ثمرات هذا الاختلاف : . والناس فيه على ثلاثة أقوال : مسألة الاستثناء في الإيمان ، وهو أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله
[ ص: 495 ] طرفان ووسط ، منهم من يوجبه ، ومنهم من يحرمه ، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار ، وهذا أصح الأقوال .
أما من يوجبه فلهم مأخذان : أحدهما : أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه ، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا أو كافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه ، وما قبل ذلك لا عبرة به ، قالوا : والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا - : ليس بإيمان ، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال ، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب ، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم ، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافرا إذا علم منه أنه يموت مؤمنا ، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم ، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد ! وليس هذا قول السلف ، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه ، وهو فاسد ، فإن الله تعالى قال : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] فأخبر أنهم يحبهم إن اتبعوا الرسول ، فاتباع الرسول شرط المحبة ، والمشروط يتأخر عن الشرط ، وغير ذلك من الأدلة .
ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه ، حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة ، يقول : صليت إن شاء الله ! ونحو ذلك ، يعني القبول . ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء ، فيقول أحدهم : هذا ثوب إن شاء الله ! هذا حبل إن شاء الله ! فإذا قيل لهم : هذا لا شك فيه ؟ يقولون : نعم ، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره ! !
المأخذ الثاني : أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله وترك ما نهاه عنه كله ، فإذا قال الرجل : أنا مؤمن ، بهذا الاعتبار : [ ص: 496 ] فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بجميع ما أمروا به ، وترك كل ما نهوا عنه ، فيكون من أولياء الله المقربين ! وهذا مع تزكية الإنسان لنفسه ، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة ، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال .
وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون ، وإن جوزوا ترك الاستثناء ، بمعنى آخر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى . ويحتجون أيضا بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه ، كما قال تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ الفتح : 27 ] . وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . وقال أيضا : إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله . ونظائر هذا .
وأما من يحرمه ، فكل من جعل الإيمان شيئا واحدا ، فيقول : أنا أعلم أني مؤمن ، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين ، فقولي : أنا مؤمن ، [ ص: 497 ] كقولي : أنا مسلم ، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه ، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكاكة . وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ الفتح : 27 ] ، بأنه يعود إلى الأمن والخوف ، فأما الدخول فلا شك فيه ! وقيل : لتدخلن جميعكم أو بعضكم ، لأنه علم أن بعضهم يموت .
وفي كلا الجوابين نظر : فإنهم وقعوا فيما فروا منه ، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين ، مع علمه بذلك ، فلا شك في الدخول ، ولا في الأمن ، ولا في دخول الجميع أو البعض ، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضا ، فكان قول : إن شاء الله هنا تحقيقا للدخول ، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة : والله لأفعلن كذا إن شاء الله ، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه ، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين لأنه لا يجزم بحصول مراده .
وأجيب بجواب آخر لا بأس به ، وهو : أنه قال ذلك تعليما لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل . وفي كون هذا المعنى مرادا من النص - نظر فإنه ما سيق الكلام له إلا أن يكون مرادا من إشارة النص .
وأجاب بجوابين آخرين باطلين ، وهما : أن يكون [ ص: 498 ] الملك قد قاله ، فأثبت قرآنا ! أو أن الرسول قاله ! ! الزمخشري
وأما من يجوز الاستثناء وتركه ، فهم أسعد بالدليل من الفريقين ، وخير الأمور أوسطها : فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء ، وهذا مما لا خلاف فيه . وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم [ الأنفال : 2 - 4 ] وفي قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [ الحجرات : 15 ] . فالاستثناء حينئذ جائز . وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة ، وكذلك من استثنى تعليقا للأمر بمشيئة الله ، لا شكا في إيمانه . وهذا القول في القوة كما ترى .
قوله : وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق . يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة ، القائلين بأن الأخبار قسمان : متواتر وآحاد ، فالمتواتر - وإن كان قطعي السند - لكنه غير قطعي الدلالة ، فإن الأدلة اللفظية [ ص: 499 ] لا تفيد اليقين ! ! ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات ! قالوا : والآحاد لا تفيد العلم ، ولا يحتج بها من جهة طريقها ، ولا من جهة متنها ! فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول ، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ، ومقدمات خيالية ، سموها قواطع عقلية ، وبراهين يقينية ! ! وهي في التحقيق كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور [ النور : 39 - 40 ] .
ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي ، وعزلوا لأجلها [ ص: 500 ] النصوص ، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص ، ولم يظفروا بالعقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية . ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح ، الموافق للفطرة السليمة .
بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته ، وما ظنه معقولا : فما وافقه قال : إنه محكم ، وقبله واحتج به ! ! وما خالفه قال : إنه متشابه ، ثم رده ، وسمى رده تفويضا ! أو حرفه ، وسمى تحريفه تأويلا ! ! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم .