وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين ، فأولئك كان فيهم خير ، ثم زالت عقولهم . ومن علامة هؤلاء ، أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو ، تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان . ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم . ومن كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا ، لم يكن حدوث جنونه مزيلا [ ص: 772 ] لما ثبت من كفره أو فسقه . وكذلك من جن من المؤمنين المتقين ، يكون محشورا مع المؤمنين المتقين . وزوال العقل بجنون أو غيره ، سواء سمي صاحبه مولعا أو متولها لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر ، لا أنه يزيده أو ينقصه ، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير ، كما أنه يمنع عقوبته على الشر ، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله .
وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة ، من الهذيان ، والتكلم لبعض اللغات المخالفة للسانه المعروف منه ! ! فذلك شيطان يتكلم على لسانه ، كما يتكلم على لسان المصروع ، وذلك كله من الأحوال الشيطانية ! وكيف يكون زوال العقل سببا أو شرطا أو تقربا إلى ولاية الله ، كما يظنه كثير من أهل الضلال ؟ ! حتى قال قائلهم :
هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين ، إلا أن سر جنونهم
عزيز على أبوابه يسجد العقل
وأما ، فهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، قد طبع الله على قلوبهم . كما قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات ، ويتركون الجمع والجماعات . وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول ، إن [ ص: 774 ] كان عالما بها فهو مغضوب عليه ، وإلا فهو ضال . ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين . من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر ، طبع الله على قلبه
وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام ، في تجويز ، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق - : فهو ملحد زنديق . فإن الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر ، ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته . ولهذا قال له : أنت موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم . ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين ، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه ، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض ، إنما يحكم بشريعة محمد ، فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كالخضر مع موسى ، أو جوز ذلك لأحد من الأمة - : فليجدد إسلامه ، وليشهد شهادة الحق ، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية ، فضلا عن أن يكون من أولياء الله ، وإنما هو من أولياء الشيطان . وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل الاستقامة ، فحرك تر .
وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا ! ! فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر عنها ، وهو يود منها نظرة ؟ ! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث [ ص: 775 ] يقول : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة [ المدثر : 52 ] إلى آخر السورة .