والوجه الخامس والثلاثون : أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=27وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) فجعل مثل السوء المتضمن للنقائص وسلب الكمال
[ ص: 165 ] للمشركين ، وأخبر أن
nindex.php?page=treesubj&link=29625المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده ، وبهذا كان المثل الأعلى ، وهو أفعل تفضيل ، أي أعلى من غيره ، فكيف يكون أعلى عدم محض منفي صرف ، وأي مثل أدنى من هذا ، تعالى الله عن قول
المعطلين علوا كبيرا ، السوء العادم صفات الكمال ، ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته ، لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملا ، وهي : الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والإخلاص والعبادة لله ، والإقبال عليه والإنابة إليه ، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ، والصبر والرضى والشكر ، وغير ذلك من الصفات التي من اتصف بها كان ممن آمن بالآخرة ، فلما سلبت تلك الصفات عنهم ، وهي صفات كمال كان لهم مثل السوء ،
nindex.php?page=treesubj&link=29625فمن سلب صفات الكمال عن الله تعالى ، وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته وسائر ما وصف به نفسه ، فقد جعل لله تعالى مثل السوء ، ونزهه عن المثل الأعلى ، وأن مثل السوء هو أول ما يستلزمه ، وضده المثل الأعلى ، وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره .
ولما كان الرب هو الأعلى ، ووجهه الأعلى ، وكلامه الأعلى ، وسمعه الأعلى ، وسائر صفاته عليا ، كان له المثل الأعلى ، وهو أحق به من كل ما سواه ، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان ، لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر ، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده ، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل ، أي : نظير ، وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه ، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة .
ونظير هذا القهر المطلق مع الوحدة فإنهما متلازمان ، فلا يكون القهار إلا واحدا ، إذ لو كان معه كفء ، فإن لم يقهره لم يكن قهارا على الإطلاق ، وإن قهره لم يكن كفؤا وكان القهار واحدا ، فتأمل كيف كان قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=27وله المثل الأعلى ) من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه وتعالى .
فإن قلت : فما
nindex.php?page=treesubj&link=29625حقيقة المثل الأعلى ؟ قلت : قد أشكل هذا على جماعة من المفسرين ، واستشكلوا أقوال السلف فيه ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وغيره قالوا : مثل السوء العذاب والنار ، ولله المثل الأعلى : شهادة ( أن لا إله إلا الله ) ، قال
قتادة : هو الإخلاص والتوحيد ، وقال
الواحدي : هذا قول المفسرين في هذه الآية ، ولا أدري لم قيل
[ ص: 166 ] للعذاب مثل السوء والإخلاص المثل الأعلى ؟ قال : وقال قوم : المثل السوء : الصفة السوء من احتياجهم للولد وكراهتهم للإناث خوف العيلة والعار ، ولله المثل الأعلى : الصفة العليا وتنزهه وبراءته من الولد ، قال : وهذا قول صحيح ، والمثل كثيرا يرد بمعنى الصفة ، وقاله جماعة من المتقدمين .
وقال
ابن كيسان : مثل السوء ما ضرب الله للأصنام وعبدتها من الأمثال ، والمثل الأعلى نحو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الله نور السماوات والأرض ) ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=27وله المثل الأعلى ) هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل ، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله إلا هو .
قلت : المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا ، وعلم العالمين بها ، ووجودها العلمي ، والخبر عنها وذكرها ، وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه ، فها هنا أربعة أمور : ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر ، علمها العباد أو جهلوها ، وهذا قول من فسره بالصفة ، الثاني : وجودها في العلم والتصور ، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف : إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه ، وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه ، بل يختص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته ، وهذا معنى قول من قال من المفسرين : أهل السماء يحبونه ويعظمونه ، وأهل الأرض يجلونه ويعظمونه ، وإن أشرك به من أشرك ، وعصاه من عصاه ، وجحد صفاته من جحدها ، فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاضعون لعظمته ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=26وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأعظم من كل ما سواه ، الثالث : ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والمثيل ، الرابع : محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه ، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى .
فعبارة السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها ، وقد ضرب الله مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئا وهي مخلوقة ، ولا تملك لنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا .
وقال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=75ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=76وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم )
[ ص: 167 ] فهذان مثلان ضربهما الله لنفسه وللأصنام : للأصنام مثل بالسوء وله المثل الأعلى .
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=74ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه ، والأول مثل السوء للصنم وعابديه .
وقد ضرب الله سبحانه للمعارضين بين الوحي وعقولهم بمثل السوء بالكلب تارة ، وبالحمر تارة ، بالأنعام تارة ، وبأهل القبور تارة ، وبالعمي الصم ، وغير ذلك من أمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم ، وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله ، وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال ، ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثل الأعلى ومثل السوء .
السادس والثلاثون : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) فهذا يبين أن
nindex.php?page=treesubj&link=28723الحكم بين الناس هو الله وحده بما أنزل من الكتاب المفصل ، كما قال في الآية الأخرى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=10وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه ) ، وقال تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=65فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .
فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114أفغير الله أبتغي حكما ) استفهام إنكار ، يقول : كيف أبتغي حكما غير الله
[ ص: 168 ] وقد أنزل كتابا مفصلا ، فإن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) جملة في موضع الحال ، وقوله : ( مفصلا ) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين ضد ما يصفه به من يزعم أن عقول الرجال تعارض بعض نصوصه ، أو أن نصوصه خليت أو أفهمت خلاف الحق لمصلحة المخاطب ، أو أن لها معاني لا تفهم ولا يعلم المراد منها ، أو أن لها تأويلات باطلة ، خلاف ما دلت عليه ظواهرها ، فهؤلاء كلهم ليس الكتاب عندهم مفصلا ، بل مجمل مؤول ، ولا يعلم المراد منه ، والمراد منه خلاف ظاهره أو إفهام خلاف الحق ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ) وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن ، فمن نظر فيه علم علما يقينا أن هذا وهذا من مشكاة واحدة ، لا سيما في باب التوحيد والأسماء ، فإن التوراة من ذلك ليس هو المبدل المحرف الذي أنكره الله عليهم ، بل هو من الحق الذي شهد له القرآن وصدقه ، ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ما في التوراة من الصفات ; ولا عابهم به ; ولا جعله تشبيها وتجسيما وتمثيلا ، كما فعل كثير من النفاة ، وقال :
nindex.php?page=treesubj&link=29434اليهود أئمة التشبيه والتجسيم ، ولا ذنب لهم في ذلك ; فإنهم قرءوا ما في التوراة ، فالذي عابهم الله به من تأويل التحريف والتبديل لم يعبهم به
المعطلة بل شاركوهم فيه ، والذي استشهد الله على نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم به من موافقة ما عندهم من التوحيد والصفات عابوهم ونسبوهم إلى التشبيه والتجسيم ، وهذا ضد ما عليه الرسول وأصحابه ، فإنهم كانوا إذا ذكروا له شيئا من هذا الذي تسميه
المعطلة تجسيما وتشبيها صدقهم عليه وأقرهم ولم ينكره ، كما صدقهم في خبر الخبر الذي ثبت من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود وضحك تعجبا وتصديقا له ; وفي غير ذلك .
ثم قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=115وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ) فما أخبر به فهو صدق وما أمر به فهو عدل .
وهذا يبين أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق ، علينا أن نصدق به لا نعارضه ولا نعرض عنه ، ومن عارضه بعقله لم يصدق به ، ولو صدقه تصديقا مجملا ، ولم يصدقه تصديقا مفصلا في أعيان ما أخبر به لم يكن مؤمنا ، ولو أقر بلفظه مع جحد
[ ص: 169 ] معناه أو صرفه إلى معان أخر غير ما أريد به لم يكن مصدقا ، بل هو إلى التكذيب أقرب .
وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَلَاثُونَ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=27وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَجَعَلَ مَثَلَ السَّوْءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّقَائِصِ وَسَلْبِ الْكَمَالِ
[ ص: 165 ] لِلْمُشْرِكِينَ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29625الْمَثَلَ الْأَعْلَى الْمُتَضَمِّنَ لِإِثْبَاتِ الْكَمَالَاتِ كُلُّهَا لَهُ وَحْدَهُ ، وَبِهَذَا كَانَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ، وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ ، أَيْ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْلَى عَدَمٌ مَحْضٌ مَنْفِيٌّ صِرْفٌ ، وَأَيُّ مَثَلٍ أَدْنَى مِنْ هَذَا ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ
الْمُعَطِّلِينَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، السُّوءُ الْعَادِمُ صِفَاتُ الْكَمَالِ ، وَلِهَذَا جَعَلَهُ مِثْلَ الْجَاحِدِينَ لِتَوْحِيدِهِ وَكَلَامِهِ وَحِكْمَتِهِ ، لِأَنَّهُمْ فَقَدُوا الصِّفَاتِ الَّتِي مَنِ اتَّصَفَ بِهَا كَانَ كَامِلًا ، وَهِيَ : الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْيَقِينُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالصَّبْرُ وَالرِّضَى وَالشُّكْرُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي مَنِ اتَّصَفَ بِهَا كَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ ، فَلَمَّا سُلِبَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ عَنْهُمْ ، وَهِيَ صِفَاتُ كَمَالٍ كَانَ لَهُمْ مَثَلُ السَّوْءِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29625فَمَنْ سَلَبَ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعُلُوَّهُ عَلَى خَلْقِهِ وَكَلَامَهُ وَعِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَسَائِرَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، فَقَدْ جَعَلَ لِلَّهِ تَعَالَى مَثَلَ السَّوْءِ ، وَنَزَّهَهُ عَنِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى ، وَأَنَّ مَثَلَ السَّوْءِ هُوَ أَوَّلُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ ، وَضِدُّهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ، وَهُوَ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالْمَعَانِي الثُّبُوتِيُّةِ الَّتِي كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ فِي الْمَوْصُوفِ وَأَكْمَلَ كَانَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ .
وَلَمَّا كَانَ الرَّبُّ هُوَ الْأَعْلَى ، وَوَجْهُهُ الْأَعْلَى ، وَكَلَامُهُ الْأَعْلَى ، وَسَمْعُهُ الْأَعْلَى ، وَسَائِرُ صِفَاتِهِ عُلْيَا ، كَانَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ ، بَلْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الْمَثَلِ الْأَعْلَى اثْنَانِ ، لِأَنَّهُمَا إِنْ تَكَافَآ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَعْلَى مِنَ الْآخَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَافَآ فَالْمَوْصُوفُ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى مِثْلٌ ، أَيْ : نَظِيرٌ ، وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ مِنْ إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْقُوَّةِ .
وَنَظِيرُ هَذَا الْقَهْرِ الْمُطْلَقِ مَعَ الْوَحْدَةِ فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ ، فَلَا يَكُونُ الْقَهَّارُ إِلَّا وَاحِدًا ، إِذْ لَوْ كَانَ مَعَهُ كُفْءٌ ، فَإِنْ لَمْ يَقْهَرْهُ لَمْ يَكُنْ قَهَّارًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنْ قَهَرَهُ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا وَكَانَ الْقَهَّارُ وَاحِدًا ، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ كَانَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=27وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ) مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
فَإِنْ قُلْتَ : فَمَا
nindex.php?page=treesubj&link=29625حَقِيقَةُ الْمَثَلِ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ : قَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، وَاسْتَشْكَلُوا أَقْوَالَ السَّلَفِ فِيهِ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ قَالُوا : مَثَلُ السَّوْءِ الْعَذَابُ وَالنَّارُ ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى : شَهَادَةُ ( أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) ، قَالَ
قَتَادَةُ : هُوَ الْإِخْلَاصُ وَالتَّوْحِيدُ ، وَقَالَ
الْوَاحِدِيُّ : هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَلَا أَدْرِي لِمَ قِيلَ
[ ص: 166 ] لِلْعَذَابِ مَثَلُ السَّوْءِ وَالْإِخْلَاصُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ؟ قَالَ : وَقَالَ قَوْمٌ : الْمَثَلُ السَّوْءُ : الصِّفَةُ السَّوْءُ مِنَ احْتِيَاجِهِمْ لِلْوَلَدِ وَكَرَاهَتِهِمْ لِلْإِنَاثِ خَوْفَ الْعَيْلَةِ وَالْعَارِ ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى : الصِّفَةُ الْعُلْيَا وَتَنَزُّهُهُ وَبَرَاءَتُهُ مِنَ الْوَلَدِ ، قَالَ : وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ ، وَالْمَثَلُ كَثِيرًا يَرِدُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ ، وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَقَالَ
ابْنُ كَيْسَانَ : مَثَلُ السَّوْءِ مَا ضَرَبَ اللَّهُ لِلْأَصْنَامِ وَعَبَدَتِهَا مِنَ الْأَمْثَالِ ، وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى نَحْوَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=27وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ) هُوَ الْأَطْيَبُ وَالْأَفْضَلُ وَالْأَحْسَنُ وَالْأَجْمَلُ ، وَذَلِكَ التَّوْحِيدُ وَالْإِذْعَانُ لَهُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ .
قُلْتُ : الْمَثَلُ الْأَعْلَى يَتَضَمَّنُ الصِّفَةَ الْعُلْيَا ، وَعِلْمَ الْعَالَمِينَ بِهَا ، وَوُجُودَهَا الْعِلْمِيَّ ، وَالْخَبَرَ عَنْهَا وَذِكْرَهَا ، وَعِبَادَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِ عَابِدِيهِ وَذَاكِرِيهِ ، فَهَا هُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ : ثُبُوتُ الصِّفَاتِ الْعُلْيَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، عَلِمَهَا الْعِبَادُ أَوْ جَهِلُوهَا ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَهُ بِالصِّفَةِ ، الثَّانِي : وَجُودُهَا فِي الْعِلْمِ وَالتَّصَوُّرِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إِنَّهُ مَا فِي قُلُوبِ عَابِدِيهِ وَذَاكِرِيهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ ، وَهَذَا الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمَثَلِ الْأَعْلَى لَا يَشْتَرِكُ فِيهِ غَيْرُهُ مَعَهُ ، بَلْ يَخْتَصُّ بِهِ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا اخْتَصَّ بِهِ فِي ذَاتِهِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ : أَهْلُ السَّمَاءِ يُحِبُّونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ يُجِلُّونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ ، وَإِنْ أَشْرَكَ بِهِ مَنْ أَشْرَكَ ، وَعَصَاهُ مَنْ عَصَاهُ ، وَجَحَدَ صِفَاتَهُ مَنْ جَحَدَهَا ، فَكُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ مُعَظِّمُونَ لَهُ مُجِلُّونَ لَهُ خَاضِعُونَ لِعَظَمَتِهِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=26وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) فَلَسْتَ تَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ إِلَّا وَاللَّهُ أَكْبَرُ فِي صَدْرِهِ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ ، الثَّالِثُ : ذِكْرُ صِفَاتِهِ وَالْخَبَرُ عَنْهَا وَتَنْزِيهُهَا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ وَالْمَثِيلِ ، الرَّابِعُ : مَحَبَّةُ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَتَوْحِيدُهُ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ ، وَكُلَّمَا كَانَ الْإِيمَانُ بِالصِّفَاتِ أَكْمَلُ كَانَ هَذَا الْحُبُّ وَالْإِخْلَاصُ أَقْوَى .
فَعِبَارَةُ السَّلَفِ تَدُورُ حَوْلَ هَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ لَا تَتَجَاوَزُهَا ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ السَّوْءِ لِلْأَصْنَامِ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ ، وَلَا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا وَلَا لِعَابِدِيهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=75ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=76وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
[ ص: 167 ] فَهَذَانِ مَثَلَانِ ضَرَبَهُمَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِلْأَصْنَامِ : لِلْأَصْنَامِ مَثَلٌ بِالسَّوْءِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى .
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=74مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) فَهَذَا الْمَثَلُ الْأَعْلَى الَّذِي لَهُ سُبْحَانَهُ ، وَالْأَوَّلُ مَثَلُ السَّوْءِ لِلصَّنَمِ وَعَابِدِيهِ .
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُعَارِضِينَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَعُقُولِهِمْ بِمَثَلِ السَّوْءِ بِالْكَلْبِ تَارَةً ، وَبِالْحُمُرِ تَارَةً ، بِالْأَنْعَامِ تَارَةً ، وَبِأَهْلِ الْقُبُورِ تَارَةً ، وَبِالْعُمْيِ الصُّمِّ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْثَالِ السَّوْءِ الَّتِي ضَرَبَهَا لَهُمْ وَلِأَوْثَانِهِمْ ، وَأَخْبَرَ عَنْ مَثَلِهِ الْأَعْلَى بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ، وَضَرَبَ لِأَوْلِيَائِهِ وَعَابِدِيهِ أَحْسَنَ الْأَمْثَالِ ، وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ فَهِمَ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى وَمَثَلِ السَّوْءِ .
السَّادِسُ وَالثَلَاثُونَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ) فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28723الْحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=10وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ) ، وَقَالَ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=65فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) .
فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ ، يَقُولُ : كَيْفَ أَبْتَغِي حَكَمًا غَيْرَ اللَّهِ
[ ص: 168 ] وَقَدْ أَنْزَلَ كِتَابًا مُفَصَّلًا ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ، وَقَوْلُهُ : ( مُفَصَّلًا ) يُبَيِّنُ أَنَّ الْكِتَابَ الْحَاكِمَ مُفَصَّلٌ مُبَيَّنٌ ضِدَّ مَا يَصِفُهُ بِهِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ عُقُولَ الرِّجَالِ تُعَارِضُ بَعْضَ نُصُوصِهِ ، أَوْ أَنَّ نُصُوصَهُ خَلِيَتْ أَوْ أَفْهَمَتْ خِلَافَ الْحَقِّ لِمَصْلَحَةِ الْمُخَاطَبِ ، أَوْ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ لَا تُفْهَمُ وَلَا يُعْلَمُ الْمُرَادُ مِنْهَا ، أَوْ أَنَّ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ بَاطِلَةً ، خِلَافَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُهَا ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَيْسَ الْكِتَابُ عِنْدَهُمْ مُفَصَّلًا ، بَلْ مُجْمَلٌ مُؤَوَّلٌ ، وَلَا يُعْلَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ أَوْ إِفْهَامُ خِلَافِ الْحَقِّ ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) وَذَلِكَ أَنَّ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ مُصَدِّقٌ لِلْقُرْآنِ ، فَمَنْ نَظَرَ فِيهِ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ هَذَا وَهَذَا مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ ، لَا سِيَّمَا فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَالْأَسْمَاءِ ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمُبَدَّلُ الْمُحَرَّفُ الَّذِي أَنْكَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، بَلْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ وَصَدَّقَهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الصِّفَاتِ ; وَلَا عَابَهُمْ بِهِ ; وَلَا جَعَلَهُ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا وَتَمْثِيلًا ، كَمَا فَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ النُّفَاةِ ، وَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29434الْيَهُودُ أَئِمَّةُ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ ، وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَالَّذِي عَابَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَأْوِيلِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ يَعِبْهُمْ بِهِ
الْمُعَطِّلَةُ بَلْ شَارَكُوهُمْ فِيهِ ، وَالَّذِي اسْتَشْهَدَ اللَّهُ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مِنْ مُوَافَقَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ عَابُوهُمْ وَنَسَبُوهُمْ إِلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ ، وَهَذَا ضِدُّ مَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا لَهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ
الْمُعَطِّلَةُ تَجْسِيمًا وَتَشْبِيهًا صَدَّقَهُمْ عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ ، كَمَا صَدَّقَهُمْ فِي خَبَرِ الْخَبَرِ الَّذِي ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ وَضَحِكَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ ; وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ .
ثُمَّ قَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=115وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) فَمَا أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ صِدْقٌ وَمَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ .
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا فِي النُّصُوصِ مِنَ الْخَبَرِ فَهُوَ صِدْقٌ ، عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ بِهِ لَا نُعَارِضُهُ وَلَا نُعْرِضُ عَنْهُ ، وَمَنْ عَارَضَهُ بِعَقْلِهِ لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ ، وَلَوْ صَدَّقَهُ تَصْدِيقًا مُجْمَلًا ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ تَصْدِيقًا مُفَصَّلًا فِي أَعْيَانِ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَلَوْ أَقَرَّ بِلَفْظِهِ مَعَ جَحْدِ
[ ص: 169 ] مَعْنَاهُ أَوْ صَرَفَهُ إِلَى مَعَانٍ أُخَرَ غَيْرَ مَا أُرِيدَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا ، بَلْ هُوَ إِلَى التَّكْذِيبِ أَقْرَبُ .