الوجه الحادي والعشرون : أنكم فرقتم بين
nindex.php?page=treesubj&link=20986الحقيقة والمجاز بالاطراد وعدمه ، فقلتم : يعرف المجاز بعدم اطراده دون العكس ، أي لا يكون الاطراد دليل الحقيقة ، أو لا يلزم من وجود المجاز عدم الاطراد ، وعلى التقديرين فالعلامة يجب طردها ولا يجب عكسها ، وهذا الفرق غير مطرد ولا منعكس ، ونطالبكم قبل البيان بفساد الفرق بمعنى الاطراد الثابت للحقيقة ، والمنفي عن المجاز ما تعنون به أولا فالاطراد نوعان : اطراد سماعي ، واطراد قياسي ، فإن عنيتم الأول كان معناه ما اطرد السماع باستعماله في معناه فهو حقيقة ، وما لم يطرد السماع باستعماله فهو مجاز ، وهذا لا يفيد فرقا البتة ، فإن كل مسموع فهو مطرد في موارد استعماله ، وما لم يسمع فهو مطرد الترك ، فليس في السماع مطرد الاستمال وغير مطرده ، وإن عنيتم الاضطراد القياسي فاللغات لا تثبت قياسا إذ يكون ذلك إنشاء واختراعا ، ولو جاز المتكلم أن يقيس على المسموع ألفاظا يستعملها في خطابه نظما ونثرا لم يجز له أن يحمل كلام الله ورسوله وكلام العرب على ما قاسه على لغتهم ، فإن هذا كذب ظاهر على المتكلم بتلك الألفاظ أولا ، فإنه ينشئ من عنده قياسا يضع به ألفاظا لمعان بينها وبين تلك المعاني ، وهذا كثيرا ما تجده في كلام من يدعي التحقيق والنظر ، وهذا من أبطل الباطل ، القول به حرام ، وهو قول على الله ورسوله بلا علم .
وإن أردتم بالاطراد وعدمه اطراد الاشتقاق فيصدق اللفظ حيث وجد المعنى المشتق منه ، قيل لكم : الاشتقاق نوعان : وصفي لفظي ، وحكمي معنوي ( فالأول ) كاشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة ، وأمثاله المبالغة من مصادرها ( والثاني ) كاشتقاق الخابية من الخبء ، والقارورة من الاستقرار ، والنكاح من الضم ، ونظائر ذلك ، فإن أردتم بالاطراد النوع الأول فوجوده لا يدل على الحقيقة ، وعدمه لا يدل على المجاز .
أما الأول فلأنه يجري مجرى الألفاظ المجازية عندكم ، ولا سيما من قال : إن ضربت زيدا أو رأيته وأكلت وشربت مجاز ، فإنها مستعملة في غير ما وضعت له ، فإنها وضعت للمصادر المطلقة العامة ، فإذا استعملت في فرد من أفرادها فقد استعملت في غير موضعها ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني وغيره ، ومعلوم أن هذه
[ ص: 301 ] الألفاظ مطردة في مجاري استقاماتها ، فقد طرد المجاز فأين عدم الاطراد الذي هو فرق بين الحقيقة والمجاز .
وكذلك حقائق كثيرة من الأفعال لا تطرد ولا يشتق منها اسم فعل ولا مفعول ، ولا تدل على مصدر ، كالأفعال التي لا تتصرف ، مثل نعم وبئس ، وليس وحبذا وفعل التعجب .
وإن أردتم بالاطراد الاشتقاق الحكمي المعنوي ، فلا يدل عدم اطراده على المجاز إذ يلزم منه أن تكون الألفاظ المستعملة في موضوعاتها الأول مجازا كالخابئة والقارورة والبركة والنجم والمعدن وغيرها ، فإنها لم يطرد استعمالها فيما شاركها في أصل معناها .
فإن قلتم : منع المانع من الاطراد كما منع من اطراد الفاضل والسخي والعارف في حق الله تعالى ، قيل لكم : هذا دور ممتنع ، لأن عدم الاطراد حينئذ إنما يكون علامة المجاز إذا علم أنه المانع ، ولا يعلم أنه لمانع إلا بعد العلم بالمجاز ، وتقرير الدور أن يقال : عدم الطرد له موجب وليس موجبه الشرع ولا اللغة ، إذ التقدير بخلافه ، ولا العقل قطعا ، فتعين أن يكون موجب عدم الطرد كون اللفظ مجازا ، فيلزم الدور ضرورة .
الوجه الثاني والعشرون : تفريقكم بين الحقيقة والمجاز بجمع مفرديهما ، فإذا جمع الحقيقة على صفة ثم جمع ذلك اللفظ على صفة أخرى كان مجازا ، مثله لفظ الأمر فإنه يجمع إذا استعمل في القول المخصوص على أوامر ، ويجمع إذا استعمل في الفعل على أمور ، وهذا التفريق من أفسد شيء وأبطله ، فإن اللفظ يكون له عدة جموع باعتبار مفهوم واحد كشيخ مثلا ، فإنه يجمع على عدة جموع أنشدناها شيخنا
أبو عبد الله محمد ابن أبي الفتح البعلي ، قال : أنشدنا شيخنا
أبو عبد الله محمد بن مالك لنفسه :
شيخ شيوخ ومشيوخاء مشيخة شيخة شيخة شيخان أشياخ
وكذلك عبد فإنه يجمع على عبيد وعباد وعبدان وعبد ، وهذا أكثر من أن يذكر ، فإذا اختلفت صيغة الجمع باعتبار المدلول الواحد لم يدل اختلافها على خروج الفرد عن حقيقته ، فكيف يدل اختلافه مع تعدد المدلول على المجاز .
وأيضا فإن المشترك قد يختلف جمعه باختلاف مفهوماته ولا يدل ذلك على المجاز وأيضا فإنه ليس ادعاء كون أحدهما مجازا لمخالفة جمعه الآخر أولى من العكس .
[ ص: 302 ] فإن قلتم : بل إن علمنا أن أحدهما حقيقة علمنا أن الآخر الذي خالفه في صفة جمعه مجاز ، فحينئذ يكون اعتبار مخالفة الجمع لا فائدة فيه ، فإنا متى علمنا كون أحدهما حقيقة ، وأنه ليس مشتركا بينه وبين الآخر كان استعماله فيه مجازا ، فالحاصل أنه إن توقف ذلك على اختلاف الجمع لم يكن معرفا ، وإن لم يتوقف عليه لم يكن معرفا ، فلا يحصل به التفريق على التقديرين .
وأيضا فإن رأس مالكم في هذا التعريف هو لفظ أوامر ، وأمور ، فادعيتم أن أوامر جمع أمر القول ، وأمور جمع أمر الفعل ، وغركم في ذلك قول
الجوهري في الصحاح : تقول : أمرته أمرا وجمعه أوامر ، وهذا من إحدى غلطاته ، فإن هذا لا يعرف عند أهل العربية واللغة ، وفعل له جموع عديدة ليس منها فواعل البتة .
وقد اختلف طرق المتكلمين لتصحيح ذلك ، فقالت طائفة منهم : جمعوا أمرا على أأمر كأفلس ، ثم جمعوا هذا الجمع على أفاعل لا فواعل ، فكان أصلها أأمر فقلبوا الهمزة الثانية واوا كراهية النطق بالهمزتين ، فصار في هذا أوامر ، وفي هذا من التكلف ودعوى ما لم تنطق به العرب عليهم ما فيه ، فإن العرب لم يسمع منهم أأمر على أفعل البتة ، ولا أوامر أيضا فلم ينطقوا بهذا ولا هذا .
ولما علم هؤلاء أن هذا لا يتم في النواهي تكلفوا لها تكلفا آخر ، فقالوا : حملوها على نقيضها ، كما قالوا : الغدايا والعشايا ، وقالوا : قدم وحدث ، فضموا الدال من حدث حملا على قدم .
وقالت طائفة أخرى : بل أوامر ونواه جمع آمر وناه ، فسمي القول آمرا وناهيا توسعا ثم جمعوها على فواعل ، كما قالوا : فارس وفوارس ، وهالك وهوالك ، وهذا أيضا متكلف ، فإن فاعلا نوعان : صفة واسم ، فإن كان صفة لا يجمع على فواعل فلا يقال : قائم وقوائم ، وآكل وأواكل ، وضارب وضوارب ، وعابد وعوابد ، وإن كان اسما فإنه يجمع على فواعل نحو خاتم وخواتم ، وقد شذ فارس وفوارس ، وهالك وهوالك ، فجمعا على فواعل مع كونهما صفتين ، أما فارس فلعدم اللبس لأنه لا يتصف به المؤنث ، وأما هالك فقصدوا النفس وهي مؤنثة ، فهو في الحقيقة جمع هالكة ، فإنه فاعلة يجمع على فواعل بالأسماء والصفات كفاطمة وفواطم ، وعابدة وعوابد ، فسمعت هذا طائفة أخرى قالت : أوامر ونواه جمع آمرة وناهية ، أي كلمة أو وصية آمرة وناهية .
والتحقيق أن العرب سكتت عن جمع الأمر والنهي فلم ينطقوا لهما بجمع لأنها في
[ ص: 303 ] الأصل مصدر ، فالمصادر لا حظ لها في التثنية والجمع ( إلا إذا تعددت أنواعها ) والأمر والنهي وإن تعددت متعلقاتهما ومحالهما فحقيقتهما غير متعددة ، فتعدد المحال لا يوجب تعدد الصفة ، وقد منع
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه جمع العلم ولم يعتبر تعدد المعلومات فتبين بطلان هذا الفرق الذي اعتمدتم عليه من جميع الوجوه .
الوجه الثالث والعشرون : تفريقكم بين الحقيقة والمجاز بالتزام التقييد في أحد اللفظين كجناح الذل ونار الحرب ونحوهما فإن العرب لم تستعملهما إلا مقيدة ، وهذا الفرق من أفسد الفروق ، فإن كثيرا من الألفاظ التي لم تستعمل إلا في موضوعها قد التزموا تقييدها كالرأس والجناح واليد والساق والقدم ، فإنهم لم يستعملوا هذه الألفاظ وأمثالها إلا مقيدة بمحالها وما تضاف إليه ، كرأس الحيوان ورأس الماء ورأس المال ورأس الأمر .
وكذلك الجناح لم يستعملوه إلا مقيدا بما يضاف إليه ، كجناح الطائر وجناح الذل ، فإن أخذتم الجناح مطلقا مجردا عن الإضافة لم يكن مقيدا لمعناه الإفرادي أصلا فضلا عن أن يكون حقيقة أو مجازا ، وإن اعتبرتموه مضافا مقيدا فهو حقيقة فيما أضيف إليه ، فكيف يجعل حقيقة في مضاف ، مجازا في مضاف آخر ، ونسبته إلى هذا المضاف كنسبة الآخر إلى المضاف الآخر ، فجناح الملك حقيقة فيه ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=1جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) فمن قال : ليس للملك جناح حقيقة فهو كاذب مفتر ناف لما أثبته الله تعالى وإن قال : ليس له جناح من ريش ، قيل له : من جهلك اعتقادك أن الجناح الحقيقي هو ذو الريش وما عداه مجاز ، لأنك لم تألف إلا الجناح الريش .
وطرد هذا الجهل العظيم أن يكون كل لفظ أطلق على الملك وعلى البشر أن يكون مجازا في حق الملك كحياته وسمعه وبصره وكلامه ، فكيف بما أطلق على الرب سبحانه من الوجه واليدين والسمع والبصر والكلام والغضب والرضى والإرادة ، فإنها لا تماثل المعهود في المخلوق ، ولهذا قالت
الجهمية المعطلة إنها مجازات في حق الرب لا حقائق لها وهذا هو الذي حدانا على تحقيق القول في المجاز ، فإن أربابه ليس لهم فيه ضابط مطرد ولا منعكس ، وهم متناقضون غاية التناقض ، خارجون عن اللغة والشرع وحكم العقل إلى اصطلاح فاسد يفرقون به بين المتماثلين ، ويجمعون بين المختلفين ، فهذه فروقهم قد رأيت حالها وتبينت محالها ، يوضحه :
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّكُمْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ
nindex.php?page=treesubj&link=20986الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِالِاطِّرَادِ وَعَدَمِهِ ، فَقُلْتُمْ : يُعْرَفُ الْمَجَازُ بِعَدَمِ اطِّرَادِهِ دُونَ الْعَكْسِ ، أَيْ لَا يَكُونُ الِاطِّرَادُ دَلِيلَ الْحَقِيقَةِ ، أَوْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَجَازِ عَدَمُ الِاطِّرَادِ ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْعَلَامَةُ يَجِبْ طَرْدُهَا وَلَا يَجِبُ عَكْسُهَا ، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ ، وَنُطَالِبُكُمْ قَبْلَ الْبَيَانِ بِفَسَادِ الْفَرْقِ بِمَعْنَى الِاطِّرَادِ الثَّابِتِ لِلْحَقِيقَةِ ، وَالْمَنْفِيِّ عَنِ الْمَجَازِ مَا تَعْنُونَ بِهِ أَوَّلًا فَالِاطِّرَادُ نَوْعَانِ : اطِّرَادٌ سَمَاعِيٌّ ، وَاطِّرَادٌ قِيَاسِيٌّ ، فَإِنْ عَنَيْتُمُ الْأَوَّلَ كَانَ مَعْنَاهُ مَا اطَّرَدَ السَّمَاعُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ ، وَمَا لَمْ يَطَّرِدِ السَّمَاعُ بِاسْتِعْمَالِهِ فَهُوَ مَجَازٌ ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ فَرْقًا الْبَتَّةَ ، فَإِنَّ كُلَّ مَسْمُوعٍ فَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَمَا لَمْ يُسْمَعْ فَهُوَ مُطَّرِدُ التَّرْكِ ، فَلَيْسَ فِي السَّمَاعِ مُطَّرِدُ الِاسْتِمَالِ وَغَيْرُ مُطَّرِدِهِ ، وَإِنْ عَنَيْتُمُ الِاضْطِرَادَ الْقِيَاسِيَّ فَاللُّغَاتُ لَا تُثْبَتُ قِيَاسًا إِذْ يَكُونُ ذَلِكَ إِنْشَاءً وَاخْتِرَاعًا ، وَلَوْ جَازَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَقِيسَ عَلَى الْمَسْمُوعِ أَلْفَاظًا يَسْتَعْمِلُهَا فِي خِطَابِهِ نَظْمًا وَنَثْرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامَ الْعَرَبِ عَلَى مَا قَاسَهُ عَلَى لُغَتِهِمْ ، فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ أَوَّلًا ، فَإِنَّهُ يُنْشِئُ مِنْ عِنْدِهِ قِيَاسًا يَضَعُ بِهِ أَلْفَاظًا لِمَعَانٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَعَانِي ، وَهَذَا كَثِيرًا مَا تَجِدُهُ فِي كَلَامِ مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالنَّظَرَ ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ ، الْقَوْلُ بِهِ حَرَامٌ ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِلَا عِلْمٍ .
وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالِاطِّرَادِ وَعَدَمِهِ اطِّرَادَ الِاشْتِقَاقِ فَيَصْدُقُ اللَّفْظُ حَيْثُ وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقُّ مِنْهُ ، قِيلَ لَكُمُ : الِاشْتِقَاقُ نَوْعَانِ : وَصْفِيٌّ لَفْظِيٌّ ، وَحُكْمِيٌّ مَعْنَوِيٌّ ( فَالْأَوَّلُ ) كَاشْتِقَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ ، وَأَمْثَالُهُ الْمُبَالَغَةُ مِنْ مَصَادِرِهَا ( وَالثَّانِي ) كَاشْتِقَاقِ الْخَابِيَةِ مِنَ الْخَبْءِ ، وَالْقَارُورَةِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ ، وَالنِّكَاحِ مِنَ الضَّمِّ ، وَنَظَائِرِ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالِاطِّرَادِ النَّوْعَ الْأَوَّلَ فَوُجُودُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَعَدَمُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ عِنْدَكُمْ ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ قَالَ : إِنْ ضَرَبْتُ زَيْدًا أَوْ رَأَيْتُهُ وَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَجَازٌ ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ ، فَإِنَّهَا وُضِعَتْ لِلْمَصَادِرِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابْنُ جِنِّي وَغَيْرُهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ
[ ص: 301 ] الْأَلْفَاظَ مُطَّرِدَةٌ فِي مَجَارِي اسْتِقَامَاتِهَا ، فَقَدْ طُرِدَ الْمَجَازُ فَأَيْنَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ الَّذِي هُوَ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ .
وَكَذَلِكَ حَقَائِقُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا تُطَّرَدُ وَلَا يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ فِعْلٍ وَلَا مَفْعُولٍ ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى مَصْدَرٍ ، كَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ ، مِثْلَ نِعْمَ وَبِئْسَ ، وَلَيْسَ وَحَبَّذَا وَفِعْلِ التَّعَجُّبِ .
وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالِاطِّرَادِ الِاشْتِقَاقَ الْحُكْمِيَّ الْمَعْنَوِيَّ ، فَلَا يَدُلُّ عَدَمُ اطِّرَادِهِ عَلَى الْمَجَازِ إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي مَوْضُوعَاتِهَا الْأُوَلِ مَجَازًا كَالْخَابِئَةِ وَالْقَارُورَةِ وَالْبِرْكَةِ وَالنَّجْمِ وَالْمَعْدِنِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّهَا لَمْ يَطَّرِدِ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا شَارَكَهَا فِي أَصْلِ مَعْنَاهَا .
فَإِنْ قُلْتُمْ : مَنَعَ الْمَانِعُ مِنَ الِاطِّرَادِ كَمَا مَنَعَ مِنِ اطِّرَادِ الْفَاضِلِ وَالسَّخِيِّ وَالْعَارِفِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، قِيلَ لَكُمْ : هَذَا دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ ، لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَامَةَ الْمَجَازِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ الْمَانِعُ ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لِمَانِعٍ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَجَازِ ، وَتَقْرِيرُ الدَّوْرِ أَنْ يُقَالَ : عَدَمُ الطَّرْدِ لَهُ مُوجِبٌ وَلَيْسَ مُوجِبُهُ الشَّرْعَ وَلَا اللُّغَةَ ، إِذِ التَّقْدِيرُ بِخِلَافِهِ ، وَلَا الْعَقْلُ قَطْعًا ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُ عَدَمِ الطَّرْدِ كَوْنَ اللَّفْظِ مَجَازًا ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرَ ضَرُورَةٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : تَفْرِيقُكُمْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِجَمْعِ مُفْرَدَيْهِمَا ، فَإِذَا جَمَعَ الْحَقِيقَةَ عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ جَمَعَ ذَلِكَ اللَّفْظَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى كَانَ مَجَازًا ، مِثْلُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ عَلَى أَوَامِرَ ، وَيُجْمَعُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْفِعْلِ عَلَى أُمُورٍ ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ مِنْ أَفْسَدِ شَيْءٍ وَأَبْطَلِهِ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَكُونُ لَهُ عِدَّةُ جُمُوعٍ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومٍ وَاحِدٍ كَشَيْخٍ مَثَلًا ، فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى عِدَّةِ جُمُوعٍ أَنْشَدَنَاهَا شَيْخُنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ الْبَعْلِيُّ ، قَالَ : أَنْشَدَنَا شَيْخُنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ لِنَفْسِهِ :
شَيْخُ شُيُوخُ وَمَشْيُوخَاءُ مِشْيَخَةُ شِيَخَةُ شِيخَةُ شِيخَانُ أَشْيَاخُ
وَكَذَلِكَ عَبْدٌ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى عَبِيدٍ وَعِبَادٍ وَعُبْدَانٍ وَعُبُدٍ ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ لَمْ يَدُلَّ اخْتِلَافُهَا عَلَى خُرُوجِ الْفَرْدِ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، فَكَيْفَ يَدُلُّ اخْتِلَافُهُ مَعَ تَعَدُّدِ الْمَدْلُولِ عَلَى الْمَجَازِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ قَدْ يَخْتَلِفُ جَمْعُهُ بِاخْتِلَافِ مَفْهُومَاتِهِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ ادِّعَاءُ كَوْنِ أَحَدِهِمَا مَجَازًا لِمُخَالَفَةِ جَمْعِهِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ .
[ ص: 302 ] فَإِنْ قُلْتُمْ : بَلْ إِنْ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ عَلِمْنَا أَنَّ الْآخَرَ الَّذِي خَالَفَهُ فِي صِفَةِ جَمْعِهِ مَجَازٌ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اعْتِبَارُ مُخَالَفَةِ الْجَمْعِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، فَإِنَّا مَتَى عَلِمْنَا كَوْنَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ مَجَازًا ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْجَمْعِ لَمْ يَكُنْ مُعَرَّفًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُعَرَّفًا ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ رَأْسَ مَالِكُمْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ هُوَ لَفْظُ أَوَامِرَ ، وَأُمُورٍ ، فَادَّعَيْتُمْ أَنَّ أَوَامِرَ جَمْعُ أَمْرِ الْقَوْلِ ، وَأُمُورَ جَمْعُ أَمْرِ الْفِعْلِ ، وَغَرَّكُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ
الْجَوْهَرِيِّ فِي الصِّحَاحِ : تَقُولُ : أَمَرْتُهُ أَمْرًا وَجَمْعُهُ أَوَامِرَ ، وَهَذَا مِنْ إِحْدَى غَلَطَاتِهِ ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ ، وَفَعْلٌ لَهُ جُمُوعٌ عَدِيدَةٌ لَيْسَ مِنْهَا فَوَاعِلُ الْبَتَّةَ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ طُرُقُ الْمُتَكَلِّمِينَ لِتَصْحِيحِ ذَلِكَ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : جَمَعُوا أَمْرًا عَلَى أَأْمُرٍ كَأَفْلُسٍ ، ثُمَّ جَمَعُوا هَذَا الْجَمْعَ عَلَى أَفَاعِلَ لَا فَوَاعِلَ ، فَكَانَ أَصْلُهَا أَأْمِرٌ فَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ وَاوًا كَرَاهِيَةَ النُّطْقِ بِالْهَمْزَتَيْنِ ، فَصَارَ فِي هَذَا أَوَامِرُ ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَدَعْوَى مَا لَمْ تَنْطِقْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَيْهِمْ مَا فِيهِ ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمْ أَأْمُرٌ عَلَى أَفْعُلٍ الْبَتَّةَ ، وَلَا أَوَامِرُ أَيْضًا فَلَمْ يَنْطِقُوا بِهَذَا وَلَا هَذَا .
وَلَمَّا عَلِمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ فِي النَّوَاهِي تَكَلَّفُوا لَهَا تَكَلُّفًا آخَرَ ، فَقَالُوا : حَمَلُوهَا عَلَى نَقِيضِهَا ، كَمَا قَالُوا : الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا ، وَقَالُوا : قَدُمَ وَحَدُثَ ، فَضَمُّوا الدَّالَ مِنْ حَدُثَ حَمَلًا عَلَى قَدُمَ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : بَلْ أَوَامِرُ وَنَوَاهٍ جَمْعُ آمِرٍ وَنَاهٍ ، فَسُمِّيَ الْقَوْلُ آمِرًا وَنَاهِيًا تَوَسُّعًا ثُمَّ جَمَعُوهَا عَلَى فَوَاعِلَ ، كَمَا قَالُوا : فَارِسٌ وَفَوَارِسُ ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ ، وَهَذَا أَيْضًا مُتَكَلَّفٌ ، فَإِنَّ فَاعِلًا نَوْعَانِ : صِفَةٌ وَاسْمٌ ، فَإِنْ كَانَ صِفَةً لَا يُجْمَعُ عَلَى فَوَاعِلَ فَلَا يُقَالُ : قَائِمٌ وَقَوَائِمُ ، وَآكِلٌ وَأَوَاكِلُ ، وَضَارِبٌ وَضَوَارِبُ ، وَعَابِدٌ وَعَوَابِدُ ، وَإِنْ كَانَ اسْمًا فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى فَوَاعِلَ نَحْوَ خَاتَمٍ وَخَوَاتِمَ ، وَقَدْ شَذَّ فَارِسٌ وَفَوَارِسُ ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ ، فَجُمِعَا عَلَى فَوَاعِلَ مَعَ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ ، أَمَّا فَارِسٌ فَلِعَدَمِ اللَّبْسِ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ ، وَأَمَا هَالِكٌ فَقَصَدُوا النَّفْسَ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعُ هَالِكَةٍ ، فَإِنَّهُ فَاعِلَةٌ يُجْمَعُ عَلَى فَوَاعِلَ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَفَاطِمَةَ وَفَوَاطِمَ ، وَعَابِدَةٍ وَعَوَابِدَ ، فَسَمِعَتْ هَذَا طَائِفَةٌ أُخْرَى قَالَتْ : أَوَامِرُ وَنَوَاهٍ جَمْعُ آمِرَةٍ وَنَاهِيَةٍ ، أَيْ كَلِمَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ آمِرَةٍ وَنَاهِيَةٍ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعَرَبَ سَكَتَتْ عَنْ جَمْعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَمْ يَنْطِقُوا لَهُمَا بِجَمْعٍ لِأَنَّهَا فِي
[ ص: 303 ] الْأَصْلِ مَصْدَرٌ ، فَالْمَصَادِرُ لَا حَظَّ لَهَا فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ ( إِلَّا إِذَا تَعَدَّدَتْ أَنْوَاعُهَا ) وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مُتَعَلِّقَاتُهُمَا وَمَحَالُّهُمَا فَحَقِيقَتُهُمَا غَيْرُ مُتَعَدِّدَةٍ ، فَتَعَدُّدُ الْمَحَالِّ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الصِّفَةِ ، وَقَدْ مَنَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ جَمْعَ الْعِلْمِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ تَعَدُّدَ الْمَعْلُومَاتِ فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي اعْتَمَدْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : تَفْرِيقُكُمْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِالْتِزَامِ التَّقْيِيدِ فِي أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ كَجَنَاحِ الذُّلِّ وَنَارِ الْحَرْبِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُمَا إِلَّا مُقَيَّدَةً ، وَهَذَا الْفَرْقُ مِنْ أَفْسَدِ الْفُرُوقِ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَمْ تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي مَوْضُوعِهَا قَدِ الْتَزَمُوا تَقْيِيدَهَا كَالرَّأْسِ وَالْجَنَاحِ وَالْيَدِ وَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَأَمْثَالَهَا إِلَّا مُقَيِّدَةً بِمَحَالِّهَا وَمَا تُضَافُ إِلَيْهِ ، كَرَأْسِ الْحَيَوَانِ وَرَأْسِ الْمَاءِ وَرَأْسِ الْمَالِ وَرَأْسِ الْأَمْرِ .
وَكَذَلِكَ الْجَنَاحُ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ إِلَّا مُقَيَّدًا بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ ، كَجَنَاحِ الطَّائِرِ وَجَنَاحِ الذُّلِّ ، فَإِنْ أَخَذْتُمُ الْجَنَاحَ مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنِ الْإِضَافَةِ لَمْ يَكُنْ مُقَيِّدًا لِمَعْنَاهُ الْإِفْرَادِيِّ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا ، وَإِنِ اعْتَبَرْتُمُوهُ مُضَافًا مُقَيَّدًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي مُضَافٍ ، مَجَازًا فِي مُضَافٍ آخَرَ ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى هَذَا الْمُضَافِ كَنِسْبَةِ الْآخَرِ إِلَى الْمُضَافِ الْآخَرِ ، فَجَنَاحُ الْمَلَكِ حَقِيقَةٌ فِيهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=1جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) فَمَنْ قَالَ : لَيْسَ لِلْمَلَكِ جَنَاحٌ حَقِيقَةً فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ نَافٍ لِمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ قَالَ : لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ مِنْ رِيشٍ ، قِيلَ لَهُ : مِنْ جَهْلِكَ اعْتِقَادُكَ أَنَّ الْجَنَاحَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ ذُو الرِّيشِ وَمَا عَدَاهُ مَجَازٌ ، لِأَنَّكَ لَمْ تَأْلَفْ إِلَّا الْجَنَاحَ الرِّيشَ .
وَطَرْدُ هَذَا الْجَهْلِ الْعَظِيمِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ لَفْظٍ أُطْلِقَ عَلَى الْمَلَكِ وَعَلَى الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي حَقِّ الْمَلَكِ كَحَيَاتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ ، فَكَيْفَ بِمَا أُطْلِقَ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَى وَالْإِرَادَةِ ، فَإِنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْمَعْهُودَ فِي الْمَخْلُوقِ ، وَلِهَذَا قَالَتِ
الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ إِنَّهَا مَجَازَاتٌ فِي حَقِّ الرَّبِّ لَا حَقَائِقَ لَهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَدَانَا عَلَى تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي الْمَجَازِ ، فَإِنَّ أَرْبَابَهُ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ ضَابِطٌ مُطَّرِدٌ وَلَا مُنْعَكِسٌ ، وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ غَايَةَ التَّنَاقُضِ ، خَارِجُونَ عَنِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ إِلَى اصْطِلَاحٍ فَاسِدٍ يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، فَهَذِهِ فُرُوقُهُمْ قَدْ رَأَيْتُ حَالَهَا وَتَبَيَّنْتُ مُحَالَهَا ، يُوَضِّحُهُ :