فصل
ذوو الأرواح الذين يلحقهم اللذة والآلام أربعة أصناف : الإنس والجن والبهائم والملائكة ، عند من يقول : إن فيهم من يعصي ويعاقب
فأما الإنس والجن فالمكلفون منهم يحصل لهم بالطاعات والمعاصي لذات وآلام تناسبها ، وأما الأطفال والمجانين فنوعان : نوع يدخلون الجنة إما بطريق التبعية أو بعد التكليف يوم القيامة ، كما جاءت به الآثار ، فهؤلاء إذا حصل لهم آلام يسيرة منقطعة كانت مصلحة لهم ورحمة ونعمة في جنب ما ينالهم من السعادة العظيمة والنعيم المقيم ، فما ينالهم من الآلام يجري مجرى إيلام الأب الشفيق لولده الطفل ، بكى أو بط أو قطع سلعة يعقبه كمال عافية وانتفاعه بنفسه وحياته ، فهذا الإيلام محض الإحسان إليه وما يقدر من حصول النعيم واللذة في الجنة بدون هذه الآلام فهو نوع آخر غير النوع الحاصل بعد الآلام ، ولهذه كانت اللذة الحاصلة بالأكل والشرب بعد
[ ص: 240 ] شدة الجوع والظمأ أضعاف اللذة الحاصلة بدون ذلك ، وكذلك لذة الوصل بعد الهجران والبعاد المؤلم والشوق الشديد أعظم من اللذة الحاصلة بدونه ، ووجود الملزوم بدون لازمه محال ، ولا ريب أن لذة
آدم بعده إلى الجنة بعد أن خرج منها إلى دار التعب أعظم من اللذة التي كانت حاصلة له أولا .
وأما غير المكلفين من الحيوانات فقد يقال : إنه ما من حيوان إلا ويحصل له من اللذة والخير والنعيم ما هو أعظم مما يحصل له من الألم بأضعاف مضاعفة فإنه يلتذ بأكله وشربه ونومه وحركته وراحته وجماعه الأنثى ، وغير ذلك ، فنعيمه ولذته أضعاف ألمه ، وحينئذ فالأقسام الأربعة : إما أن يعطل الجميع بترك خلق الحيوان لئلا يحصل له الألم ، أو يخلق على نشأة لا يلحقه بها ألم ، أو على صفة لا ينال بها لذة ، أو على هذه الصفة والنشأة التي هو عليها .
فالقسم الأول ممتنع لمنافاته للحكمة ، فإنه يستلزم تعطيل الكثير والنفع العظيم لما يستلزمه من مفسدة قليلة كتعطيل الأمطار والثلوج والرياح والحر والبرد لما يتضمنه من الآلام ، ولا ريب أن الحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك فترك الخير الكثير لأجل ما فيه من الشر القليل شر كثير .
وأما القسم الثاني فكما أنه ممتنع في نفسه إذ من لوازم إنشائه في هذا العالم أن يكون عرضة للحر والبرد والجوع والعطش والكلال والتعب وغيرها ، فإنه منشأ من هذا العالم الذي مزج خيره بشره ، والمنشأ خير منه كذلك ، فالحكمة تأبى إنشاءه لذلك في هذا العالم الذي مزج رخاؤه بشدته ، وبلاؤه بعافيته ، وألمه بلذته ، وسروره بغمه وهمه ، فلو اقتضت الحكمة تخليص نوع الحيوان من ألمه لكان الإنسان الذي هو خلاصته وأفضله أولى بذلك ، ولو فعل ذلك سبحانه لفاته مصلحة العبرة والدلالة على الآلام العظيمة الدائمة في الدار الآخرة ، فإن الله تعالى أشهد عباده بما أعد لهم من أنواع اللذات والآلام في الدار الآخرة بما أذاقهم إياه في هذه الدار ، فاستدلوا بالشاهد على الغائب واشتاقوا بما باشروه من اللذات إلى ما وصف لهم هناك منها واحتموا بما ذاقوا من الآلام هاهنا عما وصف لهم منها هناك ، ولا ريب أن هذه المصلحة العظيمة أرجح من تفويتها بما فيها من المفسدة اليسيرة .
وأما القسم الثالث فلا ريب أنه مفسدة خالصة أو راجحة فلا تقتضيه حكمة الرب سبحانه ، ولا يكون إيجاده مصلحة ، فلم يبق إلا القسم الرابع وهو خلقه على هذه النشأة .
[ ص: 241 ] فإن قيل : فقد ظهرت الحكمة في إيلام غير المكلفين ،
nindex.php?page=treesubj&link=28787فتعذيب المكلفين على ذنوبهم كيف تستقيم الحكمة فيه على قولكم بأن الله تعالى خلقها فيهم فأين العدل في تعذيبهم على ما هو فاعله وخالقه فيهم ؟ وإنما يستقيم ذلك على قول
القدرية وأصولهم ، فإن العدل في ذلك ظاهر ، فإنه إنما يعذبهم على ما أحدثوه وكان بمشيئتهم و قدرتهم .
قيل : هذا السؤال لم يزل مطرقا بين العالم ، واختلف الناس فيه ، فطائفة أخرجت أفعالهم عن ملك الرب وقدرته ، وطائفة أنكرت الحكمة والتعليل وسدت باب السؤال ، وطائفة أثبتت كسبا لا يعقل ، جعلت الثواب والعقاب عليه ، وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين ، وطائفة التزمت الجبر وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه .
والجواب الصحيح عنه أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ، وإن كانت خلقا لله تعالى ، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها ، فالذنوب والأمراض التي يورث بعضها بعضا ، يبقى أن يقال في الكلام : فالذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب ؟ فيقال : هو عقوبة أيضا على عدم ما خلق له وفطر عليه ، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتألهه والإنابة إليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347251ما من مولود يولد إلا على الفطرة " ، وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347252يقول الله تعالى : " إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " ، وقد قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه ، عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فلأنه
[ ص: 242 ] صادف قلبا فارغا خاليا قابلا للخير والشر ، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن من الشر ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) ، وقال إبليس لعنه الله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=82قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=83إلا عبادك منهم المخلصين ) ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=41هذا صراط علي مستقيم nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) والإخلاص خلوص القلب من تأله من سوى الله وإرادته ومحبته ، فخلص لله ، فلم يتمكن الشيطان من إغوائه ، وأما إذا صادفه فارغا من ذلك تمكن منه بحسب فراغه وخلوه ، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة على عدم الإخلاص وهذا محض العدل .
فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه ؟ قلت : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به ، فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديا حتى يضاف إلى الفاعل ، بل هو شر محض ، والشر ليس إلى الرب تبارك وتعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347236لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس إليك " ، وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة يوم القيامة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347253يقول الله تعالى : يا محمد ، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس إليك " .
وقد أخبر تعالى أن تسلط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ، فلما تولوه دون الله وأشركوه معه عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الأولوية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص والإنابة العاصمة من ضدها ، فقد بين أن
nindex.php?page=treesubj&link=30513_19696إخلاص الدين يمنع من سلطان الشيطان ، لأن فعل السيئات التي توجب العذاب ، فإخلاص القلب لله مانع له من فعل ما يضاده ، وإلهامه البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة خلوه من الإخلاص .
فإن قلت : هذا الترك إن كان أمرا وجوديا عاد السؤال : وإن كان أمرا عدميا فكيف يعاقب على العدم ؟ قلت : ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه فهذا
[ ص: 243 ] قد يقال : إنه أمر وجودي ، وإنما هنا عدم وخلو عن أسباب الخير ، وهذا العدم ليس بكف للنفس ومنع لها عما تريده وتحبه ، بل هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها ، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل ، فلله سبحانه عقوبتان : إحداهما جعله خاطئا مذنبا لا يحس بألمها ومضرتها لموافقتها شهوته وإدارته ، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات ، والثانية : العقوبات المؤلمة بعد فعله السيئات ، وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) فهذه العقوبة الأولى ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ) فهذه العقوبة الثانية .
وأعط هذا الموضع حقه من التأمل ، وانظر كيف ترتبت هاتان العقوبتان إحداهما على الأخرى ، لكن العقوبة الأولى عقوبة موافقة لهواه وإرادته ، والثانية مخالفة لما يحبه ويتلذذ به ، وتأمل عدل الرب تعالى في هذه وهذه ، وأنه سبحانه إنما وضع العقوبة في محلها الأولى بها الذي لا يليق بها غيره ، وهذا أمر لو لم تشهده القلوب وتعرفه لما جاز أن ينسب إلى الله تعالى سواه ، ولا يظن به غيره ، فإنه من ظن السوء بمن يتعالى ويتقدس عن كل سوء وعيب .
فإن قلت : هل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له ، أو ذلك محض جعله في قلوبهم ؟ قلت : لا ، بل هو محض منته وفعله ، وهو من أعظم الخير الذي هو في يده ، فالخير كله في يديه ، ولا يقدر أحدنا أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه .
فإن قلت : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم عاد السؤال ، وكان منعهم منه ظلما ، ولزمك القول بأن العدل هو تصرف الملك في ملكه ؟ قيل : لا يكون بمنعه سبحانه لهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك الغير عليه ، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه ، وأما منع غيره ما ليس حقا محض فضله ومنته عليه لم يكن ظالما بمنعه .
فإن قلت : فإذا كان العطاء والبذل والتوفيق إحسانا ورحمة وفضلا ، فهلا كانت
[ ص: 244 ] الغلبة له ، كما أن "
nindex.php?page=treesubj&link=32491رحمته تغلب غضبه " قيل : المقصود من هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة ليس بظلم ، وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ، وهلا ساوى بين العباد في الفضل ، وهذا السؤال حاصله : لم تفضل على هذا ولم يتفضل على هذا ؟ وقد تولى سبحانه الجواب عنه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، وليس في الحكمة إطلاع فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه ، وتأمل أحوال محال ذلك ، واستدل بما علمه على ما لم يعلمه ، وتيقن أن مصدر ما علم وما لم يعلمه لحكمة بالغة لا توزن بعقول المخلوقين ، فقد وفق للصواب .
ولما استشكل المشركون هذا التخصيص قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) فقال لهم الله مجيبا لهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ، وهذا جواب شاف كاف ، وفي ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر من المحل الذي لا يصلح لغرسها ، فلو كرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124الله أعلم حيث يجعل رسالته )
فَصْلٌ
ذَوُو الْأَرْوَاحِ الَّذِينَ يَلْحَقُهُمُ اللَّذَّةُ وَالْآلَامُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ : الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْبَهَائِمُ وَالْمَلَائِكَةُ ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْصِي وَيُعَاقَبُ
فَأَمَّا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ فَالْمُكَلَّفُونَ مِنْهُمْ يَحْصُلُ لَهُمْ بِالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي لِذَّاتٍ وَآلَامٍ تُنَاسِبُهَا ، وَأَمَّا الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِمَّا بِطْرِيقِ التَّبَعِيَّةِ أَوْ بَعْدَ التَّكْلِيفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا حَصَلَ لَهُمُ آلامٌ يَسِيرَةٌ مُنْقَطِعَةٌ كَانَتْ مَصْلَحَةً لَهُمْ وَرَحْمَةً وَنِعْمَةً فِي جَنْبِ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ الْعَظِيمَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، فَمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْآلَامِ يَجْرِي مَجْرَى إِيلَامِ الْأَبِ الشَّفِيقِ لِوَلَدِهِ الطِّفْلِ ، بَكَى أَوْ بَطَّ أَوْ قَطَعَ سَلْعَةً يَعْقُبُهُ كَمَالُ عَافِيَةٍ وَانْتِفَاعُهُ بِنَفْسِهِ وَحَيَاتِهِ ، فَهَذَا الْإِيلَامُ مَحْضُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَمَا يُقَدَّرُ مِنْ حُصُولِ النَّعِيمِ وَاللَّذَّةِ فِي الْجَنَّةِ بِدُونِ هَذِهِ الْآلَامِ فَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ غَيْرُ النَّوْعِ الْحَاصِلِ بَعْدَ الْآلَامِ ، وَلِهَذِهِ كَانَتِ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ
[ ص: 240 ] شِدَّةِ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ أَضْعَافُ اللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ بِدُونِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَذَّةُ الْوَصْلِ بَعْدَ الْهُجْرَانِ وَالْبِعَادِ الْمُؤْلِمِ وَالشَّوْقِ الشَّدِيدِ أَعْظَمُ مِنَ اللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ بِدُونِهِ ، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ مُحَالٌ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَذَّةَ
آدَمَ بَعْدَهُ إِلَى الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى دَارِ التَّعَبِ أَعْظَمُ مِنَ اللَّذَّةِ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُ أَوَّلًا .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ فَقَدْ يُقَالُ : إِنَّهُ مَا مِنْ حَيَوَانٍ إِلَّا وَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ وَالنَّعِيمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَلَمِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ فَإِنَّهُ يَلْتَذُّ بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ وَحَرَكَتِهِ وَرَاحَتِهِ وَجِمَاعِهِ الْأُنْثَى ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَنَعِيمُهُ وَلَذَّتُهُ أَضْعَافُ أَلَمِهِ ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ : إِمَّا أَنْ يُعَطَّلَ الْجَمِيعُ بِتَرْكِ خَلْقِ الْحَيَوَانِ لِئَلَّا يَحْصُلَ لَهُ الْأَلَمُ ، أَوْ يُخْلَقَ عَلَى نَشْأَةٍ لَا يَلْحَقُهُ بِهَا أَلَمٌ ، أَوْ عَلَى صِفَةٍ لَا يَنَالُ بِهَا لَذَّةً ، أَوْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَالنَّشْأَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا .
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِمُنَافَاتِهِ لِلْحِكْمَةِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْكَثِيرِ وَالنَّفْعَ الْعَظِيمَ لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ مَفْسَدَةٍ قَلِيلَةٍ كَتَعْطِيلِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَالرِّيَاحِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْآلَامِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْمَصْلَحَةَ تَأْبَى ذَلِكَ فَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَكَمَا أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ إِذْ مِنْ لَوَازِمِ إِنْشَائِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ عُرْضَةً لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْكَلَالِ وَالتَّعَبِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّهُ مُنْشَأٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي مُزِجَ خَيْرُهُ بِشَرِّهِ ، وَالْمَنْشَأُ خَيْرٌ مِنْهُ كَذَلِكَ ، فَالْحِكْمَةُ تَأْبَى إِنْشَاءَهُ لِذَلِكَ فِي هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي مُزِجَ رَخَاؤُهُ بِشِدَّتِهِ ، وَبَلَاؤُهُ بِعَافِيَتِهِ ، وَأَلَمُهُ بِلَذَّتِهِ ، وَسُرُورُهُ بِغَمِّهِ وَهَمِّهِ ، فَلَوِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَخْلِيصَ نَوْعِ الْحَيَوَانِ مِنْ أَلَمِهِ لَكَانَ الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ خُلَاصَتُهُ وَأَفْضَلُهُ أَوْلَى بِذَلِكَ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ لَفَاتَهُ مَصْلَحَةُ الْعِبْرَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْآلَامِ الْعَظِيمَةِ الدَّائِمَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشْهَدَ عِبَادَهُ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِمَا أَذَاقَهُمْ إِيَّاهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَاسْتَدَلُّوا بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ وَاشْتَاقُوا بِمَا بَاشَرُوهُ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَى مَا وُصِفَ لَهُمْ هُنَاكَ مِنْهَا وَاحْتَمَوْا بِمَا ذَاقُوا مِنَ الْآلَامِ هَاهُنَا عَمَّا وُصِفَ لَهُمْ مِنْهَا هُنَاكَ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ الْعَظِيمَةَ أَرْجَحُ مِنْ تَفْوِيتِهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَفْسَدَةٌ خَالِصَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ فَلَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ ، وَلَا يَكُونُ إِيجَادُهُ مَصْلَحَةً ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَسَمُ الرَّابِعُ وَهُوَ خَلْقُهُ عَلَى هَذِهِ النَّشْأَةِ .
[ ص: 241 ] فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ فِي إِيلَامِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28787فَتَعْذِيبُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ كَيْفَ تَسْتَقِيمُ الْحِكْمَةُ فِيهِ عَلَى قَوْلِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا فِيهِمْ فَأَيْنَ الْعَدْلُ فِي تَعْذِيبِهِمْ عَلَى مَا هُوَ فَاعِلُهُ وَخَالِقُهُ فِيهِمْ ؟ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ
الْقَدَرِيَّةِ وَأُصُولِهِمْ ، فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا أَحْدَثُوهُ وَكَانَ بِمَشِيئَتِهِمْ وَ قُدْرَتِهِمْ .
قِيلَ : هَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَزَلْ مُطْرَقًا بَيْنَ الْعَالَمِ ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، فَطَائِفَةٌ أَخْرَجَتْ أَفْعَالَهُمْ عَنْ مُلْكِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ ، وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الْحِكْمَةَ وَالتَّعْلِيلَ وَسَدَّتْ بَابَ السُّؤَالِ ، وَطَائِفَةٌ أَثْبَتَتْ كَسْبًا لَا يُعْقَلُ ، جَعَلَتِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ ، وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتْ لِأَجْلِهِ وُقُوعَ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ ، وَمَفْعُولٍ بَيْنَ فَاعِلَيْنِ ، وَطَائِفَةٌ التَّزَمَتِ الْجَبْرَ وَأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى ذُنُوبٍ قَبْلَهَا ، فَالذَّنْبُ يُكْسِبُ الذَّنْبَ ، وَمِنْ عِقَابِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا ، فَالذُّنُوبُ وَالْأَمْرَاضُ الَّتِي يُورِثُ بَعْضَهَا بَعْضًا ، يَبْقَى أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ : فَالذَّنْبُ الْأَوَّلُ الْجَالِبُ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الذُّنُوبِ ؟ فَيُقَالُ : هُوَ عُقُوبَةٌ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَفَطَرَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347251مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ " ، وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347252يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : " إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا " ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي ، فَلِأَنَّهُ
[ ص: 242 ] صَادَفَ قَلْبًا فَارِغًا خَالِيًا قَابِلًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْخَيْرُ الَّذِي يَمْنَعُ ضِدَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الشَّرِّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) ، وَقَالَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=82قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=83إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=41هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) وَالْإِخْلَاصُ خُلُوصُ الْقَلْبِ مَنْ تَأَلُّهِ مَنْ سِوَى اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، فَخَلَصَ لِلَّهِ ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الشَّيْطَانُ مِنْ إِغْوَائِهِ ، وَأَمَّا إِذَا صَادَفَهُ فَارِغًا مِنْ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِحَسْبِ فَرَاغِهِ وَخُلُوِّهِ ، فَيَكُونُ جَعْلُهُ مُذْنِبًا مُسِيئًا فِي هَذِهِ الْحَالِ عُقُوبَةً عَلَى عَدَمِ الْإِخْلَاصِ وَهَذَا مَحْضُ الْعَدْلِ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَذَلِكَ الْعَدَمُ مَنْ خَلَقَهُ فِيهِ ؟ قُلْتُ : هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ ، فَإِنَّ الْعَدَمَ كَاسْمِهِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعَلُّقِ التَّكْوِينِ وَالْإِحْدَاثِ بِهِ ، فَإِنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُضَافَ إِلَى الْفَاعِلِ ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347236لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ " ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347253يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا مُحَمَّدُ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ " .
وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنْ تَسَلُّطَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ، فَلَمَّا تَوَلَّوْهُ دُونَ اللَّهِ وَأَشْرَكُوهُ مَعَهُ عُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةُ وَالْإِشْرَاكُ عُقُوبَةَ خُلُوِّ الْقَلْبِ وَفَرَاغِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ الْعَاصِمَةِ مِنْ ضِدِّهَا ، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30513_19696إِخْلَاصَ الدِّينِ يَمْنَعُ مِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ ، لِأَنَّ فِعْلَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُوجِبُ الْعَذَابَ ، فَإِخْلَاصُ الْقَلْبِ لِلَّهِ مَانِعٌ لَهُ مِنْ فِعْلِ مَا يُضَادُّهُ ، وَإِلْهَامُهُ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى ثَمَرَةُ هَذَا الْإِخْلَاصِ وَنَتِيجَتُهُ ، وَإِلْهَامُ الْفُجُورِ عُقُوبَةُ خُلُوِّهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ .
فَإِنْ قُلْتَ : هَذَا التَّرْكُ إِنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا عَادَ السُّؤَالُ : وَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَى الْعَدَمِ ؟ قُلْتُ : لَيْسَ هُنَا تَرْكٌ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ وَمَنْعُهَا عَمَّا تُرِيدُهُ وَتُحِبُّهُ فَهَذَا
[ ص: 243 ] قَدْ يُقَالُ : إِنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ ، وَإِنَّمَا هُنَا عَدَمٌ وَخُلُوٌّ عَنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ ، وَهَذَا الْعَدَمُ لَيْسَ بِكَفٍّ لِلنَّفْسِ وَمَنْعٍ لَهَا عَمَّا تُرِيدُهُ وَتُحِبُّهُ ، بَلْ هُوَ مَحْضُ خُلُوِّهَا مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لَهَا ، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى الْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ هِيَ بِفِعْلِ السِّيئَاتِ لَا بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَنَالُهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرُّسُلِ ، فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ عُقُوبَتَانِ : إِحْدَاهُمَا جَعْلُهُ خَاطِئًا مُذْنِبًا لَا يُحِسُّ بِأَلَمِهَا وَمَضَرَّتِهَا لِمُوَافَقَتِهَا شَهْوَتَهُ وَإِدَارَتَهُ ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ ، وَالثَّانِيَةُ : الْعُقُوبَاتُ الْمُؤْلِمَةُ بَعْدَ فِعْلِهِ السَّيِّئَاتِ ، وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الْأُولَى ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ) فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الثَّانِيَةُ .
وَأَعْطِ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّهُ مِنَ التَّأَمُّلِ ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَرَتَّبَتْ هَاتَانِ الْعُقُوبَتَانِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، لَكِنَّ الْعُقُوبَةَ الْأُولَى عُقُوبَةٌ مُوَافِقَةٌ لِهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ ، وَالثَّانِيَةَ مُخَالِفَةٌ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَتَلَذَّذُ بِهِ ، وَتَأَمَّلْ عَدْلَ الرَّبِّ تَعَالَى فِي هَذِهِ وَهَذِهِ ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا وَضَعَ الْعُقُوبَةَ فِي مَحَلِّهَا الْأَوْلَى بِهَا الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهَا غَيْرُهُ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَوْ لَمْ تَشْهَدْهُ الْقُلُوبُ وَتَعْرِفْهُ لَمَا جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سِوَاهُ ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ غَيْرُهُ ، فَإِنَّهُ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ بِمَنْ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَعَيْبٍ .
فَإِنْ قُلْتَ : هَلْ كَانَ يُمَكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَجْعَلَهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ ، أَوْ ذَلِكَ مَحْضُ جَعْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ ؟ قُلْتُ : لَا ، بَلْ هُوَ مَحْضُ مِنَّتِهِ وَفِعْلِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ ، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْهِ ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدُنَا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ ، وَلَا يَتَّقِي مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَا وَقَاهُ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَإِذَا لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يُوَفَّقُوا لَهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمْ عَادَ السُّؤَالُ ، وَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْهُ ظُلْمًا ، وَلَزِمَكَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ تَصَرُّفُ الْمَلِكِ فِي مُلْكِهِ ؟ قِيلَ : لَا يَكُونُ بِمَنْعِهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ظَالِمًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَانِعُ ظَالِمًا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ حَقًّا لِذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ الرَّبُّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَمَّا مَنْعُ غَيْرِهِ مَا لَيْسَ حَقًّا مَحْضُ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ وَالْبَذْلُ وَالتَّوْفِيقُ إِحْسَانًا وَرَحْمَةً وَفَضْلًا ، فَهَلَّا كَانَتْ
[ ص: 244 ] الْغَلَبَةُ لَهُ ، كَمَا أَنَّ "
nindex.php?page=treesubj&link=32491رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ " قِيلَ : الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى هَذَا الْمَنْعِ ، وَالْمَنْعُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعُقُوبَةِ لَيْسَ بِظُلْمٍ ، وَهَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ تَقْدِيمَ الْعَدْلِ عَلَى الْفَضْلِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِ ، وَهَلَّا سَاوَى بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْفَضْلِ ، وَهَذَا السُّؤَالُ حَاصِلُهُ : لِمَ تَفَضَّلَ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَى هَذَا ؟ وَقَدْ تَوَلَّى سُبْحَانَهُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ، وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ إِطْلَاعُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ عَلَى كَمَالِ حِكْمَتِهِ فِي عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ ، بَلْ إِذَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَةِ الْعَبْدِ حَتَّى أَبْصَرَ طَرَفًا يَسِيرًا مِنْ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ ، وَتَأَمَّلَ أَحْوَالَ مَحَالِّ ذَلِكَ ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا عَلِمَهُ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ ، وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَصْدَرَ مَا عَلِمَ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا تُوزَنُ بِعُقُولِ الْمَخْلُوقِينَ ، فَقَدْ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ .
وَلَمَّا اسْتَشْكَلَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا التَّخْصِيصَ قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ) فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُجِيبًا لَهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) ، وَهَذَا جَوَابٌ شَافٍ كَافٍ ، وَفِي ضِمْنِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِغَرْسِ شَجَرَةِ النِّعْمَةِ فَتُثْمِرُ بِالشُّكْرِ مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِغَرْسِهَا ، فَلَوْ كَرِّسَتْ فِيهِ لَمْ تُثْمِرْ ، فَكَانَ غَرْسُهَا هُنَاكَ ضَائِعًا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )