الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وحكم المهر والرجوع في هذه المسائل نذكره في المسألة التي تليها وهي ما إذا تزوج صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة أما حكم النكاح فقد حرمتا عليه ; لأن الصغيرة صارت بنتا لها والجمع بين الأم والبنت من الرضاع نكاحا حرام كما يحرم من النسب ثم إن كان ذلك بعد ما دخل بالكبيرة ; لا يجوز له أن يتزوج واحدة منهما أبدا كما في النسب وإن كان قبل أن يدخل بالكبيرة ; جاز له أن يتزوج الصغيرة ; لأنها ربيبته من الرضاع لم يدخل بأمها فلا يحرم عليه نكاحها كما في النسب ولا يجوز له أن يتزوج الكبيرة أبدا ; لأنها أم منكوحته من الرضاع فتحرم بمجرد نكاح البنت دخل بها أو لم يدخل بها كما في النسب .

                                                                                                                                وأما حكم المهر فأما الكبيرة فإن كان قد دخل بها فلها جميع مهرها سواء تعمدت الفساد أو لم تتعمد ; لأن المهر قد تأكد بالدخول فلا يحتمل السقوط بعد ذلك فلها مهرها ولها السكنى ولا نفقة لها ; لأن السكنى حق الله تعالى فلا تسقط بفعلها ، والنفقة تجب حقا لها بطريقة الصلة وبالإرضاع خرجت عن استحقاق الصلة فإن كان لم يدخل بها سقط مهرها فلا مهر لها ولا سكنى ولا نفقة سواء تعمدت الفساد أو لم تتعمد ; لأن الأصل أن الفرقة الحاصلة قبل الدخول توجب سقوط كل المهر ; لأن المبدل يعود سليما إلى المرأة وسلامة المبدل لأحد المتعاقدين يوجب سلامة البدل للآخر لئلا يجتمع المبدل والبدل في ملك واحد في عقد المبادلة .

                                                                                                                                كان ينبغي أن لا يجب على الزوج شيء سواء كانت الفرقة بغير طلاق أو بطلاق إلا أن الشرع أوجب عليه في الطلاق قبل الدخول مالا مقدرا بنصف المهر المسمى ابتداء بطريق المتعة صلة لها تطييبا لقلبها لما لحقها من وحشة الفراق بفوات نعمة الزوجية عنها من غير رضاها فإذا أرضعت فقد رضيت بارتفاع النكاح فلا تستحق شيئا .

                                                                                                                                وأما الصغيرة فلها نصف المهر على الزوج عند عامة العلماء وقال مالك لا شيء لها ، وجه قوله أن الفرقة جاءت من قبلها لوجود علة الفرقة منها وهي ارتضاعها ; لأنه بذلك يحصل اللبن في جوفها فينبت اللحم وينشز العظم فتحصل الجزئية التي هي المعنى المؤثر في الحرمة ، وإنما الموجود من المرضعة التمكين من ارتضاعها بإلقامها ثديها فكانت محصلة للشرط والحكم للعلة لا للشرط فلا يجب على الزوج للصغيرة شيء ولا يجب على الزوج للمرضعة شيء أيضا ولنا ما ذكرنا أن الفرقة من أيهما كانت توجب سقوط كل المهر لما ذكرنا وإنما يجب نصف المهر مقدرا بالمسمى ابتداء صلة للمرأة نظرا لها ولم يوجد من الصغيرة ما يوجب خروجها عن استحقاق النظر ; لأن فعلها لا يوصف بالخطر ، وليست هي من أهل الرضا لنجعل فعلها دلالة الرضا بارتفاع النكاح فلا تحرم نصف الصداق بخلاف الكبيرة ; لأن إقدامها على الإرضاع دلالة الرضا بارتفاع النكاح ، وهي من أهل الرضا ، وإرضاعها جناية فلا تستحق النظر بإيجاب نصف المهر لها ابتداء ; إذ الجاني لا يستحق النظر على جنايته بل يستحق الزجر وذلك بالحرمان [ ص: 12 ] لئلا يفعل مثله في المستقبل فلا يجب لها شيء سواء تعمدت الفساد أو لم تتعمد ; لأن فعلها جناية في الحالين ويرجع الزوج بما أدى على الكبيرة إن كانت تعمدت الفساد وإن كانت لم تتعمد لم يرجع عليها كذا ذكر المشايخ وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف .

                                                                                                                                وروي عن محمد أن له أن يرجع عليها سواء تعمدت الفساد أو لم تتعمد وهو قول زفر وبشر المريسي والشافعي ، وجه قولهم أن هذا ضمان الإتلاف وأنه لا يختلف بالعمد والخطأ والدليل على أن هذا ضمان الإتلاف أن الفرقة حصلت من قبلها بإرضاعها ولهذا لم تستحق المهر أصلا ورأسا سواء تعمدت الفساد أو لم تتعمد ، وإذا كان حصول الفرقة من قبلها بإرضاعها صارت بالإرضاع مؤكدة نصف المهر على الزوج ; لأنه كان محتملا للسقوط بردتها أو تمكينها من ابن الزوج أو تقبيلها إذا كبرت فهي بالإرضاع أكدت نصف المهر بحيث لا يحتمل السقوط فصارت متلفة عليه ماله فتضمن ، وجه قول محمد أنها وإن تعمدت الفساد فهي صاحبة شرط في ثبوت الفرقة ; لأن علة الفرقة هي الارتضاع للصغيرة لما بينا والحكم يضاف إلى العلة لا إلى الشرط على أن إرضاعها إن كان سبب الفرقة فهو سبب محض ; لأنه طرأ عليه فعل اختياري وهو ارتضاع الصغيرة والسبب إذا اعترض عليه فعل اختياري يكون سببا محضا ، والسبب المحض لا حكم له وإن كان صاحب السبب متعمدا في مباشرة السبب كفتح باب الإصطبل والقفص حتى خرجت الدابة وضلت أو طار الطير وضاع ; ولأن الضمان لو وجب عليها إما أن يجب بإتلاف ملك النكاح أو بإتلاف الصداق أو بتأكيد نصفه على الزوج لا وجه للأول ; لأن ملك النكاح غير مضمون بالإتلاف على أصلنا ولا وجه للثاني ; لأنها ما أتلفت الصداق بل أسقطت نصفه والنصف الباقي بقي واجبا بالنكاح السابق ولا وجه للثالث ; لأن التأكيد لا يماثل التفويت فلا يكون اعتداء بالمثل ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن الكبيرة وإن كانت محصلة شرط الفرقة ، وعلة الفرقة من الصغيرة كما ذكره محمد لكن الأصل أن الشرط مع العلة إذا اشتركا في الحظر والإباحة أي في سبب المؤاخذة وعدمه فإضافة الحكم إلى العلة أولى من إضافته إلى الشرط فأما إذا كان الشرط محظورا والعلة غير موصوفة بالحظر فإضافة الحكم إلى الشرط أولى من إضافته إلى العلة كما في حق البئر على قارعة الطريق فالكبيرة إذا لم تكن تعمدت الفساد فقد استوى الشرط والعلة في عدم الحظر فكانت الفرقة مضافة إلى العلة وهي ارتضاعها وإن كانت تعمدت الفساد ; كان الشرط محظورا وهو إرضاع الكبيرة والعلة غير موصوفة بالحظر وهي ارتضاع الصغيرة فكان إضافة الحكم إلى الشرط أولى وإذا أضيفت الفرقة إلى الكبيرة عند تعمدها الفساد ووجب نصف المهر للصغيرة على الزوج ابتداء ملازما للفرقة ; صارت الفرقة الحاصلة منها كأنها علة لوجوبه لا أنه بقي النصف بعد الفرقة واجبا بالنكاح السابق ; لأن ذلك قول بتخصيص العلة ; لأنه قول ببقاء نصف المهر على وجود العلة المسقطة لكله وإنه باطل فصارت الكبيرة متلفة هذا القدر من المال على الزوج ; إذ الأداء مبني على الوجوب فيثبت له حق الرجوع عليها ولهذا المعنى وجب الضمان على شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا بالإجماع بخلاف ما إذا لم تتعمد الفساد ; لأن عند عدم التعمد لا تكون الفرقة مضافة إلى فعل الكبيرة فلم يوجد منها علة وجوب نصف المهر على الزوج فلا يرجع عليها .

                                                                                                                                وأما مسألة فتح باب الإصطبل والقفص فكما يلزمها يلزم محمدا لأن عنده يضمن الفاتح وإن اعترض على الفتح فعلا اختياريا ; فقد خرج الجواب عن الباقي فافهم ثم تعمد الفساد يثبت بثلاثة أشياء : بعلمها بنكاح الصغيرة ، وعلمها بفساد النكاح بإرضاعها وعدم الضرورة وهي ضرورة خوف الهلاك على الصغيرة لو لم ترضعها ، والقول قولها في أنها لم تتعمد الفساد مع يمينها ; لأن الزوج بدعوى تعمد الفساد يدعي عليها الضمان وهي تنكر فكان القول قولها وعلى هذا حكم المهر والرجوع في المسائل المتقدمة من الاتفاق والاختلاف .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية