الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما إذا مات أحد الشريكين فإن مات المعتق فلا يخلو إما أن يكون الإعتاق منه في حال صحته وإما أن يكون في حال مرضه ، فإن كان في حال صحته يؤخذ نصف قيمة العبد من تركته بلا خلاف ، وإن كان في حال مرضه لم يضمن شيئا حتى لا يؤخذ من تركته ، وهذا قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ومحمد : يستوفي الشريك من ماله قيمة نصيبه وهذا مبني على الأصل الذي ذكرنا أن الإعتاق لا يتجزأ عندهما ، وعنده يتجزأ ووجه البناء على هذا الأصل أن الإعتاق لما لم يكن متجزئا عندهما ، كان ضمان العتق ضمان إتلاف ، وضمان الإتلاف لا يختلف بالصحة والمرض ، ولما كان متجزئا عنده كان المعتق متصرفا في ملك نفسه على طريق الاقتصار ومثل هذا لا يوجب الضمان في أصول الشرع ، ولهذا لو كان معسرا لا يجب الضمان ولو كان إعتاقه إتلافا أو إفسادا لنصيب شريكه معنى لوجب الضمان ; لأن ضمان الإتلاف لا يختلف باليسار والإعسار ، إلا أنا عرفنا وجوب الضمان بالنص ، وأنه ورد في حال اليسار المطلق وذلك في حالة الصحة ; لأنها حال خلوص أمواله ، وفي مرض الموت يتعلق بها حق الورثة حتى لا يصح إقراره للورثة أصلا ولا يصح تبرعه على الأجنبي إلا من الثلث ولا تصح كفالته ولا إعتاقه إلا من الثلث فلم يكن حال المرض حال يسار مطلق ولا ملك ، فبقي الأمر فيها على أصل القياس ; ولأن ضمان العتق ضمان صلة وتبرع لوجوبه من غير صنع من جهة المعتق في نصيب الشريك ، ألا ترى أنه لا يجب على المعسر ، والصلات إذا لم تكن مقبوضة تسقط بالموت كنفقة الأقارب والزكاة وغير ذلك ، وإلى هذا أشار محمد لأبي حنيفة أنه لو وجب الضمان على المريض ويؤخذ من تركته يكون هذا من مال الوارث ، والمعنى فيه أن الشرع جعل الثلث للمريض في حال مرض موته والثلثين للورثة قال النبي صلى الله عليه وسلم { : إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة على أعمالكم } وهكذا نقول في حالة الصحة : إنه يجب صلة ، ثم قد ينقلب معاوضة في حالة البقاء فإنه يثبت به الملك في المضمون في حق الإعتاق والاستسعاء ، كالهبة بشرط العوض أنه ينعقد صلة ثم ينقلب معاوضة وكذا الكفالة تنعقد تبرعا حتى لا تصح إلا ممن هو أهل التبرع ، ثم تنقلب معاوضة وإنما انقلبت معاوضة ; لأنه يوجب الملك في رقبة الغير مجازاة لصلته أو تحملا عن العبد ; لأن الضمان عليه في الحقيقة لحصول النفع له ثم له حق الرجوع في مالية العبد بالسعاية ، كما في الكفالة أن الكفيل يكون متبرعا في التحمل عن المكفول عنه ، ثم إذا صح تحمله وملك ما في ذمته بالأداء إلى المكفول له انقلبت معاوضة ، ألا ترى أن من قال في حال الصحة : ما كان لك على فلان فهو علي ، ثم كان له على فلان في مرضه فأخذ ذلك من المريض ، فإنه يعتبر من جميع المال لا من الثلث ويؤخذ من تركته ، ولو وجد ابتداء الكفالة في المرض يكون المؤدى معتبرا من الثلث ; فدل على التفرقة بين الفصلين ، وإن مات الشريك الذي لم يعتق ثبت الخيار لورثته فإن اجتمعوا على شيء من الإعتاق أو التضمين أو الاستسعاء وغير ذلك فلهم ذلك بلا خلاف ; لأنهم يخلفون الميت ويقومون مقامه ، وكان للمورث ذلك قبل موته فكذا لهم ، وإن انفردوا فأراد بعضهم الإعتاق [ ص: 94 ] وبعضهم التضمين ذكر في الأصل أن لهم ذلك ، وقال الحسن بن زياد : إنه ليس لهم ذلك إلا أن يعتقوا أو يستسعوا أو يضمنوا ، والظاهر أنه رواية عن أبي حنيفة ; لأن الإعتاق عند الحسن لا يتجزأ ، كما لا يتجزأ عند أبي يوسف ومحمد ; فلا يصح هذا التفريع على مذهبه ، وجه ما ذكر في الأصل أن نصيب الشريك قد بقي على ملكه عند أبي حنيفة لتجزيء الإعتاق عنده ، وقد انتقل نصيبه إلى الورثة بموته فصاروا كالشركاء في الأصل في العبد أعتق أحدهم نصيبه ، أن للباقين أن يختار كل واحد منهم ما يشاء ، كذا هذا وجه رواية الحسن أن الورثة انتقل إليهم ما كان للميت ، وما كان له أن يختار الضمان في البعض والسعاية في البعض ، فكذا لهم ; ولأن المستسعى بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة ومن كاتب عبده ثم مات ، ليس لورثته أن ينفردوا بأن يختار بعضهم الإعتاق وبعضهم التضمين وبعضهم الاستسعاء ، بل ليس لهم إلا أن يجتمعوا على شيء واحد إما العتق ، وإما الضمان كذا هذا ، ثم على رواية الحسن لو أعتق بعضهم ، كان إعتاقه باطلا ما لم يجتمعوا على الإعتاق ; لأن المستسعى كالمكاتب على أصل أبي حنيفة ، ولو مات المولى فأعتق بعض الورثة المكاتب ، كان إعتاقه باطلا ما لم يجتمعوا عليه كذا هذا ، فإذا اجتمعوا على عتقه يعتق بلا خلاف والولاء يكون للميت حتى ينتقل إلى الذكور من ورثته دون الإناث وهو فائدة كونه للميت ; لأن من أصل أبي حنيفة أن المعتق بعضه في معنى المكاتب ، والمكاتب لا ينتقل فيه بالإرث فكان ولاؤه للميت كذا هذا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية