المبحث الأول
مفهوم "سياسات إدارة الأزمة"
تعتبر نظرية التحدي والاستجابة، التي قدمها "آرنولد توينبي" كأساس لفهم ظاهرة نشأة وتطور الحضارات، من أوائل النظريات، التي تعرضت لمفهوم الأزمة، حتى وإن لم يرد فيها مصطلح الأزمة بهذا التعبير، وخلاصة هذه النظرية هي: أن الإنسانية تقابل ظروفا بيئية قاسية؛ فإن واجهوها بنجاح فإنهم سوف يتمكنون من إنشاء حضارة قوية ذات شأن، وإن هم فشلوا فإن نمو حضارة متقدمة في تلك البيئة عسير، كالصحراء في شبه الجزيرة العربية، وسوف لن يكلل بالنجاح أبدا. لهذا، فإن نمو حضارة من الحضارات أمر مرهون بمدى نجاح الناس في مواجهة التحدي [1] .
استـخدمت كلمة "أزمة" في القرن السـادس عشر في المعاجم الطبية، ثم تطـور اسـتخدام هذا المفهوم في القرن السـابع عشر، لتعني ارتفـاع درجـة التوتر في العلاقـات بين الكنيسـة (Church) والدولة (State)، وتم استخدام هذه الكلمة في القرن التاسع عشر للإشارة إلى لحظات وحالات تحول فاصلة في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. [ ص: 41 ]
وكذلك اسـتخدمت كلمـة "أزمـة" في بحـوث علـمـاء الطـب النـفسـي في إطار ما عرف بأزمة الهوية [2] .
- أولا: التعريف اللغوي:
الأزمة في معاجم اللغة العربية، تعني الشدة والقحط، و (أزم) عن الشيء أمسك عنه [3] . كما تدل كلمة (الأزمة وجمعها (أزمات) على الشدة والضيق كالحديث عن أزمة اقتصادية وأزمة سياسية [4] ، وهي تشير إلى حالة طارئة وموقف استثنائي مغاير، ومخالف لمجريات الأمور الاعتيادية، كما يأتي المصطلح "مأزم" وهو الطريق الضيق بين جبلين، ولم تكن كلمة أزمة شـائعة الاستعمال في الأدبيات العربية القديمة.
وقد التفت الباحثون العرب إلى هذه الكلمة بصورة بارزة لتكون ترجمة مباشرة للكلمة الإنجليزية (Crisis)، كما تطلق الأزمة على المصائب والابتلاءات، ومن ذلك قولهم: "وعلى قدر الأزمات يأتي الفرج" [5] . [ ص: 42 ]
واستخدم الصينيون منذ قرون الكلمة (Weiji) تعبيرا عن لفظ الأزمة، وهي كلمة مركبة تتضمن معنيين هما: الفرصة والخطر، بمعنى أن أي أزمة تنطوي على خطر يجب تجنبه، كما أنها تنطوي على فرصة يجب استغلالها [6] .
وتعني الأزمة في معـاجم اللغة الإنجـليزية، نقطة تحـول في المرض، أو في تطور الحياة، أو في التاريخ، والقلق من المسـتقبل، وتتطلب اتخاذ القرار المناسب خلال مدة زمنية محددة [7] .
- ثانيا: التعريف الاصطلاحي:
يشتق مصطلح الأزمة معناه من طبيعة المنظمة، وطبيعة الأفراد، وطبيعة البيئة، التي تتعلق بها الأزمة. ومصطلح الأزمة مشتق من الكلمة اليونانية (Krisis) والتي تعني: لحظة القرار (Moment of Decision) [8] .
كما يمكن تعريفها اصطلاحا بأنها: موقف تحذيري يتضمن مجموعة من المخاطر أهمها تصاعد شـدة الموقف.
كما يمكن تعريفها بأنها: موقف يواجهه الأفراد أو الجماعة أو الدولة، ويكونون غير قادرين على أن يتغلبوا عليه باسـتخدام الإجراءات العادية الروتينية، مما يؤدي إلى توليد ضغط عمل (Stress) نتيجة التغيير المفاجئ (Sudden Change). [ ص: 43 ]
وهناك تعريفات متعددة للأزمة، تختلف باختلاف الحقل المعرفي ومجال التخصص، ومن أهم هذه التعريفات:
1- في مجال علم الإدارة:
يمكن تعريف الأزمة في المصـطلح الإداري، بالنظر إلى آثارها، بأنها تهديد خطير يمكن أن يعصـف بأهداف وقيم ومعتقدات وممتلكات الأفراد أو المنظـمات والـدول، سـواء أكان الخطر متوقـعا أم غير متوقع [9] .
وهي كذلك، لحظة حرجة وحاسمة تهدد مصير الجهة، التي تتعرض لها، وتضع صعوبات كبيرة أمام صانع القرار في ضوء زيادة مستوى حالة عدم التأكد، وعدم توافر الكم والنوع الكافي من المعلومات.
وهناك مؤشرات للأزمة، ومنها إنها موقف يتسم بالتعقيد والتشابك، يتضمن تهديدا، وتتضارب ضمن هذا الموقف مجموعة من العناصر المتعارضة، وتزداد درجة التعقيد والتضارب بتصاعد الأزمة وتفاعل صناع القرار معها، وتتلاحق فيها الأحداث وتتشابك الأسباب والنتائج.
ويزداد الأمر سوءا إذا ضاعت وضعفت قدرة صناع القرار على السيطرة على ذلك الموقف واتجاهاته المستقبلية.
فهي حالة تتضمن حصول تغييرات في الأسباب، تؤدي إلى حدوث تغييرات حادة ومفاجئة في النتائج، وتنجم هذه الحالة عن مجموعة متراكمة من الأحداث، وصولا إلى حالة من الاحتقان والتوتر والانفجار. [ ص: 44 ]
2- في مجال علم النفس:
الأزمة حالة من التوتر وعدم الاستقرار، يصاب بها الفرد أو المجتمع، حيث يتكون المجتمع من ثلاثة أبنية: اقتصادي، واجتماعي، ونفسي، فالمسيرة المتوازنة للأبنية الثلاثة، تتفادى الأزمات، ولكن اختلالها يؤدي إلى صنع الأزمات [10] .
من ذلك، فإن المفهوم النفسي للأزمة يعني حالة من الاضطراب، التي يواجه الأفراد فيها إحباطا لأهدافهم المهمة، أو يواجهون تمزقا كبيرا لجانب أو أكثر من جوانب الحياة، التي يعتمدونها في مواجهة الضغوط، التي تنشأ في بيئتهم [11] .
فالأفراد خلالها، يواجهون معيقا أساسيا لأهدافهم الرئيسة في الحياة، ويكون من الصعب تذليل هذا المعيق، باستخدام الأساليب المتعارف عليها لمواجهة المشكلات وحلها، ويترتب على هذه الحالة، حقبة زمنية من اختلال التوازن والاضطراب، يقوم الأفراد في ظلها بمحاولات متعددة لحل الأزمة.
وتترك الأزمـات آثارا نفسـية على المتضـررين منها باختلاف نوع وطبيعة الأزمة وشدتها [12] ؛ مثل الاكتئاب، والهستيريا، والمخاوف المرضية [13] والتي قد تؤدي إلى أمراض عضوية تؤدي إلى الموت. [ ص: 45 ]
3- في مجال علم السياسة:
يقصد بالأزمة السياسية موقفا سياسيا مفاجئا غير متوقع، يشكل بالنسبة للقائد السياسي تهديدا أساسا للأهداف القومية، مع وجود فترة زمنية محدودة لاتخاذ القرار.
وقد ظهر مفهوم الأزمة في علم السياسة، باعتباره علم إدارة الدولة؛ وهو ما تجلى من خـلال تبني الأجهزة الحـكومية والمنظـمات العامة لإنجاز ما يسمى بقوة المهام الخاصة (Task Force) أو غرفة العمليات (Operation center) لإدارة المشاكل الحادة [14] .
كما تعني الأزمة في علم السـياسة، تداعيا سـريعا للأحداث، يؤدي إلى تنشيط عناصر عدم الاسـتقرار في النظام الدولي على نحو غير مألوف، مما يزيد من احتمالات اللجوء إلى العنف.. وتشير كذلك، إلى وضع خارجي عارض يتضمن عنصر المفاجأة، وينطوي على توتر أو مشكلة داخلية أو دولية، تحتاج إلى سرعة المواجهة السياسية على مستوى العلاقات الدولية والإقليمية لتجنب آثارها أو التخفيف من حدتها.
ومفهوم الأزمة لا ينحصر في السياسات الدولية أو علاقات الدول ببعضها أو في القطاع العام أو الخاص فقط، وإنما يمتد ليشمل جميع أوجه الحياة، التي تتطلب قرارا تنتج عنه مواقف جديدة، سلبية أو إيجابية [15] . [ ص: 46 ]
4- في مجال علم الاقتصاد:
تعرف الأزمة الاقتصادية بأنها، الانقطاع المفاجئ في مسيرة المنظومة الاقتصادية، مما يهدد سلاسة الأداء المعتاد لها والهادف إلى تحقيق غايتها.
وكذلك تعرف على أنها قصـور الموارد بالنـسبة للاحتياجات في فترة ما، أو قصور الإنتاج عن تلبية متطلبات الاستهلاك [16] .
5- في مجال العلم العسكري:
تعني، أحد المتغيرات السلبية، التي تضر بالأمن في منطقة ما، خلال فترة زمنية محددة، كالحوادث والظواهر الإجرامية، كما إنها وضع سياسي عارض، يتطلب التصعيد إلى استخدام القوة أو التلويح بها، للتأثير على موقف الأطراف الأخرى وردعها أو للدفاع عن النفس.
6- في مجال علم الاجتماع:
يقصد بها اختلال نظام القيم والتقاليد، إلى درجة تقتضي التدخل السريع لمواجهته، وإعادة التوازن للنظام، حتى يتلاءم مع التغيير الناجم عن تطور المجتمع، كما إن الأزمة الداخلية هي تفاعل ناشئ بين مدى توفر الحاجات الأساسية للشعب والحرية المكفولة له [17] . [ ص: 47 ]
مما سـبق يتضـح؛ أن الأزمة وإن كانت لها جوانب وظروف تبدو في أوقات كثيرة مادية، إلا أنها في حقيقتها وجوهرها ظاهرة إنسانية تصيب الفرد والمجتمع، وتختلف نتائجها بحسب مدى إمكانية التحكم فيها، والسيطرة عليها من قبل القادة ومتخذي القرار.
ورغم المحاولات السابقة، إلا أن تعريف مفهوم الأزمة ظل مفهوما يتسم بالصعوبة [18] ، حيث كثيرا ما يتم الخلط بين المقصود بالأزمة، والمشكلة، والكارثة [19] . وتكمن الصعوبة في تحديد مفهوم الأزمة، في شمولية طبيعتها واتساع نطاق اسـتعمالها، لتشمل مختلف صور العلاقات الإنسـانية في كافة مجالات التعامل أو على تعدد مستوياته [20] .
- ثالثا: التعريف الإجرائي: الأبعاد والمؤشرات:
1- أبعاد الأزمة وسماتها:
عرف بعض الباحثين الأزمة بأنها مرحلة من الاضطراب والارتباك، الذي يحدث في مسـار النمو الطـبيعي للنظام.
فالأزمة الاقتصـادية تشـير إلى مرحلة من التدهور، الذي يصيب معدلات التنمية بعد فترة طويلة من الاستقرار. كذلك تتضـمن الأزمة مفهوم الطوارئ [ ص: 48 ] (Emergency) حيث يواجـه النظام تهديدات تفرض عليه مشـكلات جديدة، وتتطلب حلولا فورية [21] .
كذلك، فإن ضـيق الوقـت يعد من أهم السـمات المرتبطة بالأزمة والتي ترفع مستوى عدم اليقين (Uncertainty).
كما تؤدي الأزمة إلى تغيير في النظام السياسي وما يصدر عنه من سياسات، نظرا لما تتسم به من سمات على النحو التالي [22] : عنصر المفاجأة، والإضرار بمصالح قوى اجتماعية رئيسية أو تهديدها، وتؤثر الأزمة على الهياكل والأبنية المؤسسية (مما يدفع للإصلاح).
ويعد نظام الحكم الجيد (Governance) أساس إصلاح السياسات العامة؛ وتتعلق الأزمة بأسس وركائز الشرعية.
وقد تؤدي الأزمة إلى ظهور تحالفات سـياسية تتبنى وتؤيد مطلب التغيير، ويأتي عنصـر القيـادة الحـزبـيـة القـويـة على رأس تلك التحـالفـات، وخـصـوصـا في النظم البرلمانية، والعكس صحيح، بمعنى أن تغيير النظام السياسي والسياسات العامة بعد الأزمة، يصبح أقل احتمالا إذا ظهرت جماعات مصالح وقيادات مقاومة للإصلاح تجد في التغيير خطرا عليها. [ ص: 49 ]
2- مثلث الأزمة:
اتفق معظم العلماء والباحثين على التعريف الثلاثي للمفكر "تشارلز هيرمان" من مدرسـة صنع القرار والمعروف باسـم "مثلث الأزمة" والذي يقول: إن الأزمة هي:
موقف مفاجئ، أو(المفاجأة) (Surprise)، ينطـوي على درجـة عالية من التهديد (Serious Threats) للأهداف والقيم والمصالح (للأطـراف)، ويـدرك فيه صـانع القرار أن الوقت المتـاح لصـنـع القـرار واتخاذه، ضيق (Limited) أو قـصـير وغـير كاف لاتخـاذ التـدابير اللازمـة لهـذا المـوقف، على أن يـكون في إطـار من نقـص أو غموض المعلومات (Lack of Information)،
فمثلث الأزمة، كأسلوب للتعريف يتميز بالوضوح والبساطة والدقة، ويتضمن مقومات وخصـائص أسـاسية للأزمة يمكن من خلالها تمييزها عن أي حدث آخر، مع إمكانية تطبيقه على كافة أنواع الأزمات في مختلف المجالات، ولهذا فهو أكثر التعريفات شيوعا.
- المفاهيم المرتبطة بمفهوم الأزمة:
هناك مجموعة من المفاهيم، التي ترتبط بمفهوم الأزمة وتتداخل معه، ويعتبرها البعض مترادفات، بينما يحرص البعض الآخر على التمييز وعدم الخلط بينها وبين مفهوم "الأزمة" محل الدراسة، مثل مفاهيم: "المصيبة"، و"النكسة"، التي تطول مدة المعاناة من آثارها، و"النكبة"، و"الكارثة"، وهي وفق تعريف المنظمة الدولية للحماية المدنية: [ ص: 50 ]
"حادث كبير ينجم عنه خسـائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، وقد تكون طبيعية مردها خارجا عن إرادة الإنسان، وقد تكون اصطناعية أو فنية مردها فعل الإنسـان، سواء كان إراديا، أو لا إراديا، وتتطلب مواجهتها معونة تقدمها الحكومة الوطنية، أو يتم تقديمها على المستوى الدولي إذا كانت قدرة مواجهتها تفوق القدرات الوطنية" [23] .
كما تعني الكارثة: خللا مفاجئا يصيب المجتمع، ويكون هناك احتمال كبير للتعرض لأخطار شديدة، وهي تحتاج إلى تعبئة جهود عظيمة لمواجهتها (دعم خارجي؛ كافة أجهزة الدولة؛ المنظمات الإقليمية؛ والدولية؛ وغيرها من لاعبين، سواء حكوميين أو غير حكوميين) [24] .
ومن المفاهيم، التي تؤدي لحـدوث الأزمات، مفهوم "الصراع"، الذي قد ينطوي على استخدام القوة العسكرية.
وبالإضافة إلى العناصر المتضمنة في "مثلث الأزمة" كالمفاجأة، وضيق الوقت، والتهديد، وندرة وغموض المعلومات، تسود حالة من الخوف والقلق تحسـبا للنتائج، التي قد تنجم عن الأزمة (خسـائر؛ انهيار كيان المؤسـسـة، التي نشبت بها؛ اهتزاز هيبة متخذ القرار؛ تصاعد الأزمة واتساع نطاقها ليمتد إلى مجالات أخرى) .. الخ. [ ص: 51 ]
يضاف إلى ذلك مفهوم "الصدمة"، حيث تؤدي لحظة البداية الفعلية للأزمة إلى صدمة ودرجة عالية من التوتر، مما يضعف ويعرقل إمكانيات وقدرات صانع القرار على المواجهة.
وبطبيعة الحال، فإن التعدد في المستويات والأبعاد، وإمكانية انتشار الأزمة إلى مجالات أخرى أو اتسـاع نطـاقـها الجغرافي يظهر جوانب تعقد الأزمة، كما يبين أهمية تأثير متخذ القرار في إدارتها.
- رابعا: التعريف بمفهوم إدارة الأزمة:
يعكس مفهوم "إدارة الأزمـة" الارتباط الوثيق بين مفهـوم الأزمة من جانب ومفهوم الإدارة من جانب آخر، حيث يمكن تعـريف المفهوم من خلال تقسيمه إلى شقين:
الشق الأول: تعرف الإدارة في جذرها اللغوي: بأنها جعل الشيء يدور، ومن استعمالها بهذا المعنى ما جاء في صحيح مسلم باب: "استحباب إدارة الماء واللـبن ونحـوهما عن يمين المبتـدى"، عن أنس بن مـالكt أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شـيب بماء وعن يمينه أعرابي، وعن يسـاره أبو بكـر، فشـرب ثم أعطى الأعرابي، وقال: ( الأيمن فالأيمن )
وكذا نقول: أدار الرحى، أي حركها، وأدار محرك العجلة أي جعلها تدور، ثم أطلق وصف الإدارة على تحريك جهد جماعي نحو هدف محدد [25] . [ ص: 52 ]
والإدارة في الاصـطـلاح: هي اسـتخدام جـهـد مشـترك لتحـريـكه نحو هدف.
وهكذا، فالإدارة تفترض وجود جهد جماعي، فلا يوصف العمل الفردي بصفة الإدارة، إذ المدير يتولى تنفيذ الأهداف عن طريق توجيه فريق العمل. كما إن الإدارة تتعامل مع الناس، فلا يوصف التعامل مع الآلات والجمادات بأنـه عمل إداري، إلا إذا كان له صـلة بالنـاس، ويريد توجـيـه جـهودهـم نحو هدف ما.
وعملية الإدارة هي تهيئة الظروف المناسبة لتحقيق الأهداف بتوجيه فريق العمل، وإعداد الكوادر المؤهلة، ثم التدبير للتنفيذ.
والشق الثاني: إدارة الأزمة، هو اصطلاح نشأ في الأصل في إطار الحديث عن إدارة الدولة، للإشارة إلى دور الدولة في مواجهة الكوارث المفاجئة والطوارئ مثل: الزلازل، والفيضانات، والأوبئة، والمجاعة، والحروب، وبعد ذلك، نما المصطلح بصورة أوضح في مجال العلاقات الدولية، للإشارة إلى أسـلوب إدارة السياسة الخارجية في مواجهة الأزمات الدولية [26] .
ويتم تعريف المصطلح في علم العلاقات الدولية، بأنه: عملية الاستجابة لما تحمله الأزمة من تهديدات وظروف طـارئة من خلال اتخاذ قرارات ملحة، في ظل نقص المعلومات. [ ص: 53 ]
وبناء على ما سبق، تعتمد إدارة الأزمة على نوع وحجم التهديد، فمثلا، الأزمة الاستراتيجية، تختلف عن التحديات الإجرائية أو التكتيكية، التي تواجه القيادة في الظروف العادية. فإلى جانب محاولة التقليل من أضرارها الاجتماعية والسـياسية، يصبح على القيادة مهمة إعادة الثقة في قدرة النظام على مواجهة أي أزمات جديدة في المستقبل [27] .
وتعتبر إدارة الأزمات منهجـا إداريا للتعامل مع ظـروف الأزمـات، والاسـتعداد والتخطيـط لمواجهتها، وهو أسـلوب يعتمد بالدرجة الأولى على القدرة التنبئية لتوقع الأزمات، ووضع سيناريوهات لها من خلال فحص وتشخيص مواطن الضعف في التنظيم الإداري، ووضعها تحت الرقابة الدقيقة تحسبا لانفجارها.
مما سبق، فإن مفهوم "إدارة الأزمات" يتمحور حول:
التخطيط الدقيق لتفادي العديد من المخاطر، من خلال فن القضاء على تفاقم وتضخيم الأزمة، باتباع الخطوات الإجرائية السـريعة والحاسـمة، التي تتخذها المنظـمات والمؤسـسات لتفادي الوقوع في الأزمة، مع أهمية افتراض أسـوأ سـيناريو من الممكن أن يحدث، والتخطيط لتفادي الوقوع في الكوارث [28] . [ ص: 54 ]
- خامسا: سياسات إدارة الأزمة:
تزخر أدبيات إدارة الأزمة بما يشبه تقديم "وصفات" حول أفضل الممارسات والأساليب في إدارة الأزمة فيتحدث (W.Timothy Coombs) عن أهمية الاعتماد على وسائل الاتصال، ويشير إلى [29] :
ضرورة وضع خطة، وتشكيل فريق، ووجود متحدث رسمي يتولى مخاطبة الرأي العام وصياغة الرسائل الاتصالية والإعلامية أثناء الأزمة، مع استخدام قنوات الاتصال والإعلام المتاحة، بداية من الصحافة ومرورا بالتلفاز، حتى أحدث الوسائل كمواقع الإنترنت (الشبكة الدولية للمعلومات).
من التعريفات السابقة، يمكن تحديد مفهوم "إدارة الأزمة" بأنه:
عملية توجيه وتحريك الأفراد من خلال تهيئة الظروف والإمكانات لإيجاد آلية اتخاذ القرارات المناسبة والسريعة من ضمن بدائل متعددة، وهو ما يتم، بواسطة قيادة قادرة وفاعلة، تقوم بصياغة السياسات المناسبة لحل الأزمة.
- سادسا: أهمية دور القيادة في إدارة الأزمة:
تحت عنوان: "الاستجابة للأزمة والتعامل" معها يقسم الباحث (Timothy) [30] عملية إدارة الأزمة لمرحلتين، حيث يميز بين مرحلة رد الفعل المباشر أولا، ومرحلة المعالجة وتصحيح السمعة، أي إعادة بناء الثقة ثانيا. [ ص: 55 ]
ويتناول قضية "المسؤولية"، فيميز بين أزمات محدودة تنجم عن كوارث طبيعية أو حوادث أو أخطاء فنية أو عنف غير مقصود، حيث تعد مسؤولية القيادة السـياسية محدودة، بينما تزداد المسـؤولية في حالة الأخطاء البشـرية، أو سـوء الأداء، أو انتهاك القانون، وفي كل المراحل السـابقة، بما فيها مرحلة ما بعد الأزمة (Post-crisis)، يؤكد (Timothy) على أهمية مشـاركة الأطراف المعنية وأصحاب المصالح (Stake holders) مع القيادة في عملية صنع القرار والفرز والاختيار بين البدائل.
وهكذا ترتبط الإدارة الكفـؤة للأزمة بكل من مفهوم القيادة السـياسية ومفهوم الحكم الراشـد، حيث تلتقي الأبعاد الثـلاثة حول أهمية "المشاركة" الديمقراطية في صنع القرار.
ولا يختلف هذا المفهوم كثيرا عن مبدأ الشـورى في الإسلام.
لقد ارتبط مفهوم إدارة الأزمة بعنصر القيادة السياسية ارتباطا تلازميا، وصانع السياسة عندما يستجيب بكفاءة للأزمة، فإنه يقلل من حجم الضرر لأدنى درجة ممكنة، بينما تتضاعف الأزمة إذا فشلت القيادة في إدارتها.
ففي أوقات الأزمات يزداد تعلق المواطنين بقياداتهم على كافة المستويات بدءا من الرؤساء ومرورا بالقيادات المحلية، والسياسيين المنتخبين، ومديري الإدارات، ووصولا لموظفي الخدمة العامة والبيروقراطية، حيث يتوقع منهم، بوصفهم صانعي قرار، مواجهة التحديات والتهديدات أو على الأقل التقليل من حجم الخسارة الناجمة عن الأزمة، وبالتالي، فهؤلاء هم الأقدر على الخروج [ ص: 56 ] بمجتمعاتهم من الأزمة، وكذلك، فإن عليهم شـرح ما حدث، وتوضـيح أين يكمن الخطأ، وطمأنة الناس بأن الأزمة لن تحدث مجددا في المستقبل [31] .
كما تشير الأدبيات إلى خمس مهام رئيسة ترتبط بدور القيادة في إدارة الأزمة، وهي:
الإدراك، وصنع القرار، والشرح والإقناع، ووضع نهاية للأزمة، والتعلم واستخلاص الدروس المستفادة، وهي مهام متكاملة، وتعد أساسا لما سيبنى عليها من استراتيجيات وسـياسات للإصلاح، ولذلك، يعد القيام بها بمثابة اختبار للقيادة السـياسية، ومدى توفر معـايير الحكم الراشـد.
فإدارة الأزمات تحتاج لمبادرات حاسمة ولقرارات سريعة تتفق مع خطورة الموقف المتأزم، ليكون لإدارة الأزمة عبر قيادة رشـيدة وفاعلة، زمام المبادأة في إدارة الأحداث ومحاولة الخروج منها بأقل الخسائر.
والأزمـة، هي الـتي تبين مـدى مهـارة وإمـكانيات القـيـادة في إدارتـها، مع إمكانيـة تحـويل الأزمـة وما تحمله من مخـاطر إلى فرص لتغيير السـياسات العـامة [32] . [ ص: 57 ]
ومن سمات الأزمة التعقيد الشديد، مما يتسبب في سوء الفهم، وسوء الإدراك حول أسباب وأبعاد تلك الأزمة، وبالتالي الأسلوب الأمثل لإدارتها.
كذلك، يعد التنبيه المبكر بالأزمات في حكم المستحيل بصفة عامة، فمثلا انفجار "بركان ايسلندا" في نهاية فصل الربيع لعام2010م، كان خارج نطاق التوقع، مما يفتح باب الخطأ في إدراك الموقف، فجاءت ردود أفعال سلطات النقل الجوية في أغلب الدول الأوروبية على نحو مبالغ فيه، لترجيح الاعتبارات المتعلقة بالسلامة والأمن، وهو ما تسبب في خسائر مادية ضخمة تكبدتها شركات الطيران.
وتعد الأزمة لحظة كاشفة، حيث تلقي الضوء على بعض أوجه القصور الموجودة في أداء النظام، مثلما يحدث في كثير من الدول النامية على أثر حدوث كوارث طبيعية كالزلازل والسيول، فبخلاف الظاهرة الطبيعية ذاتها، تكشف الخسائر الإنسانية الفادحة عن أوجه الفساد أو سوء الإدارة الكامنة في بعض الأنظمة.
وفي أحد المؤلفات الصـادرة من جـامعـة كمـبردج بعنـوان: (The Politics of Crisis Management, Public Leadership under Pressure) أو: (سياسة إدارة الأزمات، القيادة العامة تحت الضغط)، لمجموعة من المؤلفين، يشير أحد الكتاب لأهمية العلاقة بين إدارة الأزمة والسياق السياسي المحيط، [ ص: 58 ] ومدى كونه نظاما ديمقراطيا، حيث إن الديمقراطية تفرض قيودا على قدرة القيادة في اتخاذ ما تراه من قرارات سـوف تكون محلا للرقابة والنقد من جانب الصحافة الحرة والإعـلام المفتوح والمعـارضـة الحـزبية، وفي ظل مبادئ المسـاءلة، والمحاسـبة، وحكم القـانون، التي يجب على القـيادات أخـذها بعين الاعتبار، فإذا كانت إدارة الأزمة في حد ذاتها مهمة صـعبة، فإنها تصبح أصعب في سياق يتسم بالديمقراطية [33] .
كما يتحـدث المؤلفون [34] عما أسـموه: "ثـقافة الخـوف" (Culture of fear)، التي أصبحت الثقافة السائدة في المجتمعات الغربية الحديثة والتي يطلق عليها تعبير "مجتمع المخاطر" (Risk society).
وهكذا لم تعد إدارة الأزمة، كمفهوم، تتعلق فقط بقدرات المؤسـسات الحـكومية أو بالسـياسات العامة، ولكنها أصبحت نشاطا سـياسيا أوسـع من ذلك، مما يزيد من الضغوط، التي تقع على القيادة السياسية وتثير قضايا القوة، والصراع، والشرعية. [ ص: 59 ]
وإلى جانب مفهوم "إدارة الأزمة"، والاهتمام بتعـريفه، اهتم البـاحثون كذلك بمفاهيم أخرى ذات صلة، مثل: مفهوم "دورة حياة الأزمة" (Crisis management cycle)، الذي يتعلق بأفضل أسلوب لدراسة الأزمة عبر تقسيمها إلى مراحل أربع هي:
مرحلة الوقاية (Prevention) وتعني تقليل المخاطر، وتقييم التهديد، وتوقع المستقبل؛
ومرحلة الاستعداد (Preparation) وتعني التخطيط، ومحاكاة الظروف، والتدريب، والتعليم؛
ومرحلة الاستجابة (Response) أي العمل تحت الطوارئ، وإعادة حشد الموارد، والاتصال؛
ومرحلة تجاوز الأزمة (Recovery) وتشمل التحليل، والاستشارة، والبحث، والمساءلة، والتعلم [35] . [ ص: 60 ]