[ ص: 30 ] باب مواريث أهل الكفر ( قال رضي الله عنه ) : اعلم بأن بالأسباب التي يتوارث بمثلها المسلمون فيما بينهم ، وقد يتحقق فيما بينهم جهات للإرث لا يرث بها المسلمون من نسب أو سبب أو نكاح ولا خلاف أنهم لا يتوارثون بالأنكحة التي لا تصح فيما بين المسلمين بحال نحو نكاح المحارم بنسب أو رضاع ونكاح المطلقة ثلاثا قبل زوج آخر ويختلفون في الكفار يتوارثون فيما بينهم ، فقال التوارث بحكم النكاح في العدة والنكاح بغير شهود : لا يتوارثون بهما ، وقال زفر رحمه الله : يتوارثون بهما ، وقال أبو حنيفة أبو يوسف رحمهما الله : يتوارثون بالنكاح بغير شهود ولا يتوارثون بالنكاح في العدة ، وهو بناء على اختلافهم في تقريرهم على هذه الأنكحة إذا أسلموا ، وقد بينا ذلك في كتاب النكاح ، ثم لا خلاف أن الكافر لا يرث المسلم بحال . ومحمد
وكذلك في قول أكثر الصحابة ، وهو مذهب الفقهاء وروي عن لا يرث المسلم الكافر معاذ رضي الله عنهما قالا : يرث المسلم الكافر لقوله عليه الصلاة والسلام { ومعاوية } وفي الإرث نوع ولاية للوارث على المورث فلعلو حال الإسلام لا تثبت هذه الولاية للكافر على المسلم وتثبت للمسلم على الكافر ، ولأن الإرث يستحق بالسبب العام تارة وبالسبب الخاص أخرى ، ثم بالسبب العام يرث المسلم الكافر فإن الإسلام يعلو ولا يعلى يرثه المسلمون ولا يرث المسلم الكافر بالسبب العام بحال فكذلك بالسبب الخاص والدليل عليه المرتد فإنه يرثه المسلم ولا يرث المرتد من المسلم بحال والمرتد كافر فيعتبر به غيره من الكفار ، وقال عليه السلام { الذمي الذي لا وارث له في دار الإسلام } يعني يزيد في حق من أسلم ولا ينقص شيئا من حقه ، وقد كان مستحقا للإرث من قريبه الكافر قبل أن يسلم فلو صار بعد إسلامه محروما من ذلك لنقص إسلامه من حقه وذلك لا يجوز وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام { الإسلام يزيد ولا ينقص } والكلام من حيث الاستدلال أن الله تعالى قال { لا يتوارث أهل ملتين بشيء لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } هذا بيان نفي الولاية من الكفار والمسلمين فإن كان المراد به الإرث فهو إشارة إلى أنه لا يرث المسلم الكافر ، وإن كان المراد به مطلق الولاية فقد بينا أن في الإرث معنى الولاية ; لأنه يخلف المورث في ماله ملكا ويدا وتصرفا ومع اختلاف الدين لا تثبت الولاية لأحدهما على الآخر ألا ترى أنه تبقى الولاية بين من هاجر وبين من لم يهاجر حتى كانت الهجرة فريضة ، فقال { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } .
[ ص: 31 ] فدل ذلك على نفي الولاية بين الكفار والمسلمين بطريق الأولى ، وهو الكلام من حيث المعنى فإن الإرث نوع ولاية فالسبب الخاص كما لا يوجب الولاية للكافر على المسلم لا يثبت للمسلم على الكافر يعني ولاية التزويج بسبب القرابة وولاية التصرف في المال وبه فارق التوريث بالسبب العام فإن الأولية بالسبب العام تثبت للمسلم على الكافر كولاية الشهادة والسلطنة ولا تثبت للكافر على المسلم بحال فكذلك التوريث ، وهذا بخلاف المرتد فالإرث للمسلم منه يستند إلى حال إسلامه ، ولهذا قال رضي الله عنه : إنه يورث عنه كسب إسلامه ولا يورث عنه كسب الردة ، ولهذا لا يرث هو من المسلم ; لأنه لا يتحقق معنى الاستناد في جانبه أو لا يرث هو عقوبة له على ردته كما لا يرث القاتل بغير حق من المقتول شيئا ، ثم المرتد غير مقر على ما اعتقده بل هو مجبر على العود إلى الإسلام فيبقى حكم الإسلام في حقه فيرثه وارثه المسلم باعتبار هذا المعنى ولا يرث هو من أحد شيئا ; لأن حكم الإسلام إنما يعتبر في حقه فيما لا ينتفع هو به دون ما ينتفع به والمراد بقوله عليه السلام { أبو حنيفة } العلو من حيث الحجة أو من حيث القهر والغلبة فيكون المراد أن النصرة في العاقبة للمؤمنين . الإسلام يعلو ولا يعلى
وأما الحديث الآخر قلنا عندنا نفي التوريث يكون محالا به على كفر الكافر ; لأنه خبيث ليس من أهل أن يجعل المسلم خلفا له فلا يكون هذا النقصان محالا به على إسلام المسلم كالزوج إذا يفرق بينهما ; لأنها خبيثة ليست من أهل أن يستفرشها المسلم إلا أن يكون إسلامه مبطلا ملكه ، ثم أهل الكفر يتوارثون فيما بينهم ، وإن اختلفت مللهم فاليهودي يرث من النصراني والنصراني من المجوسي والمجوسي منهما عندنا ، وهكذا ذكر أسلم وامرأته مجوسية في المختصر عن المزني ، وروى بعض أصحاب الشافعي أنهم لا يتوارثون إلا عند اتفاق الاعتقاد ، وهكذا رواه الشافعي ابن القاسم عن وقال مالك ابن أبي ليلى اليهود والنصارى يتوارثون بينهم ولا يرثهما المجوسي ولا يرثان من المجوسي شيئا فمن قال لا يتوارثون استدل بقوله عليه السلام { } وهم أهل ملل مختلفة بدليل قوله تعالى { لا يتوارث أهل ملتين بشيء والذين هادوا والنصارى } ، وإنما يعطف الشيء على غيره لا على بعضه فكما أن عطف اليهود على المسلمين دليل على أنهم أهل ملتين فكذلك عطف النصارى على اليهود قال الله تعالى { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } ومعلوم أن اليهود لا ترضى إلا بأن يتبع اليهودية معهم والنصارى كذلك فعرفنا أن لكل واحد من الفريقين ملة على حدة ، ولأن النصارى يقرون بنبوة عيسى عليه السلام والإنجيل واليهود يجحدون ذلك فكان ملة كل [ ص: 32 ] واحد منهما غير ملة الآخر كالمسلمين مع النصارى فإن المسلمين يقرون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فكانت ملتهم غير ملة النصارى وبه فارقوا أهل الأهواء ; لأنهم يتفقون على الإقرار بالرسل والكتب ، وإنما الاختلاف بينهم في تأويل الكتاب والسنة فلا يوجب ذلك اختلافا في الملة فيما بينهم ، وقد يوجد مثل ذلك فيما بين النصارى كالنسطورية والملكانية واليعقوبية وفيما بين اليهود أيضا كالفرعية والسامرية وغير ذلك .
وأما ، فقال : إن ابن أبي ليلى اليهود والنصارى اتفقوا على دعوى التوحيد ، وإنما اختلفت نحلهم في ذلك واتفقوا على الإقرار بنبوة موسى عليه السلام والتوراة بخلاف المجوس فإنهم لا يدعون التوحيد ، وإنما يدعون الاثنين يزدان وأهرمن ولا يقرون بنبوة موسى ولا بكتاب منزل ولا يوافقهم اليهود والنصارى على ذلك فكانوا أهل ملتين والدليل عليه حل الذبيحة والمناكحة فإن اليهود والنصارى في ذلك كشيء واحد بخلاف المجوس وحجتنا في ذلك أن الله تعالى جعل الدين دينين الحق والباطل ، فقال الله عز وجل { لكم دينكم ولي دين } وجعل الناس فريقين فقال فريق في الجنة وهم المؤمنون وفريق في السعير ، وهم الكفار بأجمعهم وجعل الخصم خصمين ، فقال جل جلاله { هذان خصمان اختصموا في ربهم } يعني الكفار أجمع مع المؤمنين والدليل عليه أنا نسلم أنهم فيما بينهم أهل ملل فيما يعتقدون ولكن عند مقابلتهم بالمسلمين أهل ملة واحدة ; لأن المسلمين يقرون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وهم ينكرون ذلك بأجمعهم وبه كفروا فكانوا في حق المسلمين أهل ملة واحدة في الشرك ، وإن اختلفت نحلهم فيما بينهم .
وكذلك من يعبد منهم صنما ومن يعبد صنما آخر ويكفر كل واحد منهم صاحبه فهم أهل ملة واحدة ، وإن اختلفت نحلهم فكذلك الكفار بأجمعهم وكانوا في هذا كأهل الأهواء من المسلمين ، وفي قوله عليه السلام { } إشارة إلى ما بينا فإنه فسر الملتين بقوله لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ففي تنصيصه على الوصف العام في موضع التفسير بيان أنهم في حكم التوريث أهل ملة واحدة وحل الذبيحة والمناكحة لا يقوي الاستدلال بها فإن المسلمين مع لا يتوارث أهل ملتين اليهود والنصارى استووا في حكم حل الذبيحة والمناكحة ، ثم لم يكن دليل على اتفاق الملة بينهم فكذلك اختلاف المجوس مع أهل الكتاب في حل الذبيحة والمناكحة لا يكون دليلا على اختلاف الملة فيما بينهم ، وكان المعنى فيه أن شرط حل الذبيحة تسمية الله تعالى على الخلوص والكتابي من أهل ذلك ; لأنهم يظهرون دعوى التوحيد ، وإن كانوا يضمرون في ذلك بعض الشرك فلتحقق وجود الشرط [ ص: 33 ] في حقهم حلت ذبائحهم بخلاف المجوس فإنهم لا يدعون التوحيد فلا تصح منهم تسمية الله تعالى على الخلوص ، وهو شرط الحل ، ثم ينقطع التوارث فيما بينهم بسبب اختلاف الدار حقيقة وحكما